حديث الاسبوع – ماذا أفعل الآن ؟ أأشتري أم أبيع ؟ 23.12.2003 |
انا لا اعرف شيئا عن الصدفة التي حملته الى موقعنا – ” بورصة انفو ” – ولا أعرف السبب الذي جعله يصر على متابعة ما يرد عليها . إن كلّ ما أعرفه هو ان الشاب تعرف الينا ، وصار مدمنا علينا . أرجو أن يكون ذلك فاتحة خير له ، كما لغيره من الشبان العرب القلقين على مستقبلهم ، الباحثين عن الطريق ،الطريق الحامل طمأنينة الى نفوسهم ، وراحة الى قلوبهم . أرجو ذلك له ، ولهم . ولنا أرجو أن يوفقنا المولى ، عزّ وجلّ ، لنأخذ بيدهم ، ونقدم لهم ما تيسر من نصيحة ومن إرشاد .
أنا لا أعرف الكثير عنه ، لا أعرف سوى أنه أنهى دراسته الجامعية ، ووقف مذهولا امام نافذة لا فجر لها ولا صباح . نافذة اليأس والحيرة هي . نافذة الخوف على المصير ، والقلق على المستقبل . أكاد ان أقول نافذة الجزع والتردد والضياع . لقد أفنى صاحبي سنوات من عمره يدرس التقنيات ، ولما انتهى منها ، جاء يعرض خبراته على سوق العمل ، فاذا به يفاجأ بان بلده غارق في بحر من النور، فلا حاجة به لمن ينير دروبه بمصابيح ، ولا شأن له بمن يحرك آلات مصانعه بسحر فكره الخلاق . فكر صاحبي بعمل آخر ، أي عمل يجني منه ما يكفيه فما وجده . فكّر بالهجرة الى بلاد الدولار او اليورو ، لعله يصيب فيها رزقا ضنّت به عليه بلاده . فكر بكل ما يفكر به كل شاب من شباب وطني ! فكر بكل صغيرة ، وفكر بكل كبيرة ! ولكنّ السبل ، كلّ السبل سُدّت في وجهه ، فحار! أسفي عليك موطني ، تستهين بشبانك وتجعل منهم جوّالين باحثين عن الشمس في اوطان ليست لهم !
أطلت عليك يا أخي القا رئ بسرد ممل قد لا يعنيك ، ولكنني قصدت خيرا من كل ما سردت ، فسامحني . .
وقع صاحبي على موقعنا ، ومنه تعرّف الينا ، فبرقت في ذهنه بارقة ، وعنّت في فكره عنّة . قال اعمل في تجارة العملات برصيدي المتواضع ، وأتكل على الله ، وعلى ما يمنّ به عليّ أهل الخير من إرشاد . كان اسمه ” لبيب ” ، وكان له من اللبابة ، ومن اللباقة ، ومن سرعة الخاطر، ودقة الملاحظة ، ورقة البديهة ، وشعلة الذكاء ، ونعمة الفهم ، ما يؤهله لولوج حلبة الكرّ والفرّ هذه .
كان لبيبٌ لبيبا ، ولكنّه كان ، كغيره من المبتدئين في هذه المهنة ، جاهلا أسرارا لا تُفضّ خواتمُها إلا بالتمرّس والحيلة والخبرة ، ولا يتمّ التغلّب عليها إلا بارتكاب الخطأ لتصحيحه ، وإتيان المخالفة للعودة عنها . كان لبيبٌ كثير السؤال ، وكنا لا نبخل عليه بجواب . كان سريع الحفظ ، ولكنّ الذاكرة قد تخون . علّمته مرّة أن شرطا أساسيا من شروط النجاح في هذه المهنة ، يفرض على المتعلّم التحلي بشدة الصبر وقلّة التسرّع ، ويحتم سرعة في الحركة المدروسة وبطئا في ردة الفعل العفوية . علّمته ذلك يوما ، وفوجئت اليوم بانه يخالف هذه القاعدة من خلال سؤال طرحه عليّ بعفوية من شاء ان يكون مقداما ، في وقت ، فرضت العاصفة فيه الإنحناء أمامها ، فعرّض نفسه لمخاطر قد لا تحمد عقباها . كانت الساعة قد جاوزت الثانية عشرة والنصف بقليل ، وكانت حلبة الأسواق تشهد أشدّ جولاتها قسوة ، وأكثرها شراسة ، بحيث ان سعر اليورو مقابل الدولار شهد خسارة تزيد على الخمسين نقطة في أقلّ من خمسين ثانية ، ثم عاد ليستعيد منها ثلاثين نقطة في ما يزيد عن ثلاثين ثانية بقليل ، وها هو الآن يقف لاهثا بين رغبة الهرب الى الخلف ، أو الأندفاع في هجوم تصاعدي مقدام . كان لبيبٌ يشهد كل ذلك حائرا في ما عليه فعله ، حاسبا لما كان قد ربحه لو أنه باع في أعلى الهرم واشترى في أسفله ، آسفا على ضياع فرصة لا تسنح كلّ يوم . فما كان منه إلا ان اسرع الى محادثتي ، مبادرا بسؤال عفوي يفضح ما يجيش في نفسه من مشاعر . قال : السوق ! السوق ! ما الذي يجري ؟ ماذا علينا أن نفعل الآن ؟ أأشتري أم أبيع ؟ لم يفاجئني سؤال لبيب ، ولكنه أطربني ، لما ينطوي عليه من فطرة تكاد تطبع كلّ مبتدئ في هذه المهنة الغريبة . أطربني سؤال لبيب كما تطربني مثيلاته من الأسئلة الكثيرة التي ينهال بها كلّ يوم أقرانه من المشغوفين بهذه المهنة ، المبهورين بوسوساتها الطريفة ، المفتونين بتبرّجها الواعد . أطربني سؤال لبيب ، بعد أن أضحكني ، فاندفعت الى صياغة الجواب . قلت ، باختصار المقلّ ، الآن عليك ان تتفرج .
أدركت من إحجام محدّثي عن الجواب أنه لم يفقه مرمى جوابي فأردفت : المعركة الجارية الآن ، تدورفي البحر بين حيتان كبار ، وعلى اليابسة بين فيلة ذوي جلود سميكة يصعب التأثير بها . إنأى بنفسك عنها كي لا تكون واحدا من ضحاياها الكثر . مُر لنفسك الآن فنجانا من القهوة ، إرتشفها بتؤدة وهدوء ، تلذذ بطعمها ، خصّ الشاشة أمامك بلفتات قليلة بين الحين والحين ؛ فإن بدا لك أن العاصفة قد هدأت ، ونار المعركة قد خمدت ، عُد إذذاك الى سلاحك ، إشحذه من جديد وابحث لنفسك عن مكان على حلبة الصراع . اجل أيها الأخوة ، هناك ساعات وعلى كلّ عامل في هذا المجال أن يعرفها يستحيل العمل فيها على ذوي الارصدة المتواضعة ، حتى ولو خيّل لكم ان أرباحا طائلة كان لها أن تحقق لو انكم دخلتم السوق بائعين أو شارين . نصيحتي لكم : في مثل هذه الحالات ، ان كنت في السوق وبصفقة رابحة ، لك ان تبقى فيه على ألا تدعها تخسر ان باغتك السوق ، أو ان تجني ربحك منها وتكتفي بالتفرج على ما يجري . وان كنت خارج السوق فلا تدخل اليه ، لانه ان أكرمك مرة فهو لن يتردد في إذلالك مرات … |