كيف يمكن إنقاذ لبنان؟

تصورات إنقاذ لبنان من ازمته المالية والاقتصادية تكاثرت، وعدد من المسؤولين السابقين بينهم وزراء تقدموا باقتراحات يعتبرونها مجدية، وسنعرض اقتراحين انطفأ اولهما والثاني لا يحتاج الى تعليق.

الاقتراح الاول كان من زياد الحايك الخبير الذي اختير للإشراف على الخصخصة في لبنان منذ اوائل القرن الحادي والعشرين، وبعد 16 سنة اكتفى بإصدار كتيب عن اصول عمليات التخصيص، وعرض مع خبير فرنسي اللجوء الى اقناع المودعين بتحويل جزء من مدخراتهم للاستثمار في صندوق وطني تُحوّل الحكومة عليه معظم الموجودات بيد الدولة غير المستثمرة او المستثمرة في شكل خاطئ، وسقطت الفكرة استنادًا الى عدم ثقة اللبنانيين باي ادارة تنشأ من السياسيين.

 

الاقتراح الثاني أعلنه الوزير السابق ناصر السعيدي وخبير سويسري، وعنوانه “الثروة الذهبية غير المكتشفة في لبنان”، وهما اعتمدا منهجاً مماثلاً لاقتراحات الحايك والامر العجيب انهما لا يدركان صعوبة شمل موجودات الدولة غير المستغلة او غير المستثمرة بنجاح في هيئة واحدة يشرف على اختيار اعضاء مجلس ادارتها اسوأ عهد اصابت اضراره غالبية اللبنانيين. بالتأكيد ثمة اقتراحات افضل منهما، الامر الذي نعرضه في هذا المقال.

اصبح الوضع الاقتصادي والمالي مخيفا، والمطلوب من نحو 300 الف متضرر تأمين امكانات السكن لمنازلهم ومكاتبهم وتأمين رواتب موظفيهم.

السلطة المتحكمة بمصير اللبنانيين ترفض الاعتراف بان عجز الكهرباء مدى عشر سنين توالى فيها رؤساء واعضاء من “التيار الوطني الحر” على وزارة الطاقة، تآكل 40 مليار دولار، ومع فوائدها على مستوى 6 في المئة يبلغ حجم تآكل الاحتياط 65 مليار دولار برعاية الحكم واصراره على قبول مشاريع للكهرباء لم تنتج طاقة اضافية على الاطلاق، في حين ان طاقة المولدات الخاصة التي تستهلك اكثر من محطات توليد الكهرباء من المازوت ارتفعت الى 1600 ميغاواط مقابل 1200 ميغاواط متوافرة لمصلحة كهرباء لبنان مع تشغيل الباخرتين.

يضاف الى ذلك هدر كبير وخسارة فاقعة لم يتم الانتباه اليها. فالمصرف المركزي يعزز كتب اعتماد استيراد مشتقات النفط، ومن ثم تخزن المستوردات في منشآت النفط الخاضعة لوزارة الطاقة والتي تعيد توزيع المشتقات.

الامر المخيف ان خبراء المصرف المركزي لا يطّلعون على تسليمات المشتقات، وبحسب تقديرنا فان مليوني طن من المازوت على الاقل تسرّبا او هُرّبا الى سوريا من دون ان يحصل مصرف لبنان على اية مداخيل. وبحسب تقديرنا ايضا على اساس تكاليف الاستيراد، نخسر ملياري دولار من هذا التصدير غير الشرعي. وبالتالي اذا اعتبرنا ان هذه الممارسة جارية منذ عام 2011 وتأسيس شركة نفط من قبل ابن خال الرئيس السوري في لبنان، علينا اضافة الى الـ65 مليار دولار، ان نزيد فاتورة التهريب الجاري منذ 8 سنوات ما يعادل 6.4 مليارات دولار، فتكون خسارة لبنان من احتياطه مساوية لـ71 مليار دولار كانت تكفي لتجهيز عشرات الآلاف من ميغاواط الانتاج.

السلطة المتحكمة بالشأن اللبناني لا تعترف بهذه المسؤولية وتريد الاستمرار في السلطة. والاكيد ان الاستمرار في السلطة او إطالة ممارسة الوزارة المستقيلة مهماتها البسيطة، امر يؤكد افلاس لبنان، وهذه السلطة ستوجه الاتهام الى الحاكم رياض سلامة بالذات.

في نهاية عام 2005 وبعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان الوضع الاقتصادي مقبولا. وعام 2006 وعلى رغم خسائر لبنان المادية والبشرية، ساهمت بلدان الخليج في دعم الاحتياط لدى مصرف لبنان واعادة إعمار قرى بكاملها ومشاريع تضررت مثل تدمير 12 مبنى في الضاحية الجنوبية، وعام 2008 حينما برزت الازمة المالية العالمية، حوّل المغتربون اللبنانيون 24 مليار دولار من حساباتهم في الخارج فارتفعت الودائع المصرفية بنسبة 25 في المئة وحقق لبنان نمواً عام 2009 (لان التحويلات تحققت اواخر عام 2008) بلغت نسبته للمرة الاولى منذ عشرين سنة 9 في المئة. كل ذلك لان الثقة بالحكم كانت مستمرة.

اليوم قدرات المصارف على تأمين اموال المودعين شبه معدومة، وبرامج التنقيط المتبعة وان كانت مقررة من مصرف لبنان للحفاظ على ما تبقى من قطاع المصارف، تؤدي الى تضييق الدورة الاقتصادية من جهة والى ارتفاع معدلات الاسعار، وهنالك حاجة ملحة لتجاوز هذه الوضعية، والمؤسسة الوحيدة القادرة على ذلك هي المصرف المركزي.

الخطة المطلوبة

ان اسس هذه الخطة وضعها المصرفي المميز مكرم زكور ورئيس الاقتصاديين لدى بنك بيبلوس نسيب غبريل الذي هو اقتصادي جيد.

تفترض الخطة اقتراض لبنان بما يساوي قيمة نصف احتياطه الذهبي لمدة سنتين بفائدة لا تتجاوز 1.5 في المئة سنويًا.

يتوافر من هذه المنهجية نحو 10 مليارات دولار، واذا كان الحكم يتقبل اصلاح وزارة الطاقة في شكل جذري، يصبح بالامكان اقتراض 10 مليارات من صندوق النقد الدولي، فتتوافر قدرات مالية تسمح بالتحرك المفيد الذي يؤدي الى نمو على مستوى 5 في المئة سنويًا.

واذا لم نحصل على قرض من صندوق النقد الدولي نستطيع تخصيص خدمات الهاتف الخليوي بشروط تؤمن ملياري دولار، وقد انجز نائب رئيس الوزراء سابقًا دراسة عن هذا الموضوع آمل تلخيصها في وقت قريب.

كذلك يمكن تخصيص 40 في المئة من مصلحة التبغ والتنباك، والتي قد تؤدي الى توافر مليار دولار بعد السماح بزراعة الحشيشة وتصنيعها وهذا ما حدث في كندا.

اخيرًا، أنجز فريق شبابي دراسة حول الحاجة لانتاج الكهرباء من حقول الالواح الزجاجية، ووجدوا ان من الممكن توليد 400 ميغاواط من حقل في البقاع يقع في املاك المصرف المركزي.

اضافة الى الخطوات المذكورة، يمكن تحفيز البنك الصيني التابع للدولة والبنك الاكبر دوليًا، على افتتاح فرع اساسي له في لبنان، خصوصا ان تجارتنا مع الصين تفوق أي تجارة اخرى مع بلد آخر وتبلغ 1.5-1.6 مليار دولار سنويًا، وبالإمكان تشجيع البنك الصيني عبر مباحثتهم في تملّك بعض البنوك ذات الاوضاع المقبولة، وتوفير سيولة ترسملية توازي 3-4 مليارات دولار. هذا الاقتراح تقدمتُ به شخصيا.

هذا هو البرنامج الذي اقترحه واتمنى السير به من قِبل مصرف لبنان اوعبر تعاونه مع هيئات دولية خاصة منها السوق الاوروبية حيث التعامل مع الصين مقبول من دون اعتراض.

ان من يمسك بطرف الحلول الثلاثة هو حاكم مصرف لبنان شرط ان يقر الحكم بان الهدر في وزارة الطاقة سيتوقف وان اصلاح قطاع الكهرباء سيصبح من مسؤولية إما شركة “سيمنز” الالمانية وإما شركة كهرباء فرنسا، شرط ان تكون الادارة في ايدي الشركتين او اكثر لان وضع وزارة الطاقة ومكاتب كهرباء لبنان اصبح مزريا، وحينئذٍ يمكن اضافة 10 مليارات دولارات من صندوق النقد الدولي الى حصيلة المبادرات الثلاث، فلا يعود هنالك خوف من العجز عن ايفاء القرض المضمون بقسم من احتياط الذهب.

د. مروان اسكندر

ذهب وبورصات وأفيال في الحجرات

يعكس ارتفاع سعر الذهب عبر التاريخ، توقعات عموم الناس بشأن التضخم وزيادة الأسعار، أما إذا كان الارتفاع شديداً، كما رأينا مؤخراً، فهذا يشير إلى أمر آخر أكثر خطورة، ألا وهو تردي الثقة بالعملات الدولية السائدة. إذ يلجأ الناس إلى الذهب، كما فعلوا من قبل في أزمنة الحروب، وتزايد مظاهر اللايقين والقلق من المستقبل وغموض احتمالاته. فالذهب ليس استثماراً جيداً في الظروف العادية التي تتوفر فيها بدائل الاستثمار في أصول وأوعية مالية وأنشطة اقتصادية مختلفة. فهو لا يمنح حامله عائداً كالسهم أو سعر فائدة كالوديعة أو السند. ولكنه يحقق لحامليه قيمة مكتنزة، إذا كان سعره غداً لن يقل عن سعره اليوم، ليحتفظ بقيمة المال في وقت التقلبات والأزمات.
ووفقاً لمجلس الذهب العالمي، فنصف الطلب المستمر على الذهب يأتي من استخداماته في صنع الحلي والمجوهرات، وتمثل الصين والهند نصف السوق العالمية. والرافد الثاني للطلب يقوده المستثمرون الذين زاد طلبهم على الذهب بمقدار 235 في المائة، خلال العقود الثلاثة الماضية. أما الرافد الثالث للطلب على الذهب، فقادته البنوك المركزية، خصوصاً المنتمية للأسواق الناشئة والاقتصادات النامية؛ حيث اشترت هذه البنوك 550 طناً في المتوسط سنوياً بعد الأزمة المالية العالمية. أما الرافد الرابع المتنامي منذ فترة هو استخدام الذهب في الصناعات الإلكترونية، ثم فتحت تكنولوجيا النانو آفاقاً لاستخدامات أوسع في الصناعات الهندسية المتقدمة ولاحتياجات الطب والطاقة المتجددة. لكن المحددات الأهم لسعر الذهب وتغيراته يدفعها الطلب عليه لأغراض المضاربة على سعره، في ظل عرض مقيد بحدود إمكانات استخراجه والتحكم في المعروض منه. أما التغيرات الحادة في سعره كالتي نشهدها اليوم، فتدفعها ظروف عدم الثقة واللايقين.
في الماضي القريب، تعرض سعر الذهب لموجات ارتفاع حادة إبان انخفاض التوقعات في قيمة الدولار، بسبب التضخم المدفوع بأسعار البترول في أواخر السبعينيات بعد الثورة على حكم الشاه في إيران، بما هدَّد استقرار الدولار كعملة دولية. وجاءت الموجة الثانية الكبيرة في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وما صاحبها من تبعات سياسية واقتصادية التي وصلت ذروتها في عام 2011، بالخلاف في الكونغرس حول مستقبل الدين العام وسقفه، متزامناً ذلك مع الأزمة في نطاق اليورو التي هدَّدت استمرار الاتحاد الأوروبي. وفي هذه الأثناء ثارت تساؤلات حول مستقبل العملتين، الدولار واليورو، كعملتين دوليتين تشكلان حوالي 60 في المائة و20 في المائة تقريباً من الاحتياطي النقدي الدولي على الترتيب.
كان اللجوء للذهب مدفوعاً بأغراض التحوط والمضاربة، ففي الفترة التي شهدت فيها البورصات انخفاضاً بحوالي 57 في المائة من أكتوبر (تشرين الأول) 2007 حتى مارس (آذار) 2009، ارتفع سعره بحوالي 26 في المائة، وواصل ارتفاعه بعد تقلب في أسعاره حتى تجاوز سعره 1920 دولاراً، ثم بدأ في التراجع حتى وصل سعره إلى 1200 دولار، مع إعلان الفيدرالي الأميركي في عام 2013 نهاية سياسات التيسير النقدي.
وفي مطلع هذا العام، كان سعر أوقية الذهب 1520 دولاراً تقريباً، وبعد أزمة «كورونا» وتداعياتها تجاوز سعره 2000 دولار للأوقية الواحدة. حدث ذلك مع ما شهده الدولار من تراجع أمام العملات الرئيسية بسبب انكماش الاقتصاد الأميركي، والإخفاقات في التصدي لجائحة «كورونا»، واستمرار تصاعد التوترات الجيوسياسية، وشدة الاختلافات المحلية حول السياسات العامة، قبل أسابيع معدودة من الانتخابات الرئاسية.
وتتصاعد التساؤلات مجدداً حول مدى قيام الدولار بدوره كعملة دولية، ومستقبله كعملة احتياطي للبنوك المركزية حول العالم. وتُبرز تعليقات الدوريات المالية والاقتصادية تزايد تخلي بعض الدول في صادراتها عن الدولار في تسوية معاملاتها. فروسيا الاتحادية، على سبيل المثال، زادت نسبة متحصلاتها باليورو عن صادراتها إلى الاتحاد الأوروبي من 38 في المائة إلى 43 في المائة، خلال الستة أشهر الماضية، كما لجأت دول آسيوية لتسوية تجارتها البينية بعملاتها المحلية، مع تزايد استخدام اليوان الصيني في المعاملات الدولية، حيث أصبح خامس عملة في التداول، سابقاً الفرنك السويسري، وإن كانت نسبته لم تتجاوز بعد 2 في المائة من إجمالي التداول الدولي؛ ولكنها في تقديري مسألة وقت، كما اعتدنا في العقود الأخيرة بشأن نمط تطور الأداء الاقتصاد الصيني ومنافسته عالمياً.
ورغم ارتفاع سعر الذهب، فإنه لم يستطع الاحتفاظ بسعر 2000 دولار، كما تأرجح سعره بفعل المضاربة ودخول مستثمري التجزئة، وكثير من المغامرين، فبعد ارتفاع إلى 2080 انخفاض بمقدار 200 دولار، حتى وصل إلى 1880 دولاراً بين 6 أغسطس (آب) حتى 11 أغسطس، ووصل سعره اليوم وأنا أكتب هذا المقال إلى 1940 دولاراً بنسبة زيادة بلغت 28 في المائة منذ بداية العام، لعلك تقارنها بسعر فائدة يقترب من الصفر على الودائع الدولارية، ولكن الأمر لن يخلو مستقبلاً من موجات تصحيح في أسواق الذهب والبورصات أيضاً.
فبعد ارتفاع قياسي العام الماضي في البورصات العالمية بلغ 29 في المائة، تعرضت البورصات لانخفاض شديد، وتقلب في أسعارها، بعد اندلاع أزمة «كورونا» استمر لأسابيع، ثم اتخذت اتجاهاً صعودياً عوضت به خسائرها. تتكاثر التبريرات حول صعود البورصات، رغم الأزمات الصحية والاقتصادية الراهنة. كذكرهم أن المتعاملين في البورصات يتطلعون للمستقبل على مدى 12 إلى 18 شهراً، وليس الأوضاع الراهنة التعيسة للاقتصاد؛ وأن البورصات مدفوعة بشركات التكنولوجيا الكبيرة، «أمازون» و«أبل» و«مايكروسوفت» التي ارتفعت أسهمها بنسب 80 في المائة و60 في المائة و35 في المائة على الترتيب؛ وأن هناك من يراهن على وجود عقار ناجع لـ«كورونا» في وقت قريب؛ وأن الأموال السائلة التي ضختها البنوك المركزية لم تجد لها وعاءً أفضل من الأسهم؛ وأن مزيداً من هذه الأموال السائلة في الطريق بما يزيد من الطلب على الأسهم. فبمثل هذه التفسيرات يبرر البعض ازدهار البورصة، رغم ركود في الاقتصاد يقترب به من حافة الكساد!
وفي هذا الصدد يطرأ بإلحاح ذكر تعبير يعبر عن حالة يكون الناس فيها مدركين لوجود مشكلات كبرى، ولكنهم ينزعون إلى تجاهلها عمداً، فيما يعرف مجازاً «بالفيل في الحجرة». وهو تعبير جاء على لسان الشاعر الروسي إيفان كريلوف في القرن التاسع عشر، الذي وصف به زائراً لمتحف لاحظ وعاين كل مقتنياته الصغيرة، وتاه عنه ذكر الفيل الكبير الذي يتصدر أروقته. ولا يمكن بحال، الادعاء بعدم رؤية أفيال من التداعيات الكبرى للأزمات الراهنة، وتأثيرها على حياة الناس، ومعيشتهم، مع ارتفاع أرقام البطالة والفقر والديون.
يبدو أن الأزمات المتزامنة التي حلت بالعالم أربكت أولويات التعامل معها، وقد تكون باعثة على الضجر من إجراءات التصدي لها. ومع الاعتياد على وجودها تنتشر مظاهر للتهاون في احتوائها، ويتزايد الركون إلى الظنون والتخرصات على الاحتكام إلى الحقائق والاستعانة بالعلم. فمع تفشي وباء كورونا، واقتراب عدد ضحاياه من مليون إنسان من إجمالي يتجه نحو رقم 25 مليون مصاب في 188 دولة حول العالم، لا يمكن تجاهل أولوية الرعاية الصحية الأولوية، وتدبير وسائل الحصول على العقار المضاد لـ«كورونا» في الإنفاق العام، لكي يصل لكل شخص من دون استثناء. ومع عدم وجود للقاح معتمد دولياً ضد الفيروس، سيظل الأثر الاقتصادي السلبي مرتفعاً بتكلفة يتحملها اليوم أكثر من 400 مليون متعطل، وفقاً لمنظمة العمل الدولية، واقتراب رقم من يعانون من الفقر المدقع من مليار إنسان. وفي هذه الأثناء ترتفع المديونات العامة مع احتمالات لتزايد حالات التعثر للدول والإفلاس للشركات.
هذه التحديات الكبرى لن يحتويها زيادة الذهب لمعاناً وسعراً، أو ارتفاع سعر صرف عملة مقابل أخرى، أو أن تحطم البورصات المالية أرقاماً غير مسبوقة؛ بل يسهم في التصدي لها سياسات محكمة الأولويات، تتصدى للأزمات الطارئة من دون إهدار لقواعد التعافي المستدام فتحقق نمواً في الاقتصاد يخفض من البطالة والفقر، ويتجه بها إلى تمويل التنمية، حيث يجب أن يكون مستثمراً في قطاعات الصحة والتعليم والمرافق الأساسية، بما في ذلك ممكنات التحول الرقمي والتنافسية في عالم شديد التغير.

د. محمود محيي الدين

توقعات بتوازن أسواق النفط

توالت توقعات كبرى مؤسسات الطاقة العالمية خلال الأسبوع الماضي حول إمكانية استقرار أسواق النفط، بعد الانتكاسة في الصناعة إثر جائحة (كوفيد – 19) وقد استهل وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان هذه التوقعات، في كلمته للجنة المراقبة الوزارية المشتركة لمجموعة «أوبك بلس» في اجتماعها عبر «الفيديو كونفرنس» الأسبوع الماضي، بقوله إن «الأشهر الثلاثة الأخيرة الماضية شهدت تحسنا كبيرا في أساسيات أسواق النفط العالمية، مما يؤكد أننا على الطريق الصحيح». وتابع: «استنادا إلى توقعات المؤسسات المختلفة، بما في ذلك منظمة أوبك ووكالة الطاقة الدولية، فإن التقديرات تشير إلى أن العالم سيصل إلى نحو 97 في المائة من الطلب على النفط من مستويات الطلب ما قبل انتشار الوباء خلال الربع الرابع من العام الحالي».
كما أشار الأمير عبد العزيز بن سلمان إلى علامات أخرى إيجابية، مثل استمرار هبوط معدلات التخزين ومستوى مخزون النفط الخام البري أو العائم في الناقلات، وصولا إلى التعافي السريع في الطلب على المنتجات البترولية مثل البنزين والديزل في عدد كبير من دول العالم.
من جانبها، عزت وكالة الطاقة الدولية احتمال توازن الأسواق إلى استقرار تسجيل حالات «كوفيد – 19» المؤكدة حول العالم بمعدل 280 ألف حالة يوميا. وتضيف الوكالة أنه رغم أن هذا المعدل العالي من الحالات المؤكدة يفوق ما تم تسجيله في بداية تفشي الوباء، فإن استقرار هذا المعدل قد شجع العودة في كثير من دول العالم إلى الحياة الاعتيادية والانخراط في الأعمال اليومية، مع اتخاذ التدابير الوقائية الاحتياطية بقدر الإمكان من استعمال كمامات الوجه والتباعد الاجتماعي والفحوص الطبية اللازمة. كما أشارت الوكالة إلى الانخفاض الحاصل في الإمدادات، حيث سجل الإنتاج الأميركي في شهر مايو (أيار) الماضي نحو 10 ملايين برميل يوميا، مما يدل على انخفاض بنحو 3 ملايين برميل يوميا عنه في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2019.
وأشارت إدارة معلومات الطاقة التابعة لوزارة الطاقة الأميركية في الأسبوع الماضي إلى أن المخزون النفطي التجاري الأميركي قد انخفض قبل أسبوعين حوالي 1.63 مليون برميل ليسجل 512.45 مليون برميل، ليصبح فائض المخزون الأميركي 15 بالمائة أكثر من معدله للسنوات الخمس الماضية. وأشارت المعلومات الصادرة عن الشركات النفطية اليابانية، إلى أن اليابان قد استعادت 71.8 في المائة من طلب البلاد على النفط في منتصف شهر أغسطس (آب)، وأن هذا هو أعلى معدل للطلب الياباني منذ 16 أسبوعا.
وتدل معلومات دائرة أبحاث بنك ستاندرد تشارترد على أن «سوق النفط العالمية قريبة جدا من توازن العرض والطلب»، وأن الطلب في شهر أغسطس، ولأول مرة منذ 11 شهرا، قد فاق العرض بنحو 355 ألف برميل يوميا.
من الواضح مع عودة الأسواق إلى توازنها في هذه الفترة المبكرة، حيث لا تزال جائحة «كورونا» متفشية، أن هذا التطور لم يحدث بالصدفة. فهناك عوامل ثلاثة لعبت دورا أساسيا في سرعة التوصل إلى استقرار الأسواق. أولا: اتفاق منظمة أوبك مع دول مصدرة أخرى لتأسيس مجموعة «أوبك بلس»، حيث توسعت رقعة الدول المخفضة للإنتاج إلى 24 دولة بدلا من أقطار أوبك فقط. ثانيا: الالتزام الواسع بتعهدات التخفيض من قبل هذه الدول. ومحادثات رئيس منظمة أوبك مع الدول التي أنتجت أكثر من حصتها في بادئ الأمر، العراق ونيجيريا، والتوصل إلى حلول وسطى بأن تخفض هاتين الدولتين إنتاجهما في أشهر لاحقة لتعويض زيادتهما للإنتاج. ومن اللافت للنظر أن وسائل الإعلام التي تراقب جهود الدول المصدرة حول محاولات تخفيض الإنتاج لم تشكك بالأرقام الصادرة عن مجموعة «أوبك بلس»، الأمر الذي وفر مصداقية غير مسبوقة لمنظمة أوبك وحلفائها في «أوبك بلس». أخيرا: شكل تعاون السعودية وروسيا الوثيق، في الوصول إلى اتفاق تخفيض إنتاج مجموعة «أوبك بلس»، الدعامة الأساسية لنجاح الدول المصدرة. ومن المعروف أن هاتين الدولتين هما في نادي كبار المنتجين، لذا فإن تأثيرهما على الأسواق الدولية وعلى بقية المصدرين كبير ومهم لنجاح الاتفاق.
ورغم جميع هذا النجاح الذي تحقق حتى الآن، تبقى هناك تحديات مهمة خلال الأشهر المقبلة. والتحدي الأول: ما مدى انتشار (كوفيد – 19) والحاجة للانكفاء المنزلي ثانية؟ وما هو تأثير العودة إلى المدارس والجامعات خلال الشهرين المقبلين؟ وما هي سرعة إعادة آبار النفط الصخري الأميركي للإنتاج ثانية؟ وهل ستعود إلى طاقتها القصوى في القريب العاجل؟ ستلعب الأجوبة عن هذه الأسئلة دورا مهما في التأثير على الأسوأ. كما يجب توقع تغييرات في معدلات الأسعار لأسباب أخرى، جيوسياسية أو اقتصادية – صناعية، مما قد يؤدي إلى تباطؤ ارتفاع الأسعار أو حتى تراجعها عن مستواها الحالي الذي يتراوح ما بين 40 إلى 45 دولارا لبرميل نفط برنت.

وليد خدوري