ما أن تعلن ميزانيات الدول حتى يكون أول ما ينظر إليه هو الفارق بين إيرادات الدولة ونفقاتها، وهو ما يعرف بالعجز أو الفائض في الميزانية. وبالنظر المجرد إلى هاتين الكلمتين، يتضح أن «العجز» مفردة تدل على السلبية، بينما تعبر كلمة «الفائض» عن الإيجابية، وكثيراً ما تقترن كلمة «العجز» بالمعاناة، فيقال إن الدولة تعاني من عجز في الميزانية، بينما يعبر عن الفائض بالتمتع، فيقال إن الدولة تمتعت بفائض في الميزانية، إلا أن السؤال الذي يطرح كثيراً: هل يعبر العجز فعلياً عن معاناة للدولة؟ وهل يعني وجود الفائض أن الدولة تتمتع باقتصاد جيد ومستقبل زاهر؟
يختلف الكثير من الاقتصاديين حول كون العجز أمراً سلبياً في ميزانيات الدول، حتى وإن استمر هذا العجز لسنوات طوال، فقد لا يؤثر هذا العجز في اقتصاد الدولة في حال السيطرة على مستوياته. فعلى سبيل المثال، لم تسجل الولايات المتحدة فائضاً في الميزانية إلا 3 مرات فقط منذ ما يقارب 6 عقود، وهي في سنوات: 1960 و1969 و2000، بينما سجلت جميع السنوات الباقية عجزاً في الميزانية، وبلغ العجز مستويات وصلت إلى 10 في المائة (نسبة من الناتج القومي) في عام 2009 إبان الأزمة المالية وما يقارب 8 في المائة في 1975. ومع ذلك فلا إنكار أن اقتصاد الولايات المتحدة هو أقوى اقتصاد في العالم طيلة هذه المدة، ولا يؤثر هذا العجز في متانة اقتصادها.
وبالنظر إلى حالة الولايات المتحدة أو غيرها من الدول، يرى جانب من الاقتصاديين أن العجز أداة للدولة (وهو عادة ما يُغطى بإصدار السندات)، تتمكن من خلاله من ضخ الأموال في السوق المحلية وتحريك الأسواق، معطية فرصة للشركات بالتوسع. كما تستخدم هذه الأداة للاستثمار وتطوير البنية التحتية للدولة، وقد يكلف عدم تطوير هذه البنية الدولة بشكل مباشر أو غير مباشر، تكلفة تزيد على فوائد السندات، وبذلك يكون إصدار السندات حلاً أوفر للدولة. وفي حالات الركود الاقتصادي، تستدين بعض الدول لتغذي السوق المحلية محاولة انتشالها من الركود، حتى لو كان ذلك على حساب العجز في الميزانية. وبكل الأحوال، فإن وجود عجز في الميزانية يعني أن الدولة لا تمانع في الإنفاق حتى لو كان ذلك عن طريق الاستدانة (سواء كان ذلك أمراً إيجابياً أو سلبياً). في المقابل، فإن الإعلان عن فائض في الميزانية قد يبدو إيجابياً من ناحية تحسن الإيرادات للدولة أو تخفيض نفقاتها، إلا أنه يعني أيضاً أن الدولة تفضل الاحتفاظ بهذه الإيرادات وعدم إنفاقها، وهو مؤشر يراه الكثير من المستثمرين سلبياً.
أما من يرون العجز أمراً سلبياً، فهم يستندون على مدرسة ترى أن العجز عادة يكون بسبب عدم ترشيد الإنفاق الحكومي، وأن ما يحفزها على الاستدانة هو عدم الرغبة في التصادم مع الرأي العام بتخفيض الإنفاق، إضافة إلى سهولة إصدار السندات بسبب انخفاض سعر الفائدة، وأن الحكومات الحالية تورط مثيلاتها المستقبلية في وحل من الديون قد لا يسهل الخروج منه. كما أنهم يفضلون أن يكون التطور بشكل بطيء ومدروس دون الحاجة إلى توسعات سريعة قد تجعل الاقتصاد في وضع هش. ولا شك أن نسبة العجز إلى الناتج القومي مهمة كذلك، فبعض نسب العجوزات يصعب النظر إليها بشكل إيجابي، وقد أصدر البنك الدولي مؤخراً تقريراً يشير إلى أن حجم الديون في الأسواق الناشئة تعدى 55 تريليون دولار، وهو ما يساوي 170 في المائة من الناتج القومي لهذه الدول، وهو أمر لا يمكن النظر إليه بشكل إيجابي على مستوى هذه الدول التي قد يصعب على كثير منها الإيفاء بهذه الديون دون التعرض لأزمات اقتصادية.
إن العجز في الميزانية ليس مؤشراً حاسماً على صحة الاقتصاد، فقد يكون هذا العجز بسبب زيادة إنفاق الدولة لمشاريع مستقبلية مع زيادة في إيراداتها كذلك، وقد يكون هذا العجز بسبب انخفاض في الإيرادات وزيادة في إنفاق غير مدروس، ولمعرفة الفارق بين النقيضين يجب الاطلاع على تفاصيل الميزانيات وعلى بنود المصروفات والإيرادات، ومعرفة النشاطات المشمولة في هذه البنود وتناسبها مع توجه الدولة، واستشراف المستقبل العالمي لهذه النشاطات، والتأكد من جدواها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الفائض كذلك ليس مؤشراً إيجابياً، فقد يعني أن الدولة بإمكانها زيادة الإنفاق من خلال تخفيض الضرائب على قطاعات مستهدفة، أو استثمارات في البنية التحتية.
د. عبدالله الردادي.