تُبرز أرقام المالية العامة التي صدرت حتى الآن أزمة عجز متفاقم، يعكس انكماشاً اقتصادياً يُنذر بكارثة، خصوصاً على مستوى التراجع الذي يسجله القطاع الخاص الذي يعني انّ مستويات البطالة سوف ترتفع باضطراد، وسيزيد الضغط المعيشي على الناس.
تعتمد إيرادات الدولة بشكل أساسي على الضرائب والرسوم التي تستوفيها من القطاع الخاص من أجل تمويل نفقاتها التشغيلية وليس الاستثمارية، وهي حالياً تتمثّل برواتب وأجور القطاع العام وتمويل عجز الكهرباء، بعد ان تراجعت بشكل كبير كلفة خدمة الدين العام (-50 %) إثر تعثّر الدولة عن سداد ديونها في آذار الماضي وتوقفها عن تسديد الديون الخارجية واقتصارها فقط على تسديد ما يوازي مليار دولار من فوائد على الديون الداخلية.
وبالتالي، فإنّ القطاع الخاص ومؤسساته وشركاته، التي أقفل اكثر من 50 في المئة منها لغاية اليوم، هي المموّل الوحيد للدولة في ظل انعدام التدفقات المالية من الخارج والقضاء على السياحة، علماً انّ تراجع نشاط القطاع الخاص بهذه النسبة يعني تسريح موظفين بالنسبة نفسها وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، في حين انّ القطاع العام الذي يشكل جزءاً اساسياً من عجز المالية العامة، والتي تشتهر إداراتها بالفساد والمحاصصة والهدر وعدم الانتاجية، ما زال عدد الموظفين فيه على حاله، رغم انّ نسبة كبيرة منهم تتقاضى رواتب مقابل وظائف وهمية.
في النتيجة، يستمرّ موظفو قطاع العام بقبض رواتبهم رغم تراجع قدراتهم الشرائية بسبب تدهور قيمة العملة المحلية، في حين انّ موظفي القطاع الخاص يخسرون مردودهم الشهري على حساب تمويل عجز الدولة من خلال طبع العملة، وبالتالي ارتفاع التضخم الذي يؤدي بطبيعة الحال الى تعثّر مؤسسات القطاع الخاص ويتسبّب في إقفالها.
وفي التفاصيل، تراجعت ايرادات الدولة في النصف الاول من العام الحالي حوالى 20 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي الى حوالى 4 مليارات دولارات (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) مع تراجع الايرادات الضريبية 28 في المئة والايرادات غير الضريبية بنسبة 30 في المئة. في المقابل، تراجعت نفقات الدولة بنسبة حوالى 20 في المئة ايضاً الى حوالى 6 مليارات دولار (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) ليبلغ عجز الموازنة حوالى 2.2 مليار دولار بما نسبته 32.52 في المئة من مجموع النفقات.
في هذا الاطار، أوضح الخبير الاقتصادي بيار الخوري ان العجز ارتفع من 29.60 في المئة الى 32.52 في المئة في النصف الاول من العام 2020، مما يعني انّ انخفاض الايرادات لم يقابله انخفاض مماثل في النفقات «وهو امر طبيعي لأن نفقات الدولة لا تتمتّع بالمرونة ذاتها للايرادات، ورغم انها تراجعت هذا العام بالقيمة الاسمية بالليرة اللبنانية، فهي تبقى نفقات غير مَرنة، اي انه لا يمكن ان تشهد المزيد من التراجع».
وقال لـ«الجمهورية» ان ارقام المالية العامة تشير الى ان الانفاق على مؤسسة كهرباء لبنان تراجع بالفِعل من 720 مليون دولار الى 435 مليون دولار (وفقاً لسعر الصرف الرسمي) نتيجة تراجع استيراد النفط وتراجع اسعار النفط، وبالتالي فهذا التراجع هو عنصر غير ثابت. لافتاً الى ان النفقات العامة ما زالت على حالها عند حدود 4.7 مليارات دولار، وهي الجزء الاساس من الانفاق العام وبمرونة صفر، أي انه لا يمكن خفض هذه القيمة.
وبالنسبة لكلفة الدين العام، اعتبر الخوري انه لا يوجد انخفاض حقيقي في خدمة الدين العام الداخلي حيث تراجعت من 1.5 مليار دولار في النصف الاول من 2019 الى مليار دولار في النصف الاول من 2020 (سعر الصرف الرسمي)، موضحاً انّ التراجع في خدمة الدين العام مردّه الى انخفاض نفقات الفوائد على الديون الخارجية من 1.0 مليار دولار الى 135 مليون دولار نتيجة توقف الدولة عن الدفع.
ولفت الخوري الى انّ القيمة الحقيقية لتراجع حجم النفقات يجب ان يتم احتسابها وفقاً لسعر صرف العملة في السوق السوداء، أي ان كلفة الاجور البالغة 4.7 مليارات دولار وفقاً لسعر الصرف الرسمي عند 1500 ليرة، تبلغ اليوم فعلياً 884 مليون دولار، مما يؤكد ان الدولة تلجأ الى حل أزمتها عبر التضخّم ومن خلال انهيار سعر الصرف.
وأشار الى ان القيمة الفعلية للايرادات تراجعت ايضا وفقاً لسعر الصرف العائم، وانّ ترجمة الموازنة وفقاً لسعر الصرف في السوق السوداء يدلّ على انّ حجم الموازنة تراجع بنسبة 80 في المئة من ناحية الايرادات والنفقات.
واكد ان هناك قراراً بتمويل عجز الدولة من خلال طبع العملة، وهو امر جَليّ من خلال مراقبة حجم الكتلة النقدية المعروض M0 الذي ارتفع بشكل جنوني منذ تشرين الاول 2019 لغاية تموز 2020 حيث بلغ 19101.40 مليار ليرة مقارنة مع 17817 مليار ليرة في حزيران 2019. موضحاً انّ نسبة الارتفاع في القاعدة النقدية مماثلة لنسبة زيادة التضخم ونسبة تراجع سعر صرف العملة المحلية في السوق السوداء.
رنى سعرتي