هل دخل لبنان مرحلة مالية واقتصادية جديدة مع بدء تنفيذ خطة الخفض التدريجي لسعر صرف الدولار، وهي خطة قررتها السلطة السياسية، وتنفذها السلطة النقدية؟ وهل انّ الوضع بعد فشل «الانقلاب» الذي «كَشفه» رئيس الحكومة، سيكون أفضل أم أسوأ؟ وإلام سينتهي هذا النهج؟
ما جرى ويجري منذ 11 حزيران، لا يسمح بالاعتقاد انّ المشهد المالي والاقتصادي، وربما الأمني، سيبقى على حاله. وما أعلنه رئيس الحكومة حسان دياب، واعتباره انّ حكومته تعرّضت لمحاولة انقلابية تمّ إحباطها، يحمل الكثير من الاسئلة والاحتمالات والتداعيات. لكنّ المفارقة انّ نظرية الانقلاب والمؤامرة كانت القاسم المشترك بين اكثر من طرف، فيما انحصر الخلاف في تحديد هوية الانقلابيين وهوية الجهة المُستهدفة. وهكذا، كان هناك من يقول انّ الهدف هو رأس رياض سلامة، وكانت جهة اخرى تقول انّ المستهدف هو حكومة حسان دياب، وجهة ثالثة تشير الى استهداف العهد و»حزب الله»، والحلف بينهما…
تعدّدت الانقلابات في عقول الكثيرين، لكنّ النتيجة التي أفضَت اليها «الانقلابات»، وهمية كانت أم واقعية، تمثّلت في قرار سياسي جامع قضى بإلزام مصرف لبنان بالتدخّل في سوق الصرافة فوراً، عبر ضَخ كميات كافية من الدولارات كفيلة بوقف تدهور الليرة، ورفع سعر صرفها تدريجاً، وصولاً الى 3200 ليرة للدولار.
هذا النهج، الذي وضعت له ضوابط مبدئية لئلّا يؤدي الى هدر ما تبقى من احتياطي في صناديق المركزي، ومن ضمنها تحديد مبالغ أولية سيتم ضَخّها في السوق، لن ينجح كما هو مُخطّط له. والمقصود هنا، انّ المبالغ التي اتفق على ضَخّها (حوالى 30 مليون دولار اسبوعياً) لن تكون كافية لضرب السوق السوداء، وخفض سعر الصرف تدريجاً. وهنا ستبرز معضلة تحتاج معالجة، إذ انّ الاكتفاء بالتنفيذ الحرفي للخطة كما هي، وعدم رفع منسوب ضَخ الدولارات، سيؤدّي الى إعادة تنشيط السوق السوداء، وسيعود الوضع الى ما كان عليه قبل 11 حزيران، وستعود الأزمة الى المربّع الاول، بعد خسارة كمية من دولارات المركزي. أمّا اذا جرى اعتماد خيار رفع كميات الضَخ وصولاً الى تحقيق هدف الخطة، أي خفض فعلي للدولار الى 3200، والقضاء على السوق السوداء، عندها سنكون أمام كارثة حرق الوقت بدلاً من شرائه، وسيكون المشهد شبيهاً بما فعلناه في العام 2017، عندما كان البلد يقترب من الافلاس بخطى سريعة، فقررت السلطة «تسريع» الانهيار وأقَرّت سلسلة الرتب والرواتب، وأنجزت مهمة الافلاس بسرعة قياسية.
في هذا التوصيف، واذا كان القرار الذي سيُتخذ سيَستند الى علم الاقتصاد، ينبغي أن نتوقّع عدم ضَخ كميات اضافية من الدولارات، والاكتفاء بما فقدناه في هذه التجربة والانصراف الى معالجة الاسباب، بدلاً من التركيز على تَمويه النتائج في محاولة فاشلة لتجميلها. لكن، ولأنّ القرار سياسي، ولأنّ الصياغة التي استخدمت في إعلان الخطة بعد جلسة الحكومة الطارئة في 12 حزيران، توحي بأنّ المنظومة السياسية تركّز جهودها على محاربة الانقلابات وليس الفساد والسرقة والهدر، من المرجّح، وربما من المؤكد، انّ هذه السلطة ستُلزم مصرف لبنان بإنجاح خطة الخفض بأيّ ثمن. والثمن معروف، ولا يُخفى على أحد، تسريع الانهيار الشامل، والانتقال من المشهد المأساوي القائم حالياً، الى مشهد أشد سواداً وكارثياً بكل ما للكلمة من معنى.
في هذه الظروف هناك سؤال آخر مطروح: ما سيكون رأي خبراء صندوق النقد الدولي، في هذه الخطة، والطريقة التي اعتمدت لتنفيذها؟ وهل ستساعد هذه الخطة في تسهيل المفاوضات والوصول بها الى خواتيمها السعيدة، أم ستساهم في تعقيدها أكثر مما هي معقدة؟
لا حل لأزمة انهيار الليرة سوى من خلال البدء في تنفيذ خطة إنقاذية تعيد الامور تدريجاً الى مسارها الصحيح. والمسار الصحيح لأيّ خطة إنقاذ يبدأ باعتماد التسلسل الذي أعلنه رئيس الجمهورية في 12 حزيران الجاري، في تحديد المسؤوليات وتوزيع الخسائر على الشكل التالي: الحكومة (الدولة) مصرف لبنان والمصارف. وقد أرفق هذا التسلسل بتأكيد حماية ودائع الناس. وهذا ما أكده رئيس الحكومة حسان دياب أيضاً، في معرض كلمته التي أعلن فيها إحباط الانقلاب.
اذا كان رئيس الجمهورية مؤمناً بهذا التسلسل في تحديد المسؤوليات والخسائر في الأزمة المالية والاقتصادية التي وصل اليها البلد، واذا كان رئيس البلاد ورئيس الحكومة مُقتنعين، وتعهّدا بحماية ودائع الناس، فمَن وضع إذاً خطة الانقاذ الحكومية التي اعتمدت تسلسلاً مختلفاً لتوزيع الخسائر يَستثني أيّ مسؤولية على الحكومة، ويحصر توزيع الاضرار بالمودعين، من خلال تدمير القطاع المالي اللبناني؟
هناك تناقض في هذا الموضوع تستحيل معالجته سوى من خلال تصحيح الخلل في الخطة الحكومية، لأنّ تنفيذ تعهدات رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة يستوجب هذا التصحيح فوراً، أو التراجع عن هذه التعهدات لأنها تصبح غير واقعية، ولن يصدّقها عاقل.
انطوان فرح.