أدب الجلوس إلى الخوان ، أو فنّ اللا ” يوفوريا ” – 27th May 2005
|
أدبُ تناول الطعام . أدبُ ترتيب المائدة والجلوس اليها . أدبُ الدخول في السوق . أدبُ الاشتراك في واحدة من أرقى التجارات .
أوجهُ الشبه عديدة ، ألمقاربة بين الحالتين قد تبسط الامور وتجعلها أكثر جلاء ووضوحا ، نظرا لاشتراك العوام من الناس في الوجه الأول ، وتوقِ البعض من نُخبهم إلى امتلاك فنون الوجه الثاني .
كنت منذ فترة غير وجيزة قد عقدت العزمَ على كتابة هذا الفصل والعمل على مقاربة فن دخول السوق من أدب الجلوس الى المائدة . وكأن الصدفة شاءت أن تضع قبالة نظري مشهدا تلفزيونيا يؤدي فيه واحدٌ من كبار نجوم السينما المصرية دور واحد من الباشوات الأكولين أمام مائدة امتدت عليها أطباقٌ حوت كل ما لذ وطاب .
كان الباشا يوشك أن يباشرَ بتناول الطعام ، وكانت عيناه قد جحظتا ، أو كادتا . كان ينظرُ إلى الفراخ المحمرة وقد تملكت وعيَه شهوةٌ جارفة ، وأخذت من جوارحه لذةٌ جامحة ، بحيث إن كل ملمح من ملامح وجهه عكس خشيته العارمة من أن ينبتَ الريش في هذه الفراخ المشوية ، وتعودَ لها الحياة ، ، فتهبّ من الطبق مصفقة بجناحيها ، ناجية بنفسها ، مفوتة عليه ما كان قد منى النفسَ به من شعور بالتلذذ والتنعم والشبع .
إستوقفني المشهدُ – وقد برع الممثل في تأديته خير براعة – فخفت ألا تتركَ عينا الرجل من الأطباق لفمِهِ نصيبا . قررت أن أتابع ما تبقى فكان العجبُ .
يدان تحملان ما قُدر لهما أن تحملاه ، ثم تعملان على إفراغ حمولتيهما في فم يصعب عليه استيعاب ما أُلقي فيه ، فاذا به يمضغ مقدارا ويبتلع مقدارا ، وهو بين المضغة والمضغة يرمي بقية الأطباق بنظرات تفضحُ كل ما يجول في نفسه من بقية لاحاسيس شهوانية فارغة من كل ما هو غير الطمع والشراهة والنهم والفجع .
أطلت عليك صديقي القارئ في أمر قد تراه غير ذي علاقة بما يفيدنا هنا في موضوعنا ، وأراه غير بعيد عما يشغَل بالك ويشغل بالي على وجه سواء . أطلتُ عليك ولكني لأصدقك القول أني ما فعلت إلا لكون أهمية هذا المشهد بالنسبة لي ليست قائمة بذاتها ، ولكنها كائنة بما يمثل من إقبال مفرط على الشيء ، وشراهة متطرفة في امتلاكه ، ونهم طريف في التهامه ، حتى ولو قارب ذلك حد الضرر ، وانعكاس النتيجة المرجوة توعكا أو مرضا أو علة أو خسارة أو دمارا . إن أهمية هذه المقاربة تكمن أيضا في ما يمثل الأمرُ من مشابهة حية ظريفة كوميدية ، لحالة من حالات التصرف المحظورة في إدارة شؤون المحافظ التجارية في سوق المال الذي نحن من صلبه وهو هدفنا ومنانا .
ثق صديقي القارئ ، وأنا ما توجهت اليك إلا وقد صدقتك القول ، ثق إن آداب تجارتنا لا تقل أهمية عن آداب حياتنا في مختلف وجوهها . فكما أن هذه كفيلة بتمييز عضو إجتماعي عن أعضاء آخرين ، ورفعه الى درجة تفوقهم قيمة وعزة ، وقدرة على التاثير ، إن هو ألم بكل تفاصيل هذه الآداب ، وعمل على احترام كل دقائقها ، وتطبيق كل أوامرها ، وتحاشي كل نواهيها ؛ فكذلك إن آداب السوق كفيلة أيضا ، إن هي أُوليت ما تستحق من الاهتمام والإحترام ، كفيلة بتمييزه عن غيره من جمهرة المتعاملين العاديين ، المتعثرين في خطوات طمعهم ، المتدثرين بعباءات فشلهم .
وكما للجلوس الى الخوان آداب كفيلة برفع الجالس الى مصاف المختارين من الحضر ، أو بخفضه الى درك الهمج المتخلفين عن امتلاك أصولَ اللياقة والذوق السليم ؛ فإن للدخول في السوق آدابا كفيلة برفع الداخل الى مصاف الفالحين الناجحين الواصلين ، أو بخفضه الى مصاف الفاشلين الخائبين اليائسين .
وكما أن عينَ الآكل لا يجوز لها أن تلتهم الطعام قبل فمه . وكما ان تناولَ الطعام ومضغَ الادام يختلف عن الافتراس والإلتهام . فكذلك لا يجوز لعين المتعامل أن تقبل على السوق ملتهمة كل ما فيه ، مهللة للربح قبل حصوله ، محولة الأمنية حقيقة قبل تحققها ، بانية الأمجاد قبل الشروع فيها ، محتلة مكانا مخصصا لغيرها ، عارفة بكل شيء الا بذاتها ، سليمة من كل آفة إلا من أشدها خطرا : عنيت ال ” يوفوريا ” .
وكما أن يدَ الآكل يجب أن تكونَ رفيقة بمعدته رحيمة لها ، تحملها ما بوسعها ، وتوفر عليها عبء الضار من الاحمال ، فلا تدفع الى جوفها ما لا تتسع اليه ، وما ليس للجسم حاجة به ؛ فكذلك ترى المتعاملَ الحضاريَ مضطرا لأن يقيس بمقياس العقل ما يمكن أن يكون هو محتاجا اليه ، قادرا عليه ، وان يزين بميزان الحكمة ذلك الحد الفاصل بين ما يكفيه ، وبين ما تتسبب به قرارات جشعه ونبؤات طمعه ، من أحمال ،لا وسع لأعصابه ولا حيلة لحسابه على تحمل تبعاتها . إن على كل داخل في هذا السوق أن يُحسن التفريق بين ما هو له ، وما هو لسواه ؛ بين ما يمكن أن يكون له مفيدا ، وما يمكن أن يكون به ضارا ؛ بين حِمل يمكنه القيام به والسير فيه بتؤدة الى الهدف ، وحملٍ يتحول عبئا عليه ، فيَحُول بينه وبين ما خطط له . إن على كل داخل الى هذا العالم التجاري الفائق الأهمية أن يحسنَ تحاشي ال ” يوفوريا ” وكل ما تستتبعه من كوارث ، وأن يتمكن من فن اللا ” يوفوريا ” فيستوعبه كلية، ويجعل منه بندا أساسيا من بنود دستوره ، وقانونا رئيسيا في شرائع سياسته .
وكما أن آداب الجلوس الى المائدة تحتم على الآكل أن يأكل بموجب الحكمة الذهبية القائلة ” علي أن آكل لأعيش لا أن أعيش لآكل ” ؛ فإن آداب الدخول الى السوق ، وفن اللا ” يوفوريا ” يحتمان على كل متعامل أن يعمل بهدي مقولة مماثلة ، أراها من الأهمية بحيث انها تستحق أن تكتب بغير حبر ، وعلى غير ورق ، وأن تعلق حيث لا يغيب نظر . عنيت : ” إن قانون اللا يوفوريا يحتم علي أن أتاجر لأعيش ، لا أن أعيش لأتاجر ” . والفارق شاسع بين الحالتين ، ولا أظنه يغيب عن كل لبيب . ومَن غير اللبيب من الإشارة يفهم .
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، إن هو اخطأ في المضغ لتعجلٍ أو ارتباكٍ ، فعض طرف لسانه ، ألا يثور ويغضب ، فيقلب الطاولة على الجالسين بمعيته ، أو يعكر صفو الجلسة بولولة وشتم وتهديد . فإن فن اللا ” يوفوريا ” تفرض على المتعامل ألا يغذي مشاعر الحقد على السوق إن هو اُصيب بخسارة ، أو وقع في مأزق ، وأن لا يسعى بأية حال الى الإنتقام منه في محاولة يائسة تهدف الى استرداد ما يعتبره حقا سليبا . وإن هو انزلق الى هذا الدرك فانما يعرض نفسه الى هزيمة نكراء مزدوجة ، والى خسارة شوهاء مضاعفة لن تكون له من السهل القيامة منها ، لان معاداة السوق لا تورث الى الخسارة ، ولان المندفع وراء إرادة الانتقام والثأر فإنما هو قد حكم على عقله بالتجمد ، وعلى أعصابه بالشلل ، وعلى إرادته بالتوقف ، وعلى مصيره بالفشل .
وكما أن آداب المائدة تفرض على الآكل ، أو المشارك في الطعام ، أن لا يجلسَ على المائدة إلا بعد أن يكونَ قد اهتم بنظافة يديه وفمه وكل ما يدخل اليه من غذاء ، حرصا على سلامة جسمه ومكونات بدنه ؛ فإن آداب دخول السوق تفرض على المتعامل أن لا يقاربَ جهاز عمله وأن لا يباشرَ نشاطه – حتى ولو كان يمارس عمله من جهاز في غرفة نومه – إلا إن هو عمد الى ايفاء جسده حقه ، وإن هو لبس رداء العمل النظيف ، نظرا الى كون النظافة الخارجية تعطي صاحبها شعورا خفيا بالنظافة الداخلية ، و لما في ذلك من إضفاء لحيوية وإدخال لفرح وإفاضة لبهجة على النفس والروح ، ومن تيقظ للعقل ومن توقد للفكر ومن تحفيز لشدة الانتباه ودقة الملاحظة وقدرة المقارنة وصوابية الحكم ، من خلال ما يوفر للاعضاء من راحة ومناخ .
وكما ان آداب الاكل أن لا يُدخل الآكلُ طعاما على طعام فلا يأكلُ إلا عند إحساسه بالجوع ، ولا يشربُ إلا عند إحساسه بالعطش ، كي لا يُفسدَ نظام جسده ، السائر وفق وتيرة تأليف مبدع في سمفونية موسيقية تنسجم فيها كل اعضاء الجسد مؤدية لوظائف محددة . فإن آداب الدخول في السوق تقضي كذلك عدم الأفراط في الهجوم على السوق ، بصفقات قد تصيب المتعامل بتخمة ترهق اعصابه ، وتتعب فكره ، فيضل في غياهب لا يجد لنفسه منها نجاة . ومن هنا فالوصية هي إعطاء النفس فترة من الراحة بعد كل صفقة سواء كانت صفقة ربح أو خسارة ، لتهدأ الأعصاب وتستقيم دورة الدم ويصير الفكر مهيئا لمعاودة التخطيط والتحليل . هذا هو النظام الطبيعي السليم ، وكل ما سواه إنما يصنف ضمن قانون ال ” يوفوريا ” البغيض .
وإذا كانت النباتات والأزهار ، بما تفوح به من روائح زكية ومناظر مريحة ، تُدخل على المائدة جوا مؤنسا لطيفا يساعد النفس على الانشراح ، ويساهم في تسهيل عملية الافادة مما يتناوله الجسم من طعام كثيف بتمرير جزيئياته الى ألطف اللطيف من الاعضاء ؛ كما أن ذلك صحيحا ، فإن تزيين مكان العمل بلوحات فنية مشرقة ، وتخصيصه بزهيرات وردية وأخرى سماوية أو بيضاء نقية ، يُدخل الفرحَ الى النفس ، والمرحَ الى الطباع ، فيتم التغلب على آفة ال ” يوفوريا ” ويحضر روح الخير مرفرفا على المكان ساكنا فيه . ولا يخفى ما لروح الخير من أثر في جعل البركة تحل والنعمة تُطل ، فتفتح أبوابُ الرزق ، وتُشرع نوافذُ الخير .
ولا يستهينن أحدٌ بما تقدم ، فإن مداواة العلة غالبا ما تكون بلمسة تحمل الشفاء ، أو بهمسة تطرد البلاء ، أو ببسمة تستدرج قبسا من النور المحيي . ومَن غيرُ النور المحيي قاهرٌ لظلمات النفس التائهة ، وملقنٌ لفنٍ اسمُهُ : فن ال ” لا ي و ف و ر ي ا ” .
|