( 1 ) العيش عند سفح البركان

العيش عند سفح البركان …
بات معلوما، ويجب أن يكون العلمُ راسخا لا شكّ فيه، والقناعة ثابتة لا شائبة عليها .
بات مفهوما، ويجب ان يكون الفهمُ نقيا منقشع الأفق، والإدراك صفيا جلي الثوابت لا تردد في قبوله.
بات مفهوما ومعلوما ومؤكدا وجليا وواضحا وثابتا أن العمل في أسواق المال، والنجاح فيه، والثبات عليه، ليس من المستحيلات المقتصرة على بعض الموهوبين، ولكنه أيضا ليس من الاعمال المبَسّطة العادية أو الوظائف الروتينية اليومية، كما يحلو للبعض تصويره.
شاهدت مؤخرا عرضا تلفزيونيا يصح تصنيفه دعائيا أكثر منه إعلاميا، أدمن على تقديمه أحد الطارئين الجدد على السوق، فتعمد في حديثه تصوير الربح في السوق على أنه من المسلّمات التي لا يعوّقها عائق ولا يمنعها مانع. تعمّد إقناع المشاهدين أن مجرد التعرّف الى الرسم البيانيّ والتدرّب على استعمال برنامج المتاجرة يعني الانتقال من الفقر الى الغنى، ومن الضِعة الى الرفعة.
تعمّدت مراقبة حركات صاحبنا وتتبع تقديمه لبرنامجه في أكثر من حلقة واحدة، فتكوّن لديّ شعورٌ بكونه لم يوفق في عمله كمتاجر في السوق، ولا في تحقيق ثروة يطمع بها، من ممارسة تجارة – هو ليس لها – وهي في أعلى سلّم المهن، من حيث متطلبات الذكاء والنباهة واليقظة والوعي وتوقّد الفكر. هو لم ينجح في تحقيق هدفه فتحوّل الى الاسترزاق من التعليم.
التعليم مهنة – بل رسالة – نبجّلها ونحترمها، على أن تكون محافظة على شرف التوجه وأخلاقية المنطلَق . صاحبنا لم يحافظ على كلي الشرطين، لقد فشل في التعليم ، ثم جُرّم في الوسيلة المعتمدة للثراء، كما فشل في ممارسة التجارة.
كان المعلم الطارئ يقدم للمشاهدين رسما بيانيا لسهم أو لعملة تكون فيها الوجهة تصاعدية ( ولم يقدم مرة واحدة “ترند” بوجهة تراجعية، لكون التصاعدي يغري النفوس ويجذب العقول ) . كان يضع سهما يختار له اللون الأخضر( وللخضار جذبا سحريا في مثل هذه المواضع) عند أسفل “الترند”، وسهما آخر أحمر عند أعلاه، ثم يقول بنبرة الواثق العارف الصادق الناصح: هنا تشتري مشيرا الى السهم الأخضر، وهنا تبيع مشيرا الى الأحمر. ويضيف – وعينه في عين المشاهد تحديقا – الربح يكون كذا بالنقاط، ويكون كذا بالدولارات.
التعليم عزةٌ والتنوير شرفٌ. إيّاك أن تحوّله الى خداع. لا يبقى بهذه الحالة وصفٌ له سوى كونه ذلة وتسولا.
كلّ متمرس في السوق يدرك أن الشراء يجب أن يتمّ عند السهم الأخضر ، وهذا يبدو جميلا ومشوّقا ومثيرا اذا رأته العين وقد اكتمل “الترند” فحقق ما حقق من ارتفاع. كل مشاهد توسوس له نفسه الشراء في أسفل القاعدة والبيع في الأعلى، ولكن!
لنجرب أخي القارئ سوية طمس الجزء المتصاعد من الترند بورقة تخفيه عن نظرنا انطلاقا من السهم الاخضر وصولا الى الأحمر. لنفعل ذلك ثم لنسأل أنفسنا : لماذا كان عليّ أن أشتري في العمق؟ كم هو مستوى الخطورة؟ ما المعطيات التي تحثّ على الشراء وترجّح حدوثه؟ وغيرها ، وغيرها من الاسئلة الملحة والمبررة التي لا بد من إيجاد الجواب لها قبل الشروع بعملية الشراء.
أسئلة كلها مهمة، ولكن الأهم يبقى التالي : ماذا لو اشتريت وانقلبت المسيرة؟ ماذا لو صار الترند تراجعيا لسبب ما؟ كم ستبلغ الخسارة؟ أين سأخرج؟ كم سيكون بمقدوري التحمّل ، ماديا ونفسيا؟
كلّ هذه الأمور تجاهلَها الأستاذ المعلم ولم يأت على ذكر أبسط تفصيل فيها. هو رمى الى هدف وبلغه. أراد التوجّه الى شريحة خام محدّدة من المشاهدين. شريحة  لا تزال طرية العود تريد أن تربحَ وهي تستعدّ للمباشرة بالعمل دون طرح الكثير أو حتى القليل من الأسئلة.
هذه الفئة من المشاهدين تريد طريقا مزروعة بالرياحين والورود. تريد أن تسمع كلاما جاذبا يدغدغ لها طبيعتها الراغبة في التعرف على العمل بالبورصة. هو زرع لها هذه الطريق، ونصب هذا الفخّ، مستغلا سذاجة تتمكن من طباعها.
هنا نصل الى الشقّ الثاني من الجريمة. المشاهد الذي وقع في الفخ هو شريك المعلم الذي جذبه إليه، لأن الثاني أعطى الاول ما استلذّ سماعه، ولو قال له غيرَ ما قال لانصرف عنه وما أصغى.
أخي القارئ لنتصارح.. أنت وأنا…
إن سلسلة مقالات سبقت هذا المقال على هذه النافذة وكانت خلاصة خبرة عمر لمستنيرين مجرّبين – هم قبل كل شيء مخلصين – لا تبتعد عن جو الفكرة الرئيسية لحديثنا هذا.
أنا أعترف وأقر وأصر . أنا أدعوك الى الإعتراف والإقرار والإصرار معي على كون المسألة أخلاقية قبل كل شيء آخر. لا تساوي الذهب بالنحاس، فالبَون شاسع بين المعدنين وقيمة الواحد لا تقارَن بقيمة الآخر.
أبطالٌ نستوطن السوق. برابرة يعبرون فيه. أيضا في هذه خلاصة سنوات من الجدّ والسعي والبحث والمقارنة والإستخلاص . هي أيضا تستحق الكثير من التبصّر والتقدير لتضمّنها جملةً من الحقائق ومن الثوابت ومن العِبَر.
يتبع.

للتواصل مع كاتب المقال
bild11u

( 2 ) العيش عند سفح البركان

لا شك في كونك – أخي القارئ – قد أنبتت في نفسك أملا وغذّيته شهورا – كما حالة الكثيرين غيرك ممن تعرفوا على هذا السوق فاشتدّ هيامَهم به – . الأمل هذا مغرٍ، فهو يدغدغ أحاسيس الأنا، ويوسوس لكلٍ من الوافدين بإمكانية الظفر بمهنة جديدة تدرّ من الأرباح ما يكفي مؤونة أو ما يزيد.
أخي القارئ .
إن طموحك المشروع هذا يمكن ان يتحوّل الى واقع، شرط أن تكون لها…
إن طموحك هذا سيكون بعيدا عن التحقق، بل مستحيل البلوغ، إن كانت شروط هذا العمل لا تماشي قدراتك الفكرية أو النفسية أو المادية …
طويلٌ هو الصفّ الذي يجب أن تقفَ فيه سعيا الى الهدف. منذ برهة كنت في مؤخرة الواقفين وها أنت الآن وسط الصف الطويل ، لأن الوافدين وراءك كثر …
ضيقٌ هو الباب الأيسر المذهّب الذي يستقبل كل مَن سمحت له مؤهلاته اجتياز اختبار التحمّل والثبات. قلّة هم السعداء الذين يدخلون هذا الباب …
واسع هو الباب الحديدي الأيمن الذي يخرج منه كلّ من اقتنع، بعد عناء، أنه في المكان الخطأ والزمان الخطأ بعد اتخاذه القرار الخطأ…
راقب جيدا كل الذين يقفون أمامك. إنهم يريدون ما تريد ويسعون الى ما تسعى.. بعضُهم ينالُ مبتغاه، وكثرتهم يخرجُ مقتنعا أو مكرها، إذ لا مجال للمعاندة أو المخادعة أو الغرور في هذا المكان.
أخي القارئ.
إن اولئك الذين يدخلون في الباب المذهّب ، ( وهو الباب الذي تتمنى وُلُوجه أنت ) ، إن هؤلاء لعارفين إنهم سيعيشون عند سفح البركان، ولجاهزين في كل لحظة للتعامل مع غضبه بالوسيلة الملائمة.
إنهم يدركون نسبة الخطر، ويعرفون أن الهولَ آت يوماً، والغضبَ بادٍ في ساعة ليلٍ، أو في ساعة نهار.
إنهم أبطالٌ حقيقيون، شجعانٌ أقحاح، يعشقون المواجهة ويعرفون مواضع الكرّ ومواضع الفرّ.
أخي القارئ.
لا تتردد في الإنسحاب إن لم تأنس في نفسك قدرة. ولا تتردد في الصمود إن سمعت صوتا داخليا يهتفُ لك أن إبقَ.
وحده صوتك الداخلي يحسن تقييم الأمور، فاصغِ له.
ألأزمة المالية الأخيرة كانت أقسى مما تصور خبيرٌ أو مستثمرٌ أو مسؤولٌ من الكبار الكبار. رمت سهامَها بكل الإتجاهات فأصابت الكثيرين وما استثنت إلا القليلين. أعرف جملة من العِتاق الذين كانوا يدركون أن ثورة البركان آتية لا محال. إصاباتهم كانت غير بليغة، وها هم  يخرجون من الرماد، وينفضون عن أكتافهم غبار أيامٍ عجاف.
أخي القارئ.
بتنا نستلذ العيش عند سفح البركان. نحترم قوته وجبروته. نتعلم منه الكثير الكثير. لا ننكر عليه ما يحتكر من مزايا، وما يكتنز من خفايا. لا نتجاهل الإنذار المبكر، فنتذاكى ونغترّ… نحدّ من خسارتنا إذا هبّت ريحُه في وجهنا، ونستغلّها لصالحنا إذا هبّت ريحُنا في وجهه.
نحن لا ندفن رؤوسنا في الرمال، غير آبهين بمؤخرتنا عارية بادية للعيان…
إعلم، أخي القارئ، أن البركان جبارٌ عنيد. فنّ العيش عند سفحه لا تمتلكه الكثرة. له مخاطرُه، لكن نكهته الخاصة أيضا؛ يستلذها البعض – نستلذّها نحن – فلا نطيق عنه ابتعادا. نستلذّها الى حدّ استشعار الإشتياق في العُطَل.
نستلذّ الحياة عند سفح البركان، لأننا لها.
أخي القارئ !
جاورنا !
إن كنت لها !

للتواصل مع كاتب المقال :   khibrat-omr@boursa.info