نشالاً أريدُ أن أكونَ (1) |
جمعتني به الصّدف، وكان قد باعد بيننا القدر. هو عندي في منزلة تعلو على الصحبة، ويطيب له أن يناديني بكلمة المانية تعني بالعربية صاحبي. جاريته بذلك وناديته بما يحب أن يناديني.
كنا في ما مضى قد تشاركنا في التجارة، فتساعدنا على المتاعب وتشاورنا في المصاعب. واجهنا المشاكل وفرحنا بالحلول. تحملنا مرارة الخسارة ونعمنا بحلاوة الربح، بعد أن توزعناه. بالتساوي.
باعدت الأيام بيني وبين السيد ” كلاوس ” ، فاستمر الواحد حافظا طيب الذكرى ومعللا النفس بلقاء جديد، في حين استمر الآخر حافظا طيب الذكرى ومؤملا النفس بشراكة جديدة. كانت الصّدف، وكان اللقاء، فإذا صاحبي متعبا، وكان في ملامحه حزنٌ جعلني أقدّر أن شؤون العمل على غير ما يسرّ النفس ويفرح الفؤاد. خشيت أن تكون تقلبات السوق الجنونية في الأشهر المنصرمة قد أصابت من صاحبي مقتلا، فسألت عن الأحوال. ما كان ” كلاوس ” بحاجة لأكثر من سؤال ليبوح بمكنون نفسه، فيزيح عنها ضيقا كان عليها ثقيلا. قال ما معناه : يا صاحبي طالت الأزمة وبلغت عمقا لم أخله لها. هي مرحلة صعبة تعدى السوق بتطيره وتقلبه كلّ حدود، الى أن صحّ وصفه بالجنون. حتى العملات التي كانت تتميز بالهدوء في حركتها والاعتدال في تطيرها بات العمل عليها متعِبا وباتت دروبها مزروعة بالألغام وأدراجها مليئة بالأفخاخ؛ تدخل اليها باغيا صيدا فلا تخرج إلا وقد أصابتك السهام وأثخنت نفسك الجراح.
قلت: ألهذا الحدّ متعبٌ أنت يا صاحبي؟
تابع ما مفاده: استراتيجية عملي التي اعتمدتها لسنوات عديدة وفرت لي نتائج جيدة، ولكني تأخرت في اكتشاف انها لم تعد صالحة في ظروف السوق المستجدة، فكانت النتيجة مؤلمة.
لم أعلّق. خشيت من كلمة أنطق بها، يكون وقعها صعبا ومفعولها زيادة في الإيلام.
تابع: ثقتي راسخة الآن ومعرفتي أكيدة بأن اسلوبا جديدا في العمل يجب ابتداعه، وفلسفة مختلفة في الأداء يجب ابتكارها. لقد قطعت شوطا بعيدا في هذا الإتجاه، ولم تبقَ لي سوى خطوات معدودات…
قلت: وهل تضنّ على صاحبك بعنوان فلسفتك الجديدة؟
قال: هي عبارة واحدة توجز كلّ ما تحتاج الى معرفته”. حتى تحقق ربحا في مرحلة صعبة وسوق غدّارٍ ، يجب أن تكون نشالاً “.
عهدت صاحبي رجل فكر ومبدأ. عرفته ذهنا صافيا مخططا مبرمجا ومؤمنا بقدرة العقل، مقدما اياه على كل ما سواه. استغربت اسلوبه الجديد في التفكير. قلت : نشالا ؟ أنت ؟
قال: أنا.. نعم.. نشالا.. وإلا فالخسارة مصيري ثانية، والافلاس قدري أخيرا. لقد دربت يُمناي على حركة استعرت سرعتها من البرق، بحيث انها لا تكاد تبلغ جيب غريمي ( السوق ) حتى تخرج منه ممسكة بغنيمة، أية غنيمة. لا يهمني ما يعلق بين أصابعي من قطع نقد صغيرة أو كبيرة، كلّ ما يهمّني أن يعلق بينها شيئ فلا تقع على جيب فارغ. ثم إني دربت ساقاي على الجري أولا، فالركض السريع ثانيا. الهربُ شرط أساسي من شروط فلسفتي، ولا بدّ من إتقانه لإنجاح عملية النشل. ثق يا صاحبي ان تحقيقي الربح وتعويضي الخسارة رهن بنجاحي في أن أكون نشالا. سامح تحولي هذا. لا بد لي من أن أكون نشالا… سأنجح في مهنتي.. سأنجح..
رأى الرجل قطبة بين حاجبي( لطالما تمنى ان يكون لذوي الشعر الاشقر والعيون الزرق مثلها)، فأدرك عدم رضاي عما يقول، ولحظ لا موافقتي على شذوذ يحاول اضفاء صفة الفلسفة عليه.
قال ما معناه: ألا تعلق بشيء يا “أيمن” ؟ ( وهو يلفظ الاسم بلهجة طريفة)
قلت: بل سأفعل. أرى غير ما ترى. لن أرتضي لصاحبي أن يكون نشالا.. شاء الله أن يجمعنا بعد فراق. دعنا الآن نتذوق لذة اللقاء. سأفصّل لك خواطري في لقائنا التالي وهو بإذن الله لن يكون بعيدا.
|