تشكّل قوّة الدولار الأميركي القصة الأبرز في أسواق العملات والاقتصاد العالمي خلال العام الحالي. لكنّه ليس بالضرورة خبراً سعيداً لإدارة الرئيس الأميركي جو بادين، فيما يطلق محرّكات حملته للبقاء في البيت الأبيض. ولذلك قد تحمل الأشهر المقبلة حركة غير عاديّة، إمّا أن تنحو باتّجاه حرب العملات، وإمّا باتّجاه صفقةٍ ما مع الصين، ما بين التجارة والسياسة.
يضرّ “الدولار القويّ” بالإنتاج الصناعي الأميركي، في مواجهة الإنتاج الآتي من الصين واليابان، بعدما ارتفع الدولار منذ مطلع عام 2022 بأكثر من 35% مقابل الين الياباني، وبنحو 13% مقابل اليوان الصيني. وينطبق ذلك بدرجة أقلّ على الصادرات من أوروبا وبريطانيا ودول أخرى. لكنّ قوة الدولار تفيد الولايات المتحدة من حيث إنّها تجذب الاستثمارات الأجنبية إلى أسواق السندات والأوراق الماليّة.
كان من المفترض أن تهدأ قوّة الدولار هذا العام، مع اتجاه مجلس الاحتياط الفدرالي إلى خفض الفائدة. لكنّ الآمال بخفض الفائدة ثلاث مرّات في 2024 تبدّدت في ظلّ معدّلات التضخّم العصيّة على التراجع. وحدث العكس، إذ بات مؤكّداً أنّ البنك المركزي الأوروبي سيخفض الفائدة في التاسع من حزيران الجاري، سابقاً نظيره الأميركي إلى الخفض، وهو ما سيعطي المزيد من أسباب القوّة للدولار.
متى بدأ الدّولار يؤذي أميركا؟
قبل أربعين عاماً، وصلت قوة الدولار الأميركي إلى حدٍّ بدأ يشكّل أذى جدّياً لقدرة الولايات المتحدة على تصدير منتجاتها. فكان الاجتماع في أحد فنادق نيويورك عام 1985 بين مسؤولين أميركيين ونظراء لهم من القوى الاقتصادية العظمى في ذلك الزمان: ألمانيا الغربية وبريطانيا وفرنسا واليابان. وكان الاتفاق الشهير الذي عُرف باسم “اتفاق بلازاPlaza Accord “، نسبة إلى اسم الفندق الذي وُقّع فيه. وشهد الاتفاق على عمليات منسّقة لخفض قيمة الدولار، وهذا ما حدث بالفعل في العامين التاليين.
كان الدولار قد سجّل ارتفاعات تاريخية قبل ذلك في النصف الأوّل من عقد الثمانينيّات، بفعل مزيج من السياسة النقدية الأكثر تشدّداً في التاريخ، حين رفع مجلس الاحتياط الفدرالي الأميركي الفائدة بشكل حادّ لكبح التضخّم، بالتزامن مع سياسة مالية انفلاشية اعتمدها الرئيس الراحل رونالد ريغان.
كانت العبرة التاريخية من تلك الحقبة أنّ قوّة الدولار المبالغ فيها تؤذي أميركا وتؤذي منافسيها. فقوّة الدولار عطّلت التصدير، وقفزت بعجز الحساب الجاري إلى مستويات قاربت 3.5% من حجم الناتج المحلّي، وفتحت الباب أمام اليابان لإغراق الأسواق الأميركية بالصادرات. وفي المقابل، حظيت ألمانيا الغربية واليابان بفائض تجاري كبير، لكنّهما لم تكونا تجدان مصرفاً لاستثماره سوى شراء السندات الأميركية. وكانتا بذلك تموّلان عجز الحساب الجاري الأميركي.
تضرّر اليابان من الاتّفاق
استفاد الأميركيون من ذلك الاتفاق، لكنّ نتائجه كانت سيّئة في اليابان. فقوّة الين بعد ذلك أدّت إلى فقاعة في أسعار الأصول، وضعف في النموّ، في ما اصطُلح على تسميته بالعقد الياباني الضائع.
حلّت الصين مكان اليابان في النظام الاقتصادي العالمي في العقود التالية، من حيث تحوّلها إلى مصنع المنتجات الأقلّ تكلفة. واعتاد رجال السياسة في الولايات المتحدة على اتّهام الصين بالتلاعب بالعملة وإبقاء اليوان الصيني منخفضاً بشكل مصطنع لإغراق الأسواق بالمنتجات الرخيصة. ودرج أخيراً مصطلح “الطاقة الإنتاجية الفائضة” في الصين، الذي يعبّر عن اتّهام لبكين بانتهاج سياسات الإنتاج المفرط بما يزيد على حاجة الأسواق لإغراق الصناعات الغربية.
يعيش العالم لحظة مشابهة لمرحلة ما قبل “اتّفاق بلازا”. فالدولار الأميركي يعيش مرحلة من القوّة الاستثنائية، والإنفاق الحكومي بلغ حدّاً غير مسبوق، ارتفعت معه الديون الفدرالية إلى نحو 35 تريليون دولار. وبحسب بيانات بنك التسويات الدولية، يعيش الدولار أقوى مراحله مقابل العملات الرئيسية الأخرى منذ الثمانينيات، فيما المرشّحان الديمقراطي والجمهوري في السباق الرئاسي الأميركي يبنيان برنامجهما على خفض العجز في الميزان التجاري مع الصين.
هل تلوح صفقة جديدة في الأفق؟
قبل أسابيع، توجّهت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين إلى الصين في زيارة هي الثانية خلال تسعة أشهر. وتحدّثت هناك بصراحة أقرب إلى الفجاجة عن تأثير البضائع الصينية الرخيصة على قدرة الصناعات الأميركية على المنافسة، وعلى فرص العمل في الولايات المتحدة. وأشارت بشكل خاص إلى الصناعات التي تقع في صلب برنامج بايدن الاقتصادي، مثل السيارات الكهربائية وألواح الطاقة الشمسية.
وحين عادت يلين إلى واشنطن كانت حزمة التعرفات الجمركية على البضائع الصينية جاهزة للإعلان، وأبرزها رفع الرسوم على السيارات الكهربائية الصينية إلى 100%، لتنطلق بذلك موجة جديدة من حرب السياسات الحمائية.
لكنّ تلك الخطوة من إدارة بايدن لا تنفي أنّها تريد عقد صفقة مع الصين، فيها وجه من أوجه الشبه مع “اتفاق بلازا” في الثمانينيات. ولدى الصين أسبابها للتجاوب. ففي محفظتها استثمارات بـ 800 مليار دولار في سندات الخزينة الأميركية، وهي تعمل منذ عامين على خفض حجم هذه المحفظة بوتيرة متسارعة، من خلال بيع السندات وشراء الذهب.
يمكن لصفقة معقولة أن تحقّق أشياء ممّا تريده واشنطن وما تريده بكين. لا تريد الصين عولمة عملتها، لكنّها تريد لمنتجاتها أن تبقى مهيمنة في أسواق التصدير. وتريد الولايات المتحدة أن تبقى مهيمنة على الصناعات الأكثر تقدّماً، وأن تبني تنافسيّتها في صناعات الاقتصاد الأخضر. ولها مصلحة في الحدّ من قوة الدولار، لكن من دون أن تفرّط بقوّته المهيمنة على حركة التجارة العالمية واحتياطات البنوك المركزية وأسواق الصرف، ليظلّ بإمكانها استخدامه سلاحاً في تمويل اقتصادها وفرض العقوبات على خصومها.
ستُظهر الأشهر المقبلة ما إذا كانت الصفقة ممكنة قبل أن تقترب الانتخابات ويقترب معها احتمال أن يعود دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ويقلب الطاولة.
عبادة اللحن