كيف يكون اتخاذ القرار – 5 – ا

كيف يكون اتخاذ القرار  – 5 – 18th November 2005

راس الحكمة منع الخسارة

كنت قد تركت قارئي لايام مضت ومحدثي يسوح بين حرقة وأمل ، وعدت فالتقيته اليوم وهو على ما كان عليه . بادرته بالسؤال البديهي الاول ، قلت :

– ما الحُكم الذي تصدرُه على نفسك من حيث فتحك لصفقاتك ؟

– استطيع أن أجزم وبكل تأكيد ان قراراتي في فتح الصفقات هي صائبة بنسبة 75% . إن تحليلي للسوق هو في معظم الأحيان موضوعيا ومنطقيا ، يستند على ما يتوفر لي من الأخبار المستجدة على الساحة والمؤثرة في هذه العملة أو تلك ، كما يستند الى ما استطعت توفيره لنفسي من مبادئ التحليل التقني ، وفي غالب الأحيان أوفق في احكامي .

– مشكلتك في إقفال صفقاتك اذا . 

– اقفال الصفقات هي مشكلتي . لقد أصبت في تقديرك .

– أنا لم اقدّر ، أنا اعرف ذلك ، هي ليست مشكلتك ، بل مشكلة السواد الأعظم من الداخلين الى هذا السوق . أنت تجني أرباحا قليلة وتقع بخسائر كبيرة .

– بالضبط ، هذا ما يحصل معي . أفتح الصفقة وأحددُ لها هدفا ، ولكنني نادرا ما ألتزمُ بما حددتُ ، بل أراني وبخطوة غير شعورية مسرعا الى جني ربح قليل من صفقتي خوفا من أن يضيع علي . بينما أتصرف عكس ذلك حيال الوقف لتحديد الخسارة التي أكون قد قررته للصفقة ، فما أن يقترب السوق من الوقف المحدد ، حتى تتملكني رغبة غريبة بعدم التضحية بالربح الذي حققته في الصفقة السابقة ، وأحس بقوة داخلية قوية تدفعني لالغاء هذا الستوب اللعين الذي لا بد أن يأكل ربحي السابق . أسارع الى إلغائه معتمدا على رغبة ، متعاملا معها بثقة كلية عمياء على انها واقع حقيقي ، رغبة ان يعود السوق للسير في مصلحتي بعد أن يتجاوز الوقف بنقاط قليلة . ولتدعيم رغبتي أسعى للبحث عن معطيات تصب في هذا الاتجاه بأية وسيلة ، وأنا أجدها في معظم الأحيان . أنا لا ألغي الستوب ولكنني ادفعه صعودا أو نزولا ، وما أن يقترب السوق منه مرة جديدة ، حتى ادفعه ثانية ، أو الغيه ، مستكثرا ومستهولا مقدار الخسارة التي سأقع فيها إن انا سمحت بتفعيله ، ومتعلقا الآن بحبال الأمل وحدها ، وأنصرف الى المراقبة والانتظار ، مربوط اليدين ، معدوم الحيلة ، ولا أنسى الدعاء للسوق ولنفسي … ولكن هذه الصفقات غالبا ما تكون سببا لخسارة كبيرة تأكل كل ما أحقق في غيرها .

– إذن فقد وضعنا الأصبع على الجرح ، ووجدنا مكمن الداء . علينا أن نعالج هذه المعضلة . معضلة جني الأرباح القليلة ، والوقوع في الخسائر الكبيرة . 

– صدقت ولكنني لا أجد السبيل الى العلاج ، فهل تقول شيئا في هذا السبيل ؟ 

– اقول ، وأرجو أن يكون مفيدا . 

 – سأخبرك قصتك مع البورصة بكل تفاصيلها وإن أخطأت ارجو أن تنبهني على خطأي .

– وهو كذلك . 

– لقد بدأت عملك وفي ذهنك قناعة راسخة وثقة تامة بأنك ستصبح في أسابيع قليلة من الأثرياء لأن الله فتح عليك بابا كان موصدا في وجهك ، ودلك على سبيل كان غريبا عنك . بدأت عملك بثقة الواثق ، وإقبال الطامع ، ونهم الجائع ؛ بدأت تضرب في السوق ضربات عشواء ، يمين وشمال ، بيعا وشراء ، متأملا في الربح ، واثقا منه ، محققا الخسارة ، ولا شيء غيرها . هل هذا صحيح ؟ 

– هذا صحيح . 

– لقد شددت في بدايتك على نقطة واحدة : كلما ارتفع عدد العقود التي اشتريها ، ارتفع معه مستوى المبلغ المقروض الذي اتاجر به ، وبالتالي الربح الذي أحققه . فكرت بهذا ، وركزت عليه ، واغلق طمعك عينيك عن الوجهة الاخرى للحقيقة : إن ارتفاع العقود بشكل جنوني ، يمكن له أن يحقق لك ربحا هائلا ، هذا أمر صحيح ، ولكنه غير مضمون الحصول . فهناك الوجه الآخر للحقيقة ، إن ارتفاع العقود بشكل جنوني قد يوقعك في خسارة هائلة إن كانت صفقتك غير موفقة .

أنت رأيت وجه الحقيقة الذي تتمناه ، الذي تريده ، وحولته بحركة غير موضوعية الى واقع أكيد حاصل  ، وتعاملت مع الحقيقة على كونها ذات وجه واحد ، ومع البورصة على كونها طريق ذات اتجاه واحد ، ضاربا عرض الحائط بكل مبادئها .

– لا انكر ان هذا صحيحا .

قد تكون صفقتك الاولى موفقة . أنا لا أعرف ذلك . لكن ما أعرفه ، وأؤكده بالثقة كلها ، وبالجزم كله ، هو أنك بعد هذه الصفقة الاولى التي لربما كانت موفقة ، قد ازددت عبادة لنفسك ، وثقة بعبقريتك ، فعمدت الى رفع مستوى العقود مرة جديدة ، طمعا بربح جديد مضاعف .

هنا وقعت في الخطأ القاتل ، لقد حكمت على نفسك بالإعدام ، خسرت صفقتك ، وكانت الخسارة موجعة جدا .

– هذا ايضا ليس بوسعي ان انكره ، ولكن ما علاقة كل هذا بما يصيبني اليوم . لماذا تصر على نبش ماضي ، وكشف زلاتي ؟

– أنت يا صديقي تعتقد أن ماضيك قد مضى ، ولكنني أقول لك إن ماضيك هو ما يعمل حاضرك ، ان كل نفَس يدخل اليوم صدرك ، ليس إلا ابنَ نفَس خرج منه في ماض قريب أو بعيد  . إن كل حرقة أو ندامة تعاني منها اليوم ، ليست سوى بنت تسرع أو غلطة وقعت بها بالامس . إن ما تعانيه اليوم ليس إلا نتيجة مباشرة لما وقعت به في الماضي من أخطاء قاتلة ، وما تقع اليوم به  من أخطاء لن يكون سوى السبب المباشر لما سوف تعانيه في غدك من عراقيل ومصاعب .

– أوضح لي أكثر ، بربك . ولا تحدثني بالأحاجي .

– بعد وقوعك في هذا المأزق ، آلمك الحدث كثيرا ، فكرت به مليا ، عرفت أنك مخطئ في ما اقدمت عليه ، آليت على نفسك ألا تعيد الخطأ مرة ثانية . ولكنك للاسف وقعت فيه مرة ثانية وثالثة وما زلت تقع فيه حتى الان . أليس هذا صحيحا ؟

– هذا صحيح .

– قطعت وعدا على نفسك بان لا تقع بنفس الخطأ . لكنك لم تعالج ، وحتى لم تفكر بمعالجة ، سبب الخطأ . كان عليك ان تذهب الى الجذور ، لا أن تكتفي بالقشور . كان عليك أن تقنع نفسك بمخاطر المحاولات التي تعتمدها بالانتقال الى مراتب المجد بايام قليلة . عوض ذلك كان عليك ان تسعى الى اكتساب فن هذه التجارة من خلال الرضى بالربح القليل ، أو حتى بالخسارة القليلة ، مقابل تعلم مهنة ، واكتساب خبرة ، وسلوك معارج النجاح ، خطوة وراء خطوة . كان عليك أن تحدد مبلغا يحق لك خسارته ، وهو لا يتجاوز بأية حال ال 10% من المبلغ الذي رصدته لهذه التجارة . وكان عليك ان تحدد زمنا ، لا يقل بأية حال عن الاشهر الثلاثة ، يحق لك فيها خسارة هذا المبلغ .

 خسارة قليلة لمبلغ يمكنك ان تحتمله ماديا ونفسيا ، مقابل تعلم لفنون في فسحة زمنية كافية لذلك .

أنت لم تفعل ذلك . ما فعلته هو أنك نويت ان لا تقع في نفس الخطأ مرة جديدة ، وعدت نفسك ، ولم تلتزم بوعدك . هدفك الخاطئ بقي هو نفسه ، هدفك الخاطئ كان ، واستمر ،  ولا يزال الى الآن ، تحقيق قدر كبير من الربح في أقصر مدى ممكن من الزمن . هدفك الخاطئ الذي أوقعك في ما انت فيه هو : أريد ان أصير غنيا ، أريد ان أصيره بين ليلة وضحاها .

– صدقت ، هذا ما حصل معي ، وماذا كان علي أن افعل ؟

– كان يتوجب عليك  :

أن تبدأ التعامل بمبلغ يعتبر جزءا غير كبير مما تملك ، بهدف تعلم كل ما يتعلق بهذه التجارة من فنون وأسرار . التعلم له ثمن . عليك أن ترتضي دفعه . عليك أن تسعى لتقليل هذا الثمن قدر الامكان ، لا أن تضع لنفسك أهدافا خيالية . هدفك الاولي في ايامك الأولى يجب أن يكون : تحقيق خسائر غير عالية ، ومحتملة ، وغير موجعة ، وفي أحسن الاحوال عدم الخسارة ، لا تحقيق أرباح غير واقعية .

اعلم ، وليعلم كل داخل الى هذا العالم السحري ، انك ، وانه لا يجب أن ينسحر به الى درجة الغياب عن الواقع أو غفلان الحقيقة . المال جذاب جدا . المال غاية الجميع . بين ربحه وخسارته خيط رفيع . اسع الى امتلاك القدرة على رؤية هذا الخيط لعبور الحدود ، الحدود الفاصلة بين جمهرة الخاسرين وجماعة الرابحين .

لا تبدأ العمل اذا بنفسية القادر على عمل المعجزات ، غيرك لا يقل ذكاء عنك ، لا تدع ثقتك بنفسك تستحيل غرورا قاتلا .

لا تبدأ العمل  وقد بنيت في الهواء القصر الذي ستبنيه من المال الذي ستجنيه من الربح المؤكد ، وان فعلت فان الخسارة ستكون مدمرة لك فيما لو حصلت .

لا تبدأ العمل مأخوذا بالشعارات التي كثرت على مواقع تقديم هذه الخدمة – الجدية منها وغير الجدية – الشعارات التي تصور لك الربح مضمونا ، والغنى ميسورا ؛ وذلك باستعمال كلمات معسولة ، وشعارات مبرمجة تتوجه الى مشاعر القارئ او السامع لا الى عقله . إرمِ كل هذا وراء ظهرك  واعمد الى تحكيم عقلك بكل نفس من انفاس صدرك . أكتمها حيث يجب أن تكتم ، وأطلقها بتؤدة وتروٍ حيث يجب أن تطلق .

ان التزامي الفكري والاخلاقي والديني يحتم علي أن اقول لك – ولكل من يطمح لهذا العمل – إن النجاح  يكون بالسهر على منع الخسارة قبل وأكثر من العمل على تحقيق الربح ، في بداية تعلمك للعمل ، وفي ممارستك اللاحقة له كمهنة اساسية . تحقيق الربح ليس صعبا . لكن الصعوبة تكمن في تحقيق الربح لتعويض الخسارة . إن لفي هذا مرضا للجسد وللنفس في آن . ركز اذا على منع الخسارة ، وبخاصة في بداياتك ، وان فلحت في ذلك ، فقد فلحت في كل شيء .

إن كل خسارة يصاب بها المتعامل – وبخاصة المبتدئ – انما هي صدمة يأس تصيب النفس وصفعة تشاؤم تتحكم بالمزاج ، وقبضة تشكك تمسك باليد ، فإذا القرار مستحيلا ، والتردد سيد الموقف ، والتنفيذ لكل صفقة يقود من فشل الى فشل .

وليست كل خسارة ككل خسارة . ان خسارة لصفقة تم إجراؤها بعقود أتخمت الحساب وأرهقته لهي خسارة مدمرة ، لا منجاة بعدها الا بالكثير الكثير من الجهد والدعاء .

أما الآن وقد وقعت في ما وقعت فيه فلتكن لك فسحة من الوقت ، تطول الى الحد الذي تراه ، عُد فيها إلى نفسك ، داوِ ما استطعت من الجراح ، بالانصراف عن السوق وهمومه . إنسَ كل شيء . وإن وُفقت في ذلك ، فعُد الى العمل بذهن جديد وفكر جديد وهدف جديد .

مع كل صياح ديك وطلوع كل  فجر ، في كل حين وساعة ، قبل اتخاذ كل قرار ، عليك – وعلى كل من شاء ان ينجح – أن تتلو على نفسك أنشودة الرفق بنفسك ، وان تحملها فقط ما تستطيع .

ولنا في ما سوى ذلك كلام وكلام .