شهداء السوق كُثر، أبطاله أيضا (3) |
ألبطولة أريدها لنفسي، ولكن ما السبيل؟
في تقديم لما أبغي إيراده من خواطرلا بدّ لي من الإعتراف أن اهتماماتي أقلّ بكثير من ان أعطي درسا في البطولة وقواعدها، وطموحاتي أضيق من أن أظهرَ نفسي واحدا من روادِها الكبار، وانشغالاتي أصغر من تقديم صورة المُنتدَب لمهمة إنقاذ مستعجلة . إنّ كلّ ما أبغيه من ملحوظاتي هو التنبيه الى أن السوق يحتاج دوما الى الدم ويبحث دوما عن الضحايا – هو لا يمانع في تسميتهم شهداء – . هو يحتاج اليهم حاجة السمك الى الماء ، لا يقوى ابدا على الاستمرار إن هم تمنعوا عنه.
هدفي أن أحذر وأنبه، ومن كان له في التنبيه درسٌ وفي التحذير موعظةٌ، فهنيئا له بما وجد.
شهداءُ السوق يسقطون كل يوم ، نصف البطولة ألا تكونَ واحدا منهم فتنجوَ، نصفها الآخر أن تتمّم بطولتك فتغنمَ .
ملاحظاتي التي أوردها كانت وليدة تأملات تحليلية غاص البحث فيها الى طبقات نواتية من التفكّر الواقعي تتبعا لعلاقة جوهرية بين البطولة والعمل الذي نحن بصدده، فإذا النتيجة واحدة في كل غوصة، ثابتة في كل جولة : تكون نصف بطلٍ إن أنت نجوتَ، وتكون بطلاً إن انت حققت ربحا.
إنه سوقٌ لذيذٌ، لكنه أكولٌ شرِه .
حذارِ من الغرور وادعاء الذكاء المفرط. هذا يوازي التهوّر – بمفهومي لسير الأمور – في أقاليم لغاباتها مجاهل لا يمكن لأحد استكشاف كلّ أسرارها، ولا يمكن لأحد تحاشي مخاطر كلّ ذئابها. ألإعتدال سيّد الأحكام والتواضع في الحكم على الذات ضرورة ماسة.
في حكمي على ما جرى في بلاد القوقاز، منذ فترة غير بعيدة، أرى أن روسيا كانت شرهة جدا، وجورجيا متهورة جدا. شراهة روسيا عادت عليها بلذة نصر ساحق، ولكنها أفقدتها استقرارا للروبل دام سنوات، فكان بدء انهيار، استتبعه انهيار حاد آخر في البورصة، جراء انسحاب رؤوس الامول الغربية – بحركة مبرمجة ومخططة أو غير مبرمجة وغير مخططة – . جورجيا كانت متهورة جدا، وكلنا يعرف ما تكبدته ثمنا لاختيارها منصة الشهادة شرفا تريد عدم تفويته على حاضرها قصد تكليل تاريخها به. في حكمي الشخصي على ما جرى أرى أن صفة البطولة لا تنطبق على احد من الطرفين، وهي لا تنطبق على كل من يتبع مثالهما إن كان مضاربا أو متاجرا أو مستثمرا في أسواق المال العالمية.
هو سوق لذيذ، لكنه شره . شراهته تنحسر وعدائيته تضمُر إن انت أحسنت التعايش معه – على الطريقة اللبنانية في التعايش مثلا – . تتحداه، تنعته بأقسى النعوت، تكون جاهزا للهروب، تهرب منه، يلحق بك، ترتد نحوه، تجد نفسك في حضرته، تلجأ اليه، تظن أنه بريء ساذج، يتكشّف لك لؤمه، تراوغ معه، تستسلم اليه، تحاول المهادنة وتبدأ نسج حميميّة لذيذة معه.
ألم أقل إنه سوق لذيذ ؟ الحميميّة معه أبهى مظاهر البطولة التي يمكن لإنسان أن يتحلى بها ويتباهى بامتلاكها . إنها حميمية لذيذة مع سوق لذيذ. هنيئا لمن نجحوا في نسج روابطها وتلذذوا بنِعَمِها. إنهم أبطالٌ حقيقيون.
إنه سوق لذيذ ولا أملَ لك معه طالما إن العداوة رابطك الوحيد به .
الحميميّة! الحميميّة! الحميميّة!
سرّ أسرار ! نور أنوار !
إنجحْ في نسج حميميّة بينك وبينه تبلغْ، تستشعرْ انه يناغشك، لا يؤذيك. يصفعُك أحيانا، ينبّهك الى حدودك، لا يؤلمك. الحميميّة التي نسجتها هي وراء هذا التحول السرّي وعلّة وجوده.
الحميميّة هذه تمتلك سحرا غير موصوف. تجعلك ذا ارادة واثقة. تجعل السوق لك مِطواعا.
الحميميّة هذه لو استطعت توطيد أواصرها معه (هو ذلك الجبّار العنيد)، فأنت قد حققت بطولة ما بعدها بطولة. وأنت قد بلغت طابق السهل الممتنع، حاوي زبدة الزبَد.
الحميميّة هذه إن نجحت في نسجها مع ذلك الجبار العنيد تؤمّن لنفسك السهولة في التعاطي. تحوّل السوق الى صفحة مقروءة بالغة الشفافية. تحوّل الخصم الى متعاون في حيلته مزاح وفي حليته وفاء.
أنا لا أنظّر في الماورائيات، ولا أنسج خيالا أو أحلاما بكلمات رنّانة مخادعة. ما أرمي اليه قد لا يبلغُ مداركَ أكثريةٍ من المطلعين عليه، ولكن الأقلية هي دوما النخبة، وهي منجم الأبطال. إليكم أتوجه، وأنتم من يعنيني نجاحهم في تحويل النظرية الى تطبيق ناجح.
انا لا أبالغ البتة إن قلت : لا يغيبنّ عن فكرك أبدا انه سوق لذيذ. أنسج معه حميميّة شفافة صادقة، تنجح في جعله مُهرَك الحنون.
أنت في قمة البطولة إن نجحت في جعل السوق مُهرك الحنون .
السوق في قمة النشوة إن نجح في جعلك فارسَه الحنون.
حقا انه يبحث دوما عن الشهداء ولا يعيش الا بدمائهم، ولكنه أيضا يبحث عن الأبطال، عن الفرسان، ولا يعيش إلا بعزائمهم.
السوق لذيذ، لذيذ، لذيذ. هو يطرب، ينتشي، كلما اكتشف فارسا بطلا، فتراه يحتفل به ويقدّمه.
مهمة على شيء من الصعوبة، لكنها ليست مستحيلة.
الفرسان الأبطال موجودون في السوق، هو لا يعيش بدونهم.
كن واحدا منهم.
يتبع.
|