قد لا يتعدى الفيديو المتداول على وسائل التواصل الاجتماعي والذي يحوي صورة افتراضية مصنوعة بالذكاء الاصطناعي لدونالد ترمب وهو يصنع أحذية “نايكي” كونه مجرد سخرية من محاولات الرئيس الأميركي العبثية لإعادة التصنيع إلى البلاد من خلال القضاء على العجوزات التجارية الثنائية. لكن هذه الميمات تحمل في طياتها شيئاً من الحقيقة.
يكدح المزارعون والصيادون وعمال المصانع حول العالم من أجل كسب ورقة المئة دولار التي يطبعها الاحتياطي الفيدرالي الأميركي دون أي كلفة تُذكر. هذا الامتياز الفريد، الذي وصفه سياسي فرنسي في ستينيات القرن الماضي بأنه “امتياز باهظ”، وصل إلى نقطة تحول بفعل حرب الرسوم الجمركية.
انتهاء وشيك لاحتكار الدولار للمدفوعات
بغضّ النظر عمّا سيؤول إليه مستقبل الدولار الأميركي، سواء من حيث قيمته أو دوره كملاذ آمن للبنوك المركزية والمستثمرين، هناك أمر واحد بات واضحاً: احتكار الدولار لنظام المدفوعات العالمي -حيث يُستخدم في 88% من جميع المعاملات- في طريقه إلى أن يصبح جزءاً من التاريخ. أدركت هذه الحقيقة خلال رحلة قصيرة إلى فيتنام في عطلة نهاية الأسبوع.
في مدينة هوي آن، التي كانت ميناءً تجارياً يعود إلى القرن الخامس عشر ثم تحوّل إلى وجهة سياحية، يتكفّل الخيّاطون وصنّاع الأحذية بدفع أجرة سيارات الأجرة التي تقلّ الزوار إلى متاجرهم، كما يدفعون عمولات للفنادق مقابل توجيه الضيوف إليهم. لكن لو لم يكونوا مضطرين لفرض رسوم بنسبة 3% على المدفوعات باستخدام بطاقات الائتمان، لكان بإمكانهم تقديم عروض أكبر لجذب محبي التسوق مثل رفع الأسعار بنسبة 1% فقط مع تقديم قسيمة عشاء مجانية للزبائن الذين ينفقون مبالغ كبيرة- إذا اشتروا قميصاً إضافياً من الكتان. وبذلك، يربح المشتري، وكذلك البائع.
الدولار هو سبب عجزهم عن تقديم مثل هذه العروض الترويجية أو، بشكل أدق، النظام المالي العالمي المبني على فكرة أن أي دفعة تُجرى باستخدام بطاقة ائتمان أو خصم أجنبية يجب أن تُفعّل سلسلة من العمليات المكلفة التي يدعمها الدولار. بالنسبة إلى 18 عملة رئيسية حول العالم تُسوّى دون هذا القدر من العمليات، فإن تلك التكاليف تكاد لا تُذكر. لكن بالنسبة إلى الدونغ الفيتنامي، ومعظم العملات الآسيوية الأخرى، فهي تشكّل عبئاً لا يمكن لصناعة الألبسة والأحذية شديدة التنافسية وضيّقة الهوامش تحمّله. لذا تُحمَّل التكلفة كاملة -وأحياناً أكثر- على المشتري، الذي كان ليفضّل الحصول على وجبة مجانية.
تعقيدات وتكاليف ضمن دور الدولار كوسيط
خذ ما جرى معي مثالاً: لكي أدفع للخياط في هوي آن، اضطر مصرفي إلى الحصول على العملة المحلية، والتي لا يوجد لها سوق سائلة خارج فيتنام. لذا، من المرجّح جداً أن أموالي تحوّلت أولاً إلى دولارات في هونغ كونغ، وبعد وصولها إلى فيتنام، جرى تحويلها مجدداً إلى الدونغ الفيتنامي. ما يقرب من 40% من حجم التداول اليومي للدولار البالغ 7.5 تريليون دولار يأتي من دوره كوسيط للقيمة. لا المشتري ولا البائع لديهم مصلحة مباشرة في ذلك لكن لا يمكنهما إجراء الصفقة من دونه.
يدرك ترمب مكانة أميركا الخاصة؛ فقد هدد بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الدول التي تحاول طرح بدائل للنقد الأميركي في تسوية المعاملات التجارية. وأي تحوّل علني وواسع النطاق –كأن تقرّر السعودية، على سبيل المثال، تسعير نفطها بعملة غير الدولار– قد يثير استياء واشنطن. لكن البيت الأبيض لا يملك السيطرة على التحولات الأقل صخباً، والتي تحدث في الكواليس داخل منظومة المدفوعات العالمية.
ومنذ ما قبل تنصيب ترمب، برزت إشارات إلى انقسام النظام النقدي العالمي إلى تكتلين؛ أحدهما غربي والآخر شرقي. وقد تكون الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي قد عمّقت هذا الانقسام، إلا أن خطوط الفصل باتت تُرسم اليوم بين الولايات المتحدة وبقية العالم، وليس بين الغرب والشرق فقط.
أنظمة بديلة للدولار بينها العملات الرقمية
بوسعي الآن أن أدفع لتاجر تايلندي مباشرة بالبات من حسابي المصرفي في هونغ كونغ بمجرد مسح رمز الاستجابة السريعة. تخطط فيتنام لإطلاق نظام مماثل يربطها بسنغافورة. هذه الروابط تتم بين مؤسسات تجارية، مع وجود أطراف ثالثة توفّر خدمات تحويل العملات. كذلك، تتعاون بعض البنوك المركزية في أوروبا مع نظيراتها في آسيا على دراسة إمكانيات التحويل الآلي باستخدام تقنية “بلوكتشين”. وإذا نجحت هذه المشاريع التجريبية، فقد لا تكون هناك حاجة للوسطاء إذ ستتولى البرمجيات المدمجة في النسخ الرقمية من العملات الورقية دور صرّافي الأموال، وعليه، لن تكون هناك حاجة للدولار ليؤدي دور الوسيط في المعاملات التي لا تشمل أميركيين.
هذه مجرد واحدة بين تجارب عديدة جارية حالياً لتعزيز كفاءة مدفوعات التجزئة عبر الحدود. وتستند هذه الجهود إلى تحويلات العمال المغتربين التي تبلغ قيمتها 800 مليار دولار ثم يأتي إنفاق السائحين. ففي آسيا، يقضي السياح حالياً 7.4 أيام في المتوسط، أي بزيادة قدرها 1.3 يوم مقارنة بما قبل الجائحة، بحسب أحدث بيانات شركة “ماستركارد”. بالنسبة إلى الشركات الصغيرة في بلدات شاطئية غير معروفة تتنافس مع شركات كبرى في وجهات سياحية أكثر شهرة، فإن كل ساعة لها قيمتها ويُعدّ نظام الدفع المكلف مصدر إزعاج لكن جرى تحمّله حتى الآن فقط لعدم وجود بديل أرخص، ولفترة طويلة ظل تركيز صنّاع السياسات في آسيا منصباً على تصدير السلع إلى الولايات المتحدة، باعتبارها فرصة اقتصادية أكبر بكثير.
تحول أسرع عن الدولار بعد الرسوم الجمركية
لكن كل شيء تغير منذ فرض الرسوم الجمركية المتبادلة في 2 أبريل. كان الرئيس الصيني، شي جين بينغ، على وشك الوصول إلى فيتنام تماماً بينما كنت مغادراً. لقد كانت بكين تروّج لمبادرة “إم بريدج” (mBridge) التي تتيح للمؤسسات المالية تبادل العملات الرقمية التي تصدرها بنوكها المركزية لتسوية المطالبات عبر الحدود.
إذا كانت إدارة ترمب ستزعج الأصدقاء والأعداء على حد سواء لتحقيق رؤية وهمية عن التصنيع المعتمد على العمالة المكثفة، فعليها أن تكون مستعدة لإعادة اصطفاف جيوسياسي، وتآكل شكل واحد على الأقل من الامتياز الاستثنائي لأميركا.
أولئك الذين لا يزالون يرون أن الدولار هو أصل آمن نسبياً قد يرغبون في الاحتفاظ به، طالما أن الولايات المتحدة تظل القوة العظمى المهيمنة في العالم. لكن بالنسبة للسياح الذين يشترون الأحذية أو القمصان في فيتنام، فإن الرسوم الإضافية بنسبة 3% على المدفوعات تُعتبر خسارة مخيبة للأمل يمكن تجنبها بعد الفِصال والنجاح في الحصول على خصم جيد على البضائع.
بدلاً من تحمل الرسوم المبالغ فيها لصالح شركة “فيزا” والبنوك الشريكة لها، يبدو أن تناول العشاء في مطعم “مورنينغ غلوري” في هوي آن هو توظيف أكثر عدلاً لأموالي بينما أنتظر خياطة الأزرار الأخيرة لقميصي.