سعر النحاس يصعد بقوة… لكن لأسباب مقلقة

في سوق السلع، هناك نوعان من الأسواق الصاعدة: أسواق جيدة، مدفوعة بالطلب القوي، وأسواق سيئة، مدفوعة بصدمات العرض. عادةً ما تكون الأسواق الجيدة أكثر ديمومة، وتتطلب أسعاراً أعلى لفترة أطول لتشجيع الاستثمار في إمدادات جديدة؛ بينما غالباً ما تكون الأخيرة قصيرة الآجال.

شهدت سوق النحاس كلا النوعين على مدى 25 عاماً خلت، فقد ارتفعت الأسعار إلى مستوى قياسي بلغ 11104 دولارات للطن العام الماضي، من 2000 دولار عام 2000. وغالباً كانت العوامل متشابكة لدرجة يصعب معها تحديد أيهما أكثر أهمية. أما الآن، فالأمر واضح تماماً: إنها مشكلة العرض.

تتعرض مناجم النحاس لكثير من الحوادث سنوياً، لدرجة أن المحللين يُتحوطون للانقطاعات في توقعاتهم السنوية للإمدادات. لكن حتى وفقاً لمعاييره، فقد شهد المعدن الأحمر اضطرابات أكبر بكثير مما كان متوقعاً. ولذلك، يُتداول حالياً بأسعار تزيد عن 10000 دولار.

قائمة اضطرابات العرض هذا العام طويلة. فقد شهد منجم كاموا-كاكولا في جمهورية الكونغو الديمقراطية في مايو فيضانات، تلتها حادثة في منجم إل تينينتي في تشيلي في يوليو.

وحديثاً، عطلت اضطرابات اجتماعية عمليات منجم كونستانسيا في بيرو. لكن الأسوأ جاء في 8 سبتمبر، عندما اندفعت مئات آلاف أطنان الطين إلى أنفاق تحت الأرض في منجم غراسبرغ في إندونيسيا، ما أسفر عن مقتل عدد من العمال.

غراسبرغ ليس مجرد منجم نحاس عادي، بل هو ثاني أكبر منجم نحاس في العالم، حيث يساهم بنحو 4% من الإنتاج العالمي. توقف الإنتاج حالياً ولا يرجح أن يعود إلى مستواه قبل الحادث حتى عام 2027 على أقرب تقدير. من حيث الحجم والمدة، تُعدّ هذه صدمة كبيرة جداً، تتجاوز بكثير الاضطراب السنوي الذي يتوقعه المحللون.

هل سنرى طن النحاس يبلغ 40000 دولار؟

في النهاية، ستحتاج أسعار النحاس إلى الارتفاع لإعادة التوازن إلى السوق. هل يمكن لارتفاع المعدن الأحمر أن يتجاوز أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2024 ليصل، على سبيل المثال، إلى 12000 دولار للطن؟ ربما.

إن خسارة غراسبيرغ كبيرة بما يكفي، لا سيما خلال الأشهر الستة المقبلة، لدرجة أن ارتفاع الأسعار قد يكون ضرورياً لكبح جماح الطلب. لكن لا تخلطوا بين صدمة العرض وبداية سوق صاعدة لسنوات عديدة. مؤكد أن أكثر التوقعات تفاؤلاً تبدو لي غير منطقية، ومن ذلك يقول بيير أندوراند، مدير صندوق التحوط للسلع الأساسية، إن الأسعار ستقفز إلى 40 ألف دولار قبل عام 2030.

لتمديد موجة صعوده، يحتاج المعدن إلى أكثر من مجرد انقطاعات في العرض: إنه يحتاج إلى نمو قوي في الطلب في الصين. يشتري الاقتصاد الآسيوي العملاق حوالي نصف استهلاك النحاس العالمي، ويحتاج إلى استهلاك المزيد للحفاظ على سوق صاعدة. لكن حالياً، لا تشتري الصين، أو على الأقل ليس كثيراً.

طلب صيني ضعيف

إن قطاع العقارات في البلاد، وهو مستهلك كبير، في حالة ركود. كما أن قاطرة التصدير لديها تعاني في خضم الحرب التجارية مع الولايات المتحدة. تعيد الصين تصدير حوالي 20% من النحاس الذي تشتريه في السلع النهائية- الأجهزة الكهربائية والكمبيوترات والهواتف المحمولة وما شابه، لذا مفهوم أن التجار الصينيين لا يتعجلون الشراء.

تدفع شركات التصنيع الفاخرة أسعاراً أعلى من الأسعار المرجعية لتأمين تسليم المعدن في شنغهاي، وهو مقياس رئيسي لحالة السوق الآسيوية، وما يزال سعره منخفضاً بقدر 50 دولاراً لكل طن، مقارنةً بمتوسط ​​60.5 دولار للطن للفترة 2020-2025.

بالتأكيد، يمكن للمرء أن ينظر إلى ما وراء ضعف الطلب الصيني الحالي إلى مستقبل يتضاعف فيه استهلاك النحاس المكرر، وفقاً لأفضل التقديرات، إلى 50 مليون طن بحلول عام 2035 من حوالي 25 مليون طن حالياً على خلفية التحول في مجال الطاقة.

إن النحاس من أفضل موصلات الطاقة، وستتطلب كهربة كل شيء -استبدال محركات الاحتراق الداخلي بالسيارات الكهربائية، أو تدفئة المنازل بمضخات الحرارة بدلاً من الغاز- كميات كبيرة من المعدن. لكن هذا مستقبل يظهر فقط في الرسوم البيانية المبسطة لعام 2030 وما بعده، وليس واقع عام 2025.

العرض عائد آجلاً لكن ماذا عن الطلب؟

على الراغبين في تجاهل ضعف الطلب الحالي أن يتجاهلوا أيضاً انقطاعات العرض المستمرة. لأنه، عاجلاً أم آجلاً، سيستأنف عمال المناجم الإنتاج.

لنأخذ على سبيل المثال منجم كوبري بنما، الذي أُغلق في نوفمبر 2023 بعد نزاع قانوني، ما أدى إلى استنزاف حوالي 1.5% من إمدادات العالم. وقد أبدت الحكومة البنمية الجديدة استعدادها لمناقشة إعادة فتحه، وإن كان ذلك بشروط.

إذا استأنف منجم كوبري بنما الإنتاج العام المقبل -وهو أمرٌ مستبعدٌ إلى حدٍ ما- فقد يُعوّض عدة من اختلالات الإنتاج الأخرى. علاوةً على ذلك، ستدخل مشاريع جديدة حيز التنفيذ، مع إضافات متوقعة في عام 2026 من جمهورية الكونغو الديمقراطية وتشيلي ومنغوليا.

لدى النحاس كثير من المقومات اللازمة ليصبح السوق الأكثر صعوداً في صناعة السلع الأساسية. الأسعار الحالية مرتفعة جداً وفقاً للمعايير التاريخية، لا سيما عند النظر إلى المتوسطات السنوية بدلاً من الأسعار اليومية.

منذ بداية العام حتى تاريخه، يبلغ متوسط ​​سعر المعدن حوالي 9600 دولار للطن، وهو أعلى متوسط ​​سنوي على الإطلاق. لكن لتحقيق ارتفاعٍ مستدام، يُنصح بالتركيز على توقيت تسارع نمو الطلب، بدلاً من الأمل في أن يستمر العرض الشحيح بتخييب الآمال.