الذهب

الذهب: نبيعه أو نشتريه؟

استحوذ الذهب في الاشهر الأخيرة على اهتمام اللبنانيين بسبب استمرار ارتفاع اسعاره، وتعاظم التحليلات التي تتحدث عن استمرار هذا الارتفاع في المرحلة المقبلة وصولاً الى 3 آلاف دولار للأونصة. لماذا يشعر اللبناني انه معني بهذا الموضوع، وما هي الانعكاسات والاحتمالات المرتبطة بتطوّر سعر المعدن الأصفر؟

منذ السبعينيات، يوم قرر حاكم البنك المركزي آنذاك الياس سركيس تكوين احتياطي من الذهب، تحوّل لبنان الى دولة لها وزنها على مستوى امتلاك هذا المعدن. وبقي هذا الاحتياطي على حاله لمدة تجاوزت الـ50 عاما، دون زيادة أو نقصان (286.8 طنا). وتقدّر قيمة هذا الاحتياطي، وفق سعر السوق، بما يقارب الـ25 مليار دولار. هذا المبلغ يعتبر ثروة قياساً بحجم الاقتصاد الحالي (حوالي 21 مليار دولار).

ورغم ان محللين ماليين في مؤسسات دولية، وبناء على معطيات السوق، والاوضاع الجيو-سياسية في العالم، يقدّرون ان ارتفاع الاسعار سوف يستمر وصولاً الى 3 آلاف دولار للأونصة، إلا أن الشكوك تحيط بهذا الامر، على اعتبار ان اقتصاديات الدول، بدأت تشهد تغييرات قد تكون بمثابة نقطة تحول، سوف تنعكس على الاسواق المالية، ومن ضمنها سعر الذهب. وبالتالي، ما يقوله المحللون هو ان الارتفاع سوف يستمر حتى يبلغ القمة (3 آلاف دولار)، ومن ثم يبدأ دورة التراجع التي قد تستمر لسنوات. (عمر الدورة التقديري 5 الى 10 سنوات). وقد يكون من المفيد التذكير بأن قيمة ذهب لبنان وصلت حالياً الى القمة في رقم قياسي لم تبلغه طوال نصف قرن. لكن ينبغي التذكير ايضا، بأن سعر ذهب لبنان تراجع في اواخر التسعينيات الى حوالي 3 مليار دولار، هبوطاً من حوالي 8 مليار دولار، قيمة هذا الذهب في الثمانينيات.

هذه التقلبات تؤكد ما هو معروف عالمياً، أن الذهب من الملاذات الآمنة، لكنه في الوقت نفسه مُعرّض لتقلبات مرتفعة، ضمن دورات قد تمتد لعشر سنوات او اكثر. ومنذ سنتين تقريبا، بدأت موجة شراء الذهب من قبل البنوك المركزية حول العالم تتعاظم، سيما من قبل الصين وروسيا. ولكن هذه الموجة، كما تفيد المعطيات امتدت، ولو بنسب اقل الى بنوك مركزية أخرى. كما انها قد تمتد طوال 2024، وربما خلال عام 2025، لرفع نسبة الذهب في المحافظ الاحتياطية في بعض البنوك المركزية. وتُبيّن الأرقام، ان نسبة الذهب في هذه المحافظ كان قد انخفض. ورغم انه لا توجد نسبة محدّدة للذهب من مجموع الاحتياطي، لكن ادارات المصارف المركزية تفضّل دائما الحفاظ على نسبة مقبولة في احتياطها. وهذا ما يبرّر وجود معطيات بأن بنوكاً مركزية ستواصل شراء الذهب في المرحلة المقبلة.

مقابل الهاجس المرتبط بذهب لبنان في المركزي، هناك هاجس المواطنين في كيفية التعاطي مع الذهب. ومن المعروف ان اللبناني العاجز عن فتح حساب مصرفي في الخارج، يحتفظ بأمواله ومدخراته وثرواته في المنزل. وهناك سؤال دائم مطروح: هل نخزّن الدولارات، أم الذهب؟

من اختار تخزين الذهب منذ بداية العام 2020، تاريخ الانهيار المالي، كسب حتى الآن حوالي 70%، أي ان من اشترى ذهباً بمبلغ 100 الف دولار، على سبيل المثال، بات اليوم يمتلك حوالي 170 الف دولار. في حين من كدّس 100 الف دولار، خسر ما يوازي 30% من قيمة امواله نتيجة التضخّم المتراكم منذ ذلك الحين، بما يعني انه يمتلك اليوم مبلغا لا تزيد قدرته الشرائية عن 70 الف دولار، قياسا بما كانت عليه في كانون الثاني 2020. لكن التآكل عبر التضخّم يشمل ايضا من خزّن الذهب، وهذا يعني ان الـ170 الف دولار باتت قيمتها الشرائية توازي حوالي 120 الف دولار. مع الاشارة الى ان الاثنين، خسرا ما يمكن كسبه بالفوائد المتراكمة، والتي تبلغ على الدولار حوالي 20 الف دولار في خلال السنوات الخمس الماضية.

كل هذا الكلام يقود الى الاستنتاجات التالية:

اولا- ان ثروة لبنان من الذهب يجب استثمارها، سواء بالتأجير المضمون ببوالص تأمين، او بالتحريك من خلال صناديق استثمار. لأن الـ25 مليار دولار اليوم قد تعود الى 10 مليار دولار بعد عقد من الزمن. ولا ننسى، ان نسبة التضخم التراكمي على الدولار منذ 1980 وصلت الى 266%، بما يعني ان الـ25 مليار دولار اليوم، تساوي قدرتها الشرائية حوالي 9 مليار دولار في ذلك الوقت. بما يعني أيضاً، ان لبنان الذي كانت قيمة ذهبه حوالي 8 مليار دولار في حينه، لم ترتفع القيمة الفعلية لهذه الثروة بأكثر من 11% خلال 50 سنة. في حين انه لو وضع هذا المبلغ بالدولار في سندات الخزانة الاميركية، لوصل المبلغ اليوم الى حوالي 40 مليار دولار. (معدل 6% سنويا + الفوائد التراكمية)، مع الاخذ في الاعتبار تقلبات الفوائد التي وصلت الى 13% في العام 1980، في فترة تولي بول فولكر لقيادة الفدرالي الاميركي، في حين تراجعت الفوائد الى حوالي 8.5% في العام 1990 وصولا الى 0.25% في العام 2020، في حين انها تبلغ حاليا حوالي 5.33%.

هذه الحسابات قد لا تنطبق على الافراد المستثمرين في الذهب، على اعتبار فارق الوقت الذي قد يحتفظ به المستثمر أو حتى المدخّر، بالمعدن الأصفر. واذا كان من الافضل للدولة اللبنانية ان تحرّك ثروتها، وتخرج من نصف قرن من النوم على حرير لمعان الذهب، فان الافراد، وان كان من اختار الذهب منهم، في بداية الانهيار المالي، قد كسب الرهان، فان قرار البدء بشراء الذهب في الوقت الحاضر، ورغم الكلام الكثير عن استمرار ارتفاعه الى 3 آلاف دولار، فيه مجازفة لا يُستهان بها، لأنه لم يعد واضحاً اذا ما كان الذهب سيُنهي دورة الارتفاع المستمرة منذ حوالي 5 سنوات، قبل أن تبدأ دورة التراجع. الرهان أصبح اكثر صعوبة وتعقيداً.

انطوان فرح