ربما يجب تهنئة لبنان والحكومة العتيدة بالإنجازات التي تمّت خلال الـ 100 يوم من عمرها والتي جاءت وفق تقديراتهم، كاملة غير منقوصة وربما أيضاً وجب تهنئتهم على الخطة الاقتصادية التي وضعتها لجانهم (وكم عددها) وجاءت مبتورة من كل واد عصا، وكأنّهم يسعون للهروب الى الأمام و يتذاكون على صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي معاً.
لا شك في انّ خبراء صندوق النقد الدولي، ومعه المجتمع الدولي باتوا يعلمون علم اليقين أننا نحاول تمرير ألاعيبنا عليهم. وقد غاب عن ذاكرتي أنّه وجب تهنئة اللبناني ايضاً بخطة اقتصادية سابقة وضعتها مجموعة من المتدربين في «ماكينزي» السنة الماضية، وكلّفت لبنان ما يقارب مليون ونصف مليون دولار، وتباهى أصحابها كما اليوم، بأنّها الخطة الأولى للبنان. لذلك، ما هي الخطة الأولى، لا ندري، انما نعلم علم اليقين أنّ الخطتين غير صالحتين لإخراج لبنان من أزمته المالية الحادة، والتي تستوجب «تدخّل صندوق النقد الدولي والمجتمع الدولي، وانّ كان بشروط قاسية، علماً أننا نعيش اليوم الجلجلة حتى قبل تدخّل الصندوق من تراجع في القيمة الشرائية ووصول الدولار والى مستويات غير معقولة وزيادة في البطالة، وتراجع في النمو، وفضلاً عن كون هذه الحكومة في غالبيتها ان لم تكن كلها، وهي تابعة للأحزاب، فشلت لغاية اليوم في تحقيق أي خطوة من الإصلاحات والتي يجب أن تكون روتينية. هذه الإصلاحات الطموحة ربما تبقى حبراً على ورق علماً أنّهم تغاضوا عن الأهم، والذي هو وقف الهدر واستعادة الاموال المنهوبة وايقاف عمل المجالس، لاسيما مجلس الانماء والاعمار ومجلس الجنوب و»إيدال» ودمجها مع وزارة الأشغال ضمن وزارة سيادية واحدة هي وزارة التخطيط، وخصخصة كلية أو جزئية لقطاعات ما زالت ومنذ 30 عاماً، تشكّل نزفاً في خزينة الدولة، وتشكّل قسماً كبيراً من تراكم الدين العام – شركة كهرباء لبنان.
اذا تغاضينا عن هذه الامور، ما هي إنجازات الحكومة العتيدة وعلى أي اساس سوف تواجه صندوق النقد الدولي. وصندوق النقد الدولي له شروط والتي نعرفها، وهي اقل ما يُقال فيها أنّها غير مريحة وتستوجب الكثير من شدّ الأحزمة والتنازل عن أمور كنا نراها ضرورية. ويخطر في البال دور صندوق الدولي مع اليونان، حيث اشترطت انغيلا ميركل وجوده لمساعدة اليونان واسعافها، ولمن لا يعلم، فشروطه هي التي طبّقوها في العديد من دول أميركا اللاتينية، لاسيما في النصف الثاني من العام 1989 والتي عُرفت لدى العديد بـ «مقررات واشنطن»، وهي مجموعة من الشروط وضعتها واشنطن، بما يعني صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والخزينة الأميركية لعديد من الدول في طور النمو، والتي تعتبر النيوليبرالية ضرورية. كذلك تخفيف دور الدولة في التدخّل في معظم الأمور الاقتصادية. بالمختصر مقررات واشنطن هي وبعبارة اخرى، الوصايا العشر التي يجب على الدول اتباعها من أجل تحفيز النمو والخروج من أزماتها. ولا اعتقد أنّ صندوق النقد الدولي وفي تعاطيه مع لبنان، له أجندة غير هذه الأجندة، والتي تُختصر بالتالي:
1- تخفيف عجز الموازنة واللجوء الى التنظيم الضريبي.
2- تخفيض الانفاق العام وتحويله نحو القطاعات المنتجة.
3- الإصلاح الضريبي وتوسيع دائرته وزيادة الضريبة على القيمة المضافة.
4- التحرير المالي مع أسعار فوائد يحدّدها السوق.
5- أسعار صرف تنافسية، وعدم تدخّل المصرف المركزي في سعر الصرف.
6- خصخصة قطاعات الدولة. وهنا لا بدّ من الاشارة الى أنّ صندوق النقد الدولي قد يطلب من ضمن الاولويات خصخصة قطاع الكهرباء، المسؤول عمّا يزيد عن 40 مليار دولار من عجز الدولة.
7- تحرير القطاعات المنتجة ورفع الدعم عن معظمها.
8- ترشيق القطاع العام، وهنا وجب القول إننا نشكو، وبسبب المحسوبيات والاستزلام، من فائض كبير في موظفي القطاع العام، وترشيقه يُعتبر من الاولويات.
وأخيراً «لا آخراً» (قانون قيصر) والذي وضعوه، هم يعلمون علم اليقين ما يتوجب على لبنان من خلاله وما يجب فعله، وهو أمر حتمي.
لذلك شئنا أم أبينا، هذه الشروط وضعت ليس فقط لدول أميركا اللاتينية، انما اشترطها صندوق النقد الدولي ومعه الدول المانحة، على كل بلد لديه النية في استعادة عافيته والتخلّص من ديونه واعادة التوازن الى موازنته.
لكن وبغض النظر عن كل ما حدث، وترحيب بعض الاقتصاديين والدبلوماسيين بالخطة، واعتبارها خطوة اولى نحو الانتعاش، علماً أنّهم ما زالوا مشككين في جدّية الدولة لخفض الإنفاق الحكومي واصلاح القطاع المصرفي، بعد سنوات وسنوات من التخاذل والتراجع. خصوصاً أنّ أموراً عدّة كان يمكن على الدولة أن تطبّقها، حتى قبل طلب مساعدة صندوق النقد الدولي، وقد يكون أهمها ترشيق القطاع العام، والذي بات عبئاً كبيراً في ظلّ التوظيفات العشوائية لأغراض حزبية وانتخابية بحتة. كذلك اجراءات جدّية لاستعادة الأموال المسروقة، وجميعها في أيدي جماعة لا تتعدّى الـ50 شخصاً من ذوي النفوذ ورؤساء الأحزاب والكتل وأصحاب المصارف.
ويأمل لبنان من خلال صندوق النقد الدولي والجهات الخارجية المانحة، الحصول على مساعدات بقيمة 10 مليارات دولار، علماً أنّها مشروطة بإصلاحات متوقفة منذ فترة طويلة، واجراء تغييرات جذرية في معالجة الفساد والهدر.
هذه هي الاسباب الأساسية للمشكلات الاقتصادية في لبنان. وكما ذكرنا، فإنّ صندوق النقد الدولي له شروطه وهي نفسها التي وضعت على اليونان، وأصرّت ألمانيا على تطبيقها، الأمر الذي جعل اليونان تمرّ في ضائقة كبيرة ولم تزل تتعافى منها، بعد مجهود كبير من الدولة والمجموعة الأوروبية وصندوق النقد الدولي.
وللذين يتآمرون على دور صندوق النقد الدولي ولا يريدونه نقول، إنّه الخيار الوحيد في ظلّ ما حدث ولا يزال يحدث، من محاصصات وتمريرات من هنا وهنالك، وكأننا نقتسم البلد قبل أن نجعله بلداناً عدة وطوائف، لكل منها بلدها الخاص، وسمّوها فيديرالية أو كونفدرالية أو تقسيماً لا يهمّ، طالما نراها بهذه العقلية الميليشيوية، ولا أستثني وللأسف واحداً منهم.
يعلم صندوق النقد الدولي وكذلك أوروبا، أننا نحاول تحرير مساعدات لإصلاح قطاعات هي في خطر، وقد تكون المصارف أول تلك القطاعات. والجهات المانحة، التي ساعدت لبنان في الماضي، لن تقدّم اي مساعدة مالية جديدة، ما لم تجرِ الدولة تغييرات جذرية، من معالجة الفساد والهدر وغيرهما.
لذلك، لا بدّ من القول إنّ الدولة، وفي ظلّ المحاصصات والرياء والكذب وحكومة اختصاصيين، بالقول وليس بالفعل، لن تستطيع السير قدماً في محادثات مع الهيئات المانحة، كونها غير جدّية ومفلسة، وما زالت لغاية الآن تحاول الهروب الى الأمام. ويبقى صندوق النقد الدولي الخيار الوحيد، ومشكلته مع لبنان، أننا غير جديين، وجئنا بحكومة أحزاب لتعلن افلاسنا دون أي شيء آخر.
في الختام، الصندوق يبقى الحل الوحيد، والمحاور اللبناني فشل في اقناعه بنيته المعالجة. لذلك لا نأمل خيراً. وقد تكون الأيام والأشهر المقبلة أسوأ بكثير من الآن، وسعر الصرف دخل في المجهول، والدولة غير آبهة الّا بمحاصصتها وإبراز قدرتها الإنشائية دون أي شيء آخر. ولن يكون اقناع المانحين بالأمر السهل، بل نقول إنّه مستحيل، و»قانون قيصر» جاء نقطة اضافية في جملة أمور لا تزال تلقّي بظلالها على دولة تدّعي الاصلاح.
بروفسور غريتا صعب.