أدب الرفق بالأعصاب . ( 2 ) أو فن تحقيق الربح . 14th March 2005 |
ألأعصاب ! وما أدراك ما الأعصاب ! إن نحن بحثنا في المكونات البشرية البيولوجية والشعورية ، وسعينا الى كشف المستور من أبواب التمييز، وفصل المرئي من عناصر التمازج بينهما ، فلقد يتبين لنا أن الأعصاب من أقرب الكثيف الى اللطيف ، في ما يكوّن هذا المخلوق البديع الذي نسميه إنسانا . بل هي أقربها على الإطلاق . والمتعامل في أسواق المال ، هو أشدّ الممتهنين لأية تجارة أخرى حاجة لإدراك هذه الحقيقة ، والغوص في أعماقها ، والعمل على تدريب طباعه ، لتكون أكثر تناغما مع حقائقها ، واستفادة من مسلّماتها . ما من شكّ على الإطلاق ، في كون كل متعامل في هذا السوق يسعى من خلال تجارته الى تحقيق ربح ، وتسجيل نصر ، وإدراك فوز . ولا يختلف امرؤ مع امرئ على كون الربح مبعثا للّذة ، ومصدرا للفرح ، ومنبعا للسعادة ، يستلذه كل من حققه ، ويفرح به ، ويسعد لامتلاكه . ومن لم يظفر بتحقيق مراده ، فما نصيبه الا النقيض : ألم ومرارة وشعور بالإنخداع . هنا بدأت لعبة الأعصاب ، وإن هي بدأت ، فلن يكون لنهايتها من مجال .
وإن بدأت لعبة الأعصاب ، فلن يكون من السهل بلوغ المراد ، ولن يكون من المستساغ تذوق لذة الإنتصار . وكيف يمكن منع لعبة الأعصاب ، والحؤول دون انطلاقتها ؟ وهل لهذا من سبيل ؟ أنا ، علمتني الأيام انه ما من سبيل الى تحقيق أي ربح في هذا السوق ، إلا بعد إقفال كل الأبواب ، أو معظمها ، على لعبة الأعصاب المؤذية ، وكرّة الإنفعالات المدمرة . أنا ، علمتني الأيام ألا أنخدع باللذة الخارجية ، معتقدا إنها قائمة في الأشياء المحيطة بي ، بما فيها الربح . أنا ، علّمتني الأيام أن لا أنجذب إلى لذّة ممتطيا جواد جهلي ، متمثلا بحشرة تمّ وضع قطعة صغيرة من الزبدة فوق أنفها ، فتندفع في كل اتجاه ، باحثة عن مصدر هذه الرائحة ، مفترضة وجودها في كلّ مكان ، في كلّ مكان ، إلا حيث هي . أنا ، علمتني الأيام أن ابحث عن اللذة في كلّ مكان إلا خارج ذاتي ، وبعيدا عن نفسي . اللذة في داخلي ، والسعادة في وجداني ، والفرح في قلبي . أنا ، لم أستطع تحقيق ربح ، أو تسجيل نصر ، إلا بعد أن ادركت كلّ بارقة فكر في أنوار مفكرتي ، واقتنعت كلّ نبضة حياة في نسيج وجودي ، بأنه لا جدوى ، لا جدوى على الإطلاق من البحث عن الفرح ، واللذة ، والسعادة ، والنشوة ، والنصر ، والتميز ، في الربح الذي أسعى لتحقيقه . أنا ، لم أستطع تحقيق ربح ، أو تسجيل نصر ، إلا بعد أن تمّت لي الحقيقة كاملة : أن إفرح بالخسارة ، وأقبلها ، وهلّل لها ، ورحّب بها ، وأوسع لها مكانا في صدرك ، بالتمام ، كما أنت فاعل بالربح ! نعم أيها الأكارم . أنا ، ما إن تمّت لي هذه الحقيقة ، حتى بدأت أحقق الربح ، وراء الربح ، دون أن أستشعر فيه لذة ، ودون أن انجذب إليه باشتهاء . نعم أيّها الأكارم . أنا ، ما إن تمت لي هذه الحقيقة ، حتى زالت لعبة الأعصاب عن مسرح عملي ، وسقطت من مفردات علمي ؛ فاذا بحلبة المصارعة مع السوق التي كنت أعيش عليها ، تتحول من تلقاء ذاتها الى فضاء فسيح تتناغم فيه الأصوات والألحان ، بحيث لا يمكن ان يكون مصدرا للفرح ، أو ينبوعا للسعادة ، لأنه هو الفرح عينه ، والسعادة عينها . نعم أيها الأكارم . أنا ، ما ان تمت لي هذه الحقيقة ، حتى أمسيت محققا للربح في الغالب ، وللخسارة في النادر ؛ دون أن أفرح به ، أو أحزن لها . نعم أيها الاكارم . إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتمّ ، إلا ان ساوينا بين الربح والخسارة وقبلناهما على أرض سوية ، وتحت سقف سويّ . إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتمّ ، إلا ان عملنا من أجل العمل ، ومن أجل العمل فقط ، عنيت : ليس من أجل الربح . إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتم ، إلا ان عملنا من أجل الربح ، أو – أقول أو – من أجل الخسارة على السواء . إن تحقيق الربح لا يمكن أن يتم ، إلا ان امتلكنا آدابا جليلة رفيعة سامية ، أسّها أدب الرفق بالأعصاب .
|