خمسة أشهر مفصلية تقرّر مصير اللبنانيين لسنوات طويلة الى الامام. ما سيُرسم في هذه الاشهر المتبقية من 2020 سيكون بمثابة خريطة طريق للسنوات العشر المقبلة، وربما أكثر، وفق ما قد يستجدّ من تطورات في المشهد الاقليمي.
في الايام القليلة الماضية تتردّد «نغمة» مفادها أن لا خوف من المجاعة أو انقطاع المحروقات وغياب الكهرباء، لأنّه في اللحظة التي يعلن فيها مصرف لبنان انّ الاموال الاحتياطية نضبت، وانّه لم يعد قادراً على فتح اعتمادات لاستيراد المواد الاستراتيجية مثل الطحين والمحروقات، سوف تتدفق الى لبنان المواد الغذائية الاساسية بالإضافة الى المحروقات من ايران، عبر الحدود السورية. طبعاً، في حال المجاعة، سيكون اللبناني مرحِّباً وممتناً لأي مساعدة تُبعِد عنه هذه الكأس، سواء تدفقت هذه المواد من ايران، ام من دول اخرى صديقة، بهدف قطع الطريق على الجمهورية الاسلامية للسيطرة على لبنان بواسطة الغذاء. لكن، اذا وصلنا الى هذا الواقع يكون البلد قد انتهى واقعياً، وعلينا أن نتوقّع سنوات طويلة عجاف، لن تكون الحياة خلالها تشبه لبنان الذي عرفناه.
الى الوضع المعيشي القاسي، ستتوالى المآسي التي تتزامن في العادة مع ظروف مماثلة، مثل الانهيار التام لسعر صرف العملة الوطنية، حيث يصبح سعر الدولار بلا سقف تقريباً، وتُصاب المؤسسات في القطاع الخاص بمزيد من الانهيارات، وترتفع أعداد العاطلين من العمل الى مستويات مرعبة، ويتحوّل المشهد المجتمعي الى مشهد اسود ومضطرب، مع ما قد يرافق ذلك من ارتفاع منسوب الجرائم والسرقات على أنواعها…
بصرف النظر عن نظريات المؤامرة التي تعتبر ان ما يجري مُخطّط له، ويهدف الى تسهيل مهمة ضمّ لبنان رسمياً الى محور الممانعة، أو النظرية المضادة التي تتحدث عن مؤامرة لإخضاع «حزب الله» من خلال إخضاع اللبنانيين، لحثهم على الوقوف في وجه الحزب، فانّ ما هو مؤكّد أنّ البلد لا يزال يمتلك الفرصة للنجاة، ولو بأضرار لا بدّ منها، لأنّ الخسارة وقعت، ولا مجال للعودة الى الوراء.
الفرصة المتاحة اليوم، ترتبط بالاتفاق على خطة انقاذية للعودة الى صندوق النقد في أسرع وقت، والاتفاق على برنامج مساعدة. وعلى عكس ما يعتقده البعض، المشكلة ليست في توحيد أرقام الخسائر، ولا حتى في توزيع هذه الخسائر، بقدر ما تكمن في الإفادة من الظرف الضاغط، لإلزام الدولة بتأسيس صندوق سيادي لإدارة موجودات القطاع العام. هذا الوضع المأساوي القائم حالياً، ينبغي ان يشكّل فرصة ذهبية لتحقيق ما عجز عنه اللبنانيون لسنوات طويلة في وقف الهدر والفساد ونهب المال العام، حتى وصل البلد الى الإفلاس.
ولا حاجة الى التذكير بأهمية الصناديق السيادية في العالم التي تؤمّن ارباحاً متراكمة للشعوب والدول، وفي مقدّمها صندوق النروج الذي تجاوزت قيمته التريليون دولار، بالاضافة الى كل الصناديق السيادية والتي تحقق نسب ايرادات مُرضية.
لا يختلف اثنان على أنّ املاك وموجودات الدولة ومؤسساتها تُدار بشكل سيئ، ويختلط في ادارتها الفساد بالإهمال بقلة الضمير، بما ينتج قحطاً في المداخيل للخزينة. بالاضافة الى انّ قسماً من املاك الدولة يهيمن عليه افراد ومجموعات انطلاقاً من «أنّ المال السايب يعلّم الناس الحرام». وبالتالي، قد تكون الكارثة المالية التي حلّت بالبلد مناسبة لإنقاذ موجودات الدولة، من خلال احصائها وتقدير قيمتها ووضعها تحت ادارة رشيدة يشارك في القسم الاكبر منها القطاع الخاص. واذا تمّ التعاطي مع هذا الموضوع بجدّية واحترافية، وتمّ تسليم دفة القيادة الى الأدمغة اللبنانية المُبدعة في مجال ادارة الاستثمارات حول العالم، وبالتعاون مع الخبرات الأجنبية، وتمّ الانضمام الى المنتدى الدولي للصناديق السيادية، International Forum for Sovereign Wealth Funds (IFSWF) فإنّ المداخيل التي يمكن تأمينها ستكون كفيلة بتشكيل نواة صلبة في خطة الخروج من النفق، وصولاً الى مرحلة التعافي.
ما تحققه استثمارات الصناديق السيادية ينبغي ان يشجّع على سلوك هذه الطريق. والمعدل الوسطي للايرادات يصل الى 8 في المئة سنوياً، بما يعني انّ موجودات الدولة، واذا افترضنا انّ قيمتها تصل الى 40 مليار دولار، قد تدرّ على الخزينة حوالى 3,6 مليارات دولار سنوياً.
طبعاً، الى جانب الاستثمار المجدي للموجودات، ينبغي التركيز على نقل ادارة المؤسسات الرسمية الى ادارة مختلطة بين القطاع الخاص والعام، لخفض منسوب الهدر والفساد، وإدخال عقلية عصرية مختلفة تنقل الادارة من مكان الى مكان آخر مختلف تماماً.
خمسة أشهر تقريباً تفصلنا عن مرحلة الانتقال الى مشهد آخر. اذا استهلكنا ما تبقّى من العام 2020 بالطريقة نفسها التي استهلكنا فيها الاشهر الخمسة الماضية منذ اعلان «الافلاس» في مطلع آذار الماضي، ستكون الكارثة مُرعبة، وما نعتبره حالياً وضعاً مأساوياً قد نترحّم عليه، ونشتهي العودة الى مندرجاته، مقارنة بما قد نعانيه بعد انقضاء فترة الفرصة الأخيرة.
انطوان فرح