كيف يكون اتخاذ القرار ؟ ( 4) – 4th October 2005
|
السفر في القطار والاتجاه الخطأ . ويعود محدثي الى سرد وقائع جولة جديدة من جولاته مع السوق . يقول : بعد هذه الحادثة ، أو بعد حادثة مشابهة ، آخذ على نفسي ألا أقفل صفقة إلا في الوقت والمكان المحددين لها ، وأن لا أدع الستوب اللعين من الإيقاع بي . أتحين فرصة أراها مناسبة . ألأخبار اليوم تشير الى امكانية تفوق اليورو على الدولار ، بيانات اميركا لا يرى المحللون لها تأثيرا إيجابيا على الدولار . أفتح صفقة شراء على اليورو ، أزيد عقودها أكثر من صفقة الأمس ، أحدد كعادتي للصفقة هدفا ، أتردد في تحديد الستوب ، أعود فأقرر تحديده تحسبا لطارئ كارثي . أديت عملي ، وما عليّ الان إلا الإنتظار . أترقب السوق وفي نفسي رغبة بالإنتقام من السوق على فعلته السابقة بي ، أنوي مسبقا عدم السماح له بسرقة صفقتي مني بأي ثمن . في البدء تسير صفقتي بحسب ما اشتهيت ، أحقق منها عشرين نقطة في دقائق قلائل ، أقرر ألا أقع في ما وقعت به بالأمس من خطأ ، أقول لن أقفل صفقتي قبل بلوغ الهدف . في هذا الوقت يصدر تصريح عن عضو في المركزي الاوروبي ، هو يحذر من تباطؤ في النمو بحيث يكون قاصرا عن بلوغ الهدف المحدد له . بعد دقائق يرد نبأ فشل المحادثات بين الحزبين الكبيرين في ألمانيا لتأليف الحكومة الجديدة . يرتد السوق في الاتجاه المعاكس . أعرف انه من الافضل أن أعمد الى منع الخسارة عن صفقتي . أحاول التحرر من الأجواء التي كنت أعيشها لحظة فتح الصفقة ، أحاول التخلص من دغدغات الأمل في إمكانية ردّ الخسارة التي تكبدتها بالأمس ، من الثقة الراسخة في كون هذه الصفقة مميزة ، وهي كفيلة بالتعويض لي ان انا صمدت فيها حتى النهاية . لا اقوى على ذلك ! أتعلق إذن بصفقتي ضاربا عرض الحائط مرة جديدة بقاعدة ذهبية كنت قد تعلمتها ، وهي تقضي بضرورة تغيير رأيي في اللحظة التي ترد فيها أخبار مستجدة ، أو تبدو على الشارت مؤشرات جديدة ، تحتم عليّ أن أعدل المخطط الذي أكون قد انطلقت منه . أتعلق إذن بصفقتي مستعيضا عن الحكمة بالرغبة ، وعن الحنكة بالأمل ، وعن الاقتناع بالعناد ، وعن الموضوعية بالهوس . وكيف لي أن أحقق ربحا إن كانت هذه حالتي ! ويعود السوق الى المستوى الذي فتحت فيه صفقتي ، ويشتد أملي بان الإرتداد سيكون قريبا . أقول في نفسي : لن أضيع الصفقة ، سأصمد ولن أكرر غلطة الأمس . ولا يفلح محيط فتح الصفقة على وقف التراجع الذي يتتابع . تحقق صفقتي خسارة عشرين نقطة . ألوم نفسي أشد اللوم . أقول : لو انني جنيت عشرين نقطة ربحا ، أما كان أجدى لي وأفيد ؟ ومن اللحظة التي أطرح فيها هذا السؤال ، تسوء أحوالي ، وتزداد كلّ لحظة سوءا . السعر يقترب من الستوب الذي أكون قد حددته . أقول : ألغي هذا الستوب ، لا بد للسوق أن يرتد في الاتجاه المعاكس ، لن أدعه يسرق صفقتي مني . ألغي الستوب على أمل ان يتم ما أرغب فيه ، وليس على ثقة أن يتم ما رسمت له . ألغي الستوب اذا ، ألستوب الذي أكون قد حددته في لحظة وعي سليم مخطط ، ألغيه في لحظة إنفعال شعوري مستسلم . أعرف في عقلي المفكر أنني أرتكب خطأ لا يُغتفر ، أعرف أنني أهمّ في ولوج النفق المظلم . رغم ذلك فأنا لا أقوى على التحرر من قوة الجذب العاطفي الشعوري الذي يشلّ قدرتي على تحويل يقيني الى فعل ، وصهر عمق معرفتي وقوة إرادتي ، بحيث أكون قادرا على تحويل المشيئة الى قرار، والقرار الى واقع نافذ . يجتاز السوق حاجز الستوب . يتابع اليورو جريه ، وتتابع صفقتي جريها ، في الخسارة طبعا . لقد وقعت في فخ جديد ، أشد قساوة وأدهى . مئة نقطة خسارة . أقول : لن أقفل صفقتي بالخسارة ، سوف أنتظر ان يعيد لي السوق ما سرقه مني . أقرر الانتظار ، ويطول انتظاري . السوق لا يعود ، أنا لم يعد بمقدوري إقفال صفقتي الآن . العقود كثيرة ، الخسارة كبيرة . ما تبقى في حسابي لا يمكنه تغطية تراجع جديد للسوق إن حصل . أنا ، صرت عاجزا عن التدخل في السوق لانقاذ شيء ما . صار دوري مقتصرا على التأمل ، والمراقبة ، والدعاء . ألآن كل شيء بات بيد القدر . الحظ هو الذي سيقرر النتيجة . ويفعل الحظ فعلته بي . يقرر عني ما كان عليّ أنا تقريره . يتراجع السوق بعض النقاط القليلة . تسقط صفقتي في ما يسمى ال ” مارجن كولل ” ، أي نفاد الإحتياط اللازم في حسابي لتغطية خسارة اضافية . صفقة جديدة فتحتها ! حماقة جديدة ارتكبتها ! خسارة جديدة حققتها ! لو اني اكتفيت بالربح القليل لحصلت ربحا عوضا عن الخسارة . لو اني منعت الخسارة عند مستوى فتح الصفقة ، لكنت قد منعت الخسارة . لو اني اقفلت الصفقة على مستوى الستوب ، لكنت وفرت على نفسي هذه الخسارة . لو ، لو ، لو ! كلمة لا يرددها الا الحمقى ، وها أنا أبرهن مرة جديدة على انتسابي الى ناديهم .
أصغيت لمحدثي في هذه المرة كما لم أصغي إليه في المرات الماضية . أخذتني بعضٌ من رحمة . رثيت لحاله . رأيت بمواجهتي نفسا حائرة متألمة ، تبحث عن النجاح ولا تجده ، رغم كونها قد اجتازت مسافة غير قليلة إليه . أحسست ولأول مرة رغبة عميقة بمحاورته ، لعلها رغبة مدفوعة بشعور خفي ينبئني عادة بوجود إمكانية للمساعدة . الحالة ليست من الحالات الميئوسة . شعر هو أيضا بهذا التحول المفاجئ في موقفي . رأيت في عينيه بريقا لم أعهده في ساعات السرد . أيكون قد استبشر بنجاحه في فك الخواتم عن لساني ؟ أيكون قد استبشر بسماع ما قد يفتح له أبوابا تعينه في تلمس الطريق ؟
لا اعرف إن كنت قد نجحت ، أو إن كنت سأنجح في مساعدة محدثي للخروج من النفق الذي أدخل نفسه فيه . أنا أعرف بحق أنني سألته وأخبرته ، نبهته و حذرته ، خففت عنه وأشرت اليه ، نهيته عن أمور ووافقته على أخرى .
لا اعرف حتى الآن إن كنت قد نجحت في إقناع محدثي بصوابية مذهبي وأحقية آرائي . لا أعرف إن كنت قد بلغت مرادي في خنق شخصية المضارب فيه وخلق شخصية التاجر .
لكنني اعرفُ !
أعرف أنني ما ضننت عليه بالحقيقة التي أعرف . أعرف أنني ما اخفيت عنه سرا كان خفيا عنه . أعرف أنني حاورته .
وحواري مع محدثي سيكون له سرد قادم في مقال قادم ، إن أذن الله وأعان .
|