تملأ نفسي أحيانا مشاعر متطرفة. تغزو ذهني أفكار قريبة من الخيال. أشعر رغبة متسرعة في قتل الواقع. بي تمرّد وراثيٌ عليه..
يا لسذاجتي! وكأنّ ما عَصَرَ نفسي من ألم لا يكفي لأتعلم. لأستخلص العِبَر. لأحوّل التجارب الى أمثولات.. لأكفّ عن مطاردة المثاليات المستحيلة..
أقرأ، أو أسمع أخبارا. تصيبني في الصميم. أسارع الى قلمي. أبحث فيه عن راحة لنفسي. أهمّ بالإعتراض. أنسى أن الواقع غير الحقيقة. أن هناك توترا أبديا بينهما. .
أرفض أن نضحي بالحقيقة إلتماسا لما يُسَمّى نجاحا. هَوَسي الدائم يدور أبدا حول سؤال رئيس: ماذا تقول الحقيقة؟
لا أعرفُ إن كنت مصيبا في ذلك. أعرفُ أن هذا الدرب وَعِر. سلوكه مُكلِف وعسير.
وماذا يقول الواقع؟
نحن شعب مُسيس. الكل يعرف هذا. نَدَرَ ما اجتمع اثنان إلا والسياسة ثالثهما. نتدرب على السياسة منذ بداياتنا. وإن كَبُرنا، وتوظفنا، فنحن ساسة صغار. صورة مصغرة عن الكبار. وان كَبُرنا، وتاجرنا، فبالذهنية السياسية. والسياسة بمفهومنا المتخلف شطارة. شطارة تعني: مَكرٌ. خُبثٌ. كَذبٌ. غلَبَةٌ. ونسمي هذا نجاحا..
الناجح هو الرابح. الهدف يبرر الوسيلة. الكيف غير مهمة… أرشيف المؤتَمنين على النظافة أكلَه الغبار.
تحدثت في مقالتي السابقة عن المطرقة. ثم عن السندان. رجوت القارئ ألا يكون ما بينهما… والكل يعرف ما بينهما.
سألت: مدعي مساعدة بعض الأغرار لماذا يقدم لهم سلعة لن يستفيدوا منها. ما مصلحته في ذلك؟
أجبت: ببساطة لأنه يريد ان يعلّمَهم ما يستفيدُ هو منه. والآن أزيد: هو يشتغل سياسة. يتخيّل نفسه سياسي. سياسي صغير على قدّه. يتشبه بالسياسيين الكبار. وبالقدر الذي تسمح به عبقريته.
نحن لا نحتكر هذا الفن، وإن برعنا فيه. الخديعة موجودة مذ كانت الأنا. الخديعة والأنا في تواصل أبديّ وتكامل سرمديّ…
الكاتب المسرحي الفرنسي “موليير” عاش في القرن السابع عشر. صوّر في إحدى مسرحياته موقفا قريبا من الذي نحن بصدده. ترك للسخرية المجال الأوسع في التعبير.
عندما أراد ” مسيو جوردان ” تزويج ابنته جمع أصدقاءه وطلب مشورتهم في الهدية الأمثل التي بوسعه تقديمها لها.
قال ( الصديق) الأول: أتمنى لها عِقدا من الألماس المُرَصّع يخجل بريقه من جمالها إن بدا. ( هو يتمنى لها…).
قال الثاني: بل هي سجادة عجميّة حاكتها أنامل نسوة من بلاد الفرس، واحتاج العمل فيها الى سنوات. لي رغبة جامحة أن أراها في بيتها. ( له رغبة…).
قال الثالث: أنصحك يا صديقي أن تعدُلَ عن فكرة الزواج، وترسلَ ابنتك الى دير للراهبات، فهي وُلِدَت لهذا، ولن يكون لها نجاحٌ أو حظٌ في الزواج…
صديق “مسيو جوردان” الأول كان صائغا يصنع الحليّ ويبيعها.
صديقه الثاني كان تاجرا يستورد السجاد العجميّ ويبيعه.
صديقه الثالث كان أبا لصبيّة تنافس العروس على قلب العريس، ويتطلع هو الى أن تفوز به.
عزيزي الوافد حديثا الى سوق المال. سِلَعٌ كثيرة ستُعرَض عليك. لا تجلس طوعا بين السندان والمطرقة. تروّى وتبصّر. إختَر فقط ما يكون نافعا. هو قليل من معروض كثير.
في هذا السوق يستحيل لك أن تجدَ مؤشرا واحدا – من بين مئة مؤشر معروضة – بمقدوره هو ان يعطيك إشارات بيع وشراء ثابتة ودائمة وناجحة وموثوقة. من يقول غير هذا فالخديعة توأمه.
هذا يتحدث عن ال “موفينج أفرج” ( المتوسطات المتحركة ). ذاك عن ال بوللينجر. ذلك عن ال “بارابوليك”. آخر يفضل ال “ماكد” ( نقل عربي لل MACD ). وغيرهم وغيرهم…
هم يقولون لك ذلك.. أنا أقول غير ذلك..
قُمْ الى معولك. أهدمْ بيتك الذي يأويك. إبحث لنفسك عن كنز رأيته في المنام تحت أساساته. حظّك في العثور على الكنز يفوق حظّك بالربح معتمدا على إشارات شوهاء ونظريات بلهاء، لا منطقَ يحكمها، ولا علمَ ينطبق عليها.
المؤشرات المئة تلك، كلّ واحد منها صالح لأن يكون هو مرشدي الى الربح. بشرط واحد وحيد: يجب ان أجد له غربالا يُسقط الإشارات الخاسرة التي يعطيها، ويحفظ الرابحة.
هذا يدّعي انه وجد سرّ الثراء في غربلة إشارات المتوسطات المتحركة بغربال ال “ماكد”. ذاك يفضّل غربلتها ببعضها، وبغربال من جنسها له قياس مُبتكر… كلّ هذا كلامٌ بكلام. كلامٌ فارغٌ يُخدّر الفكر ويُثقل على الفؤاد.
الغربال هذا، كلّ يبحثُ عنه. لم ينجحْ أحدٌ في العثور عليه. لن تنجحَ انت أيضا..
أتريدُ أن تعرفَ السبب؟
ببساطة كليّة واختصار شديد، لأنك تبحث في الخارج عمّا هو في ذاتك. لأنك أنت هو هذا الغربال. لأني أنا هو ذاك الغربال. لا تبحثْ عنه خارجَ ذاتك. إن لم تكُنه، فلن تجده.
كُنهُ. أو وفّر على نفسك المشقات.
–
للتواصل مع كاتب المقال : khibrat-omr@boursa.info