أرشيف التصنيف: المقالات العامة

هل الاقتصاد الأميركي يعمل لصالح الأغلبية أم النخبة؟

كثيراً ما نسمع هذه الأيام أنَّ الديمقراطية هي ورقة الاقتراع. وهناك حقيقة في ذلك: لأنَّ الفوز بالانتخابات أمر بالغ الأهمية، سيما وأنَّ القوى الليبرالية والتقدمية تحاول صدَّ الحركات اليمينية المتطرفة. ولكن الأزمة الديمقراطية التي يواجهها المجتمع الأميركي لن تُحلَّ بالتصويت وحده.

لسنوات، كانت أقوى روابط التضامن مع اليسار والحركة العمالية – وهو مصطلح تم الاحتكام إليه في الاحتجاجات وعلى خطوط الاعتصام. ولكن جذورها أعمق كثيراً، وتداعياتها المحتملة أبلغ أثراً مما نتصوره عادة. ورغم أننا نادراً ما نتكلم عن التضامن على هذا النحو، فإنَّ التضامن مفهوم أساسي بالنسبة للديمقراطية كمفهوم أقربائها المعروفين: المساواة والحرية والعدالة. فالتضامن في الوقت نفسه هو رابطة تربط المجتمع معاً وقوة تدفعه إلى الأمام. وفي نهاية المطاف، عندما يشعر الناس بأنَّهم متصلون ومترابطون، فإنَّهم يكونون أكثر استعداداً للعمل معاً، وتقاسم الموارد معاً، وتلقي الدعم من بعضهم بعضاً. إنَّ التضامن يحولنا إلى «نحن» الأضخم والأكثر قدرة على الصمود من خلال الشعور الثمين والقوي بأنَّنا رغم اختلافنا، فإنَّ حياتنا ومصائرنا مرتبطة ببعضها بعضاً.

كلانا أمضينا سنوات في العمل منظمين وناشطين. وإذا كانت تجربتنا قد علمتنا أي شيء، فهو أن الشعور بالتواصل والتبادلية نادراً ما يكون عفوياً، ولا بد من رعايته وديمومته. وفي غياب المنظمات والمؤسسات القوية والفعالة القادرة على رعاية التضامن والحفاظ عليه، فإنَّه يَضعُف، ثم تتعثَّر الديمقراطية. لقد صرنا أكثر ذعراً وعزلة، وأكثر إثارة للشكوك، وأكثر تعرضاً للمعلومات المضللة، وأكثر انفصالاً وسخرية، وأكثر عرضة للنقد والتحريض بسهولة فيما بيننا.

معارضو الديمقراطية يعرفون ذلك. ولهذا السبب؛ فإنَّهم يستثمرون كميات هائلة من الطاقة والموارد لتخريب التضامن التحويلي والديمقراطي، وتعزيز الأشكال الإقصائية والرجعية للهوية الجماعية. إثر غضبهم الشديد إزاء عقد كامل من الحركات الاجتماعية وإنعاش العمل المنظم الذي طال انتظاره، ضاعف الاستراتيجيون اليمينيون والشركات الداعمة لهم جهودَهم لتقسيم واستعمار الرأي العام الأميركي؛ الأمر الذي أدَّى إلى تأجيج مشاعر الاستياء الجماعي بُغية استعادة التسلسل الهرمي الاجتماعي التقليدي وضمان استئثار نخبة البلوتوقراط (الأثرياء المتنفذين) بالثروة والسلطة. في الصحف البيضاء، والخطب الرنانة، واللقاءات الإذاعية، عرض المنظرون المحافظون رؤيتهم للاستيلاء على الدولة واستخدامها كأداة لإعادة تشكيل أمتنا على صورتهم.

إذا لم نعط الأولوية للتضامن، سوف ينجح هذا المشروع الخطير والمناهض للديمقراطية. إنَّ التضامن قادر على توجيهنا نحو مستقبل يستحق النضال من أجله، وهو ما يشكل أكثر من مجرد شعار أو وسم عابر، فهو يوفر لنا الأساس لخطة جديرة بالثقة ومحفزة للتجديد الديمقراطي. وبدلاً من المثل الأعلى لدولة الرفاهة في القرن العشرين، يتعيَّن علينا أن نحاولَ تخيل دولة التضامن.

إنَّنا في حاجة ماسة إلى رؤية مضادة لما يمكن، وما يجب، أن تكون عليه الحكومة، وكيف يمكن استخدام الموارد العامة والبنية التحتية لتعزيز التواصل الاجتماعي وإصلاح النسيج الاجتماعي بحيث يكون لدى الديمقراطية فرصة، ليس فقط للتقدم بتؤدة، وإنما للازدهار. وهنا يشكّل التضامن هدفاً يستأهل الوصول إليه وتأمين السبل اللازمة لبناء القوة لتحقيقه. إنها وسيلة وغاية في الوقت نفسه، ألا وهي صياغة الروابط الاجتماعية بحيث يصبح بوسعنا أن نصبح أقوياء بالدرجة الكافية لتحويل السياسة نحو الأفضل.

تاريخياً، أثيرت مسألة التضامن خلال فترات الاضطراب مثل المنعطفات التي نعيشها راهناً. تشكلت المفاهيم المعاصرة للتضامن أولاً بعد الثورات الديمقراطية في القرن الثامن عشر وعلى مدار الثورة الصناعية. ومع تراجع دور الكنيسة كسلطة أخلاقية، تساءل الفلاسفة والمواطنون كيف يمكن للمجتمع أن يتعايش من دون ملك أو إله. ماذا يمكن أن يربط الناس في عصر علماني يتسم بالتعددية؟

إن مفكري القرن التاسع عشر الذين بدأوا التفكير والكتابة بجدية حول فكرة التضامن غالباً ما استخدموا صورة جسم الإنسان، حيث تعمل أجزاء مختلفة جنباً إلى جنب. والأمر الأكثر شهرة هو أن عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم الذي وضع التضامن في مركز بحثه، زاعماً أنه مع تزايد تعقيد المجتمع، سوف تتقوى الروابط الاجتماعية بين الناس، وأن كل شخص يلعب دوراً متخصصاً في حين يتصل بكيان أكبر. وقال إنَّ التضامن والتماسك الاجتماعي سيكونان النتيجة الطبيعية لزيادة الترابط الاجتماعي والاقتصادي. ولكن كما قد يدرك دوركايم ذاته في نهاية المطاف، فإن الاقتصاد الصناعي الذي تصور في البداية أنه كفيل بتوليد التضامن من شأنه أن يعمل في واقع الأمر على إضعاف الروابط الهشة، وتعزيز ما سماه «الشذوذ»، أو اليأس المزعزع الذي يصاحب اتساع فجوة التفاوت بين الناس.

في الولايات المتحدة، لم يحقق التضامن قط النتيجة الفكرية نفسها التي حققها في أوروبا. فقد أُهمل المفهوم منذ تأسيس هذه الأمة بصفة عامة، وقُمعت الممارسة بصورة فعالة وحتى تجريمها. وقد قوبلت محاولات صياغة التضامن العرقي بالقمع العنيف مراراً وتكراراً، ولا يزال تنظيم العمال، المحظور فعلياً حتى عهد الصفقة الجديدة، يحتل أرضية قانونية معادية. لقد تسببت عقود من السياسات الداعمة للسوق، والتي روّج لها الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء، في تقويض التضامن على نحو خفي وعلني، بداية من تشجيعنا على النظر إلى أنفسنا باعتبارنا أفراداً مستهلكين ولسنا مواطنين، إلى تعزيز النزعة الفردية والمنافسة على المشاركة الجماعية والتعاون.

مع تسبب الاقتصاد الأميركي الذي تحركه الأرباح في جعلنا أكثر افتقاراً إلى الأمان والتشتت، وأكثر عرضة للنداءات الاستبدادية، انتهز أقصى اليمين الفرصة. وتتصاعد الآن ردة فعل غاضبة من أجل وأد براعم التضامن التي ظهرت نتيجة للحركات الأخيرة الساعية إلى تحقيق العدالة الاقتصادية والعرقية والبيئية والجنسانية. ورداً على ذلك؛ يستهدف المستثمرون من أصحاب المليارات البرامج التي تشجع على التنوع والشمول، في حين تُجرّم أعمال التضامن الصغيرة – مثل مساعدة شخص ما على الإجهاض، أو إنقاذ المحتجين من السجن.

وفي انتظار عودة السيد ترمب، صاغت «مؤسسة التراث» خطة لإعادة تشكيل الحكومة والمجتمع، مستخدمة السلطة الكاملة للدولة لدحر ما تسميه «الصحوة الكبرى» واستعادة «ثقافة الحياة» و«البركة» الرأسمالية اليهودية المسيحية. وقد تحولت كلمة «استيقظ» إهانة، حتى يمكن استخدام الكلمة لتلطيخ وكسر التضامن الذي بدأ الناس في تجربته لتوهم.

إن رؤيتنا لدولة التضامن تقدم استجابة واضحة على هذا المشروع. وكان الديمقراطيون الاجتماعيون والاشتراكيون محقين في تأكيدهم على الحاجة إلى إعادة التوزيع والاستثمار العام القوي في السلع والخدمات. ويتعيَّن علينا إعادة هيكلة اقتصادنا بحيث يعمل لصالح الأغلبية وليس النخبة. ولكن خلافاً للمحافظين – ولنتذكر، على سبيل المثال، مارغريت ثاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا التي قالت عام 1981: «الاقتصاد هو الطريقة؛ والهدف هو تغيير القلب والروح» – يميل الليبراليون واليساريون إلى الإقلال من أهمية دور السياسة في تشكيل الحساسيات العامة. وهذا خطأ.

متابعة قراءة هل الاقتصاد الأميركي يعمل لصالح الأغلبية أم النخبة؟