عن خرافة السفينة الواحدة

شاع في بدايات أزمة «كورونا» أن الجائحة قد ساوت بين الناس في تعرّضهم لمخاطرها، وأن موبقاتها التي اجتاحت العالم لم تفرّق بين أغنى الدول وأفقرها، فعطلت الحياة في أكثر المدن ثراءً وأشد القرى فقراً. وانتشرت مقولة بأن الإعصار قد طال ركاب سفينة العالم من دون تمييز، وعلى الرغم مما في هذه المقولة من تهافت لتجاهلها حقائق التفاوت بين الناس من حيث الدخول والثروات والفرص والإمكانيات، فإنها انتشرت انتشار الوباء نفسه.
وتكمن خطورة مثل هذه المقولات المرسلة، متباينة البواعث والأغراض والنيات، في أن يتلقفها البعض فيوجّهون بها سياسات وموارد في غير وجهتها الواجبة، كما حدث من قبل في أزمات سابقة تسللت، في ظل الارتباك والصدمة، بمقولات مماثلة بعواقب وخيمة الآثار. وليست الأزمة المالية العالمية عنا ببعيد، حيث استفاد من حزم الإنقاذ الممولة من دافعي الضرائب أو بديون تحملها عموم الناس، مؤسساتٌ مالية وشركات كان بعضها شريكاً في صنع الأزمة بين جشع وتلاعب، فاختصمت من موازنات الدول مخصصات كان الأولى بها أن توجَّه إلى التعليم والرعاية الصحية ونظم الضمان الاجتماعي ومشروعات البنية الأساسية.
وللتذكرة، فإن أزمة الجائحة قد جاءت على عالم يعاني من هشاشة في اقتصاده، وأزمة ثقة سياسية بين أطرافه، وتوتر جيوسياسي وصراعات وحروب شهدها بعض أقاليمه من خلال حروب الوكالة وبتأجيج الفتن العنصرية والطائفية. كما تجاهل بعض قادة هذا العالم الأخطار المهددة لبقائه بتدهور مقومات المناخ والبيئة، غاضّين الطرف عن شواهد وأدلة علمية عن أثر هذا كله على الحياة بشح المياه ونقصان الغذاء، ومدى صمود المدن الساحلية خصوصاً في الدول النامية بارتفاع مستويات البحار والمحيطات، ناهيك باندثار جزر بأكملها.
ويبدو أن مروّجي مقولة السفينة الواحدة تناسوا أن 26 شخصاً فقط يستحوذون على نصف ثروات سكان العالم، وأن أكثر من ثلثي سكان العالم يعيشون في اقتصادات تزايدت فيها مؤشرات عدم العدالة في توزيع الدخل، وأن المؤشرات متعددة الأبعاد للفقر وفرص التنمية ازدادت سوءاً عند الأخذ في الاعتبار عناصر الجنس واللون والنوع الاجتماعي والأصول الاجتماعية والانتماء العرقي. وفي حين يجدر النظر إيجابياً إلى ما يمكن أن تُحدثه تكنولوجيا المعلومات من وثبات نوعية في حياة البشر من حيث التعلم واكتساب المهارات والمنافسة في الأسواق، فإن غياب خدمات الإنترنت عن 40% من البشر، والافتقار إلى النوعية فائقة السرعة عن نسبة أكبر، ينذر بتكريس وجه جديد من عدم العدالة بالحرمان من اكتساب المعارف وخدمات الشمول المالي والتجارة الإلكترونية والعمل.
وقد غاب عن أنصار مقولة السفينة الواحدة أنه من الإرشادات الصحية المتفق عليها للوقاية من الوباء هي غسل الأيدي والتباعد الاجتماعي، ولكن أنَّى للمحرومين من المياه النقية البالغ عددهم 2.2 مليار إنسان الالتزام بهذه التوصية، وضِعف عددهم محروم من خدمات المرافق الصحية ودورات المياه، وهم إنْ مرضوا سيواجَهون بحقيقة أن 25% من مراكز الرعاية الصحية المكدسة المخصصة لهم تفتقر إلى خدمات المياه الأساسية، وتلكم الأرقام مذكورة بتقارير صادرة قبيل الأزمة عن الأمم المتحدة و«يونيسيف» ومنظمة الصحة العالمية؟
ولا أحسب أصحاب مقولة السفينة الواحدة على دراية بأن أرقام من يعانون الفقر المدقع قد زادت لأول مرة منذ عام 1998 بمائة مليون إنسان دفعة واحدة، وفقاً لتقرير صادر عن البنك الدولي. ولعلهم لم يطّلعوا على التقارير المتوالية الصادرة عن منظمة العمل الدولية التي حددت خسارة سوق العمل ما يقترب من 500 مليون عامل فقدوا وظائفهم في القطاعات الرسمية المسجلة وأضعاف هذا الرقم في القطاع غير الرسمي.
ربما ضلّ أصحاب شعار السفينة الواحدة وهم يرون الناس في أمواج هائجة لعاصفة الجائحة فحسبوا أنْ لا فرق هناك بين ركاب سفن متينة الأركان، وأصحاب يخوت فاخرة سريعة المراوغة، وجموع من عموم الناس تتكدس في مراكب تميد بهم، وآخرين يتعلقون بحطام خشية الغرق.
حذّر من هذا الالتباس وتداعياته الأمينُ العام للأمم المتحدة في كلمته بمناسبة ذكرى الزعيم الأفريقي مانديلا في شهر يوليو (تموز) الماضي، داعياً إلى التعاون من أجل تخفيف وطأة آثار الجائحة على الأكثر تضرراً. هؤلاء الذين ستستمر معاناتهم من أزمة «كورونا» اقتصادياً حتى بعد احتوائها المنشود صحياً بافتراض توفير لقاح ناجع تصنيعاً وتوزيعاً، بعد اعتماده رسمياً، بما يحتاج إليه ذلك من تجسير فجوة تمويل تبلغ 34 مليار دولار لآلية تديرها منظمة الصحة العالمية التي تتابع تطوير 9 أنواع من اللقاحات الواعدة.
لا ينبغي أن تضل بنا خرافات السفينة الواحدة عما يعانيه عموم الناس من تهديد لحياتهم ولأسباب معيشتهم، خصوصاً مع استمرار لركود اقتصادي مصاحَب بتزايد احتمالات أزمة مالية، لن تمنعها مسكنات تسويف إرجاء أقساط الديون، رغم أهميتها في الأجَل القصير الذي لا يحتمل مزيداً من الآلام بتوجيه الموارد المحدودة للدول لسداد أقساط دائنين يتحملون الانتظار إلى حين. ولكن المسيرة المطلوبة لسداد الديون يعوقها تراجع النمو وزيادة البطالة واستمرار عدادات احتساب الفوائد المتراكمة على المتعثرين في ظل تجاوز المديونية العالمية رقم 300 تريليون لهذا العام، ارتفاعاً من 285 تريليون في ربعه الأول مع انكماش في الاقتصاد الدولي بمقدار 5%، بما يجعل التخلف عن سداد الديون أكثر احتمالاً لدول عالية المديونية، وشركات متعثرة، فضلاً عن الأفراد من القطاع العائلي الذي توسع في اقتراضه أيضاً.
في هذه الأثناء، ستتراجع المساعدات الإنمائية الدولية. فحتى إذا افترضنا أن الدول المانحة للمساعدات ستحافظ على نسبة المساعدات المقدمة لدخولها كما كانت في العام الماضي، فانخفاض دخولها بسبب الجائحة سيترتب عليه تخفيض هذه المساعدات بنحو 8% عن العام الماضي بما يقترب من 14 مليار دولار.
وفي الوقت الذي تنخفض فيه الاستثمارات الأجنبية بمقدار 40% وتحويلات العاملين بالخارج بنحو 20% عن العام الماضي، تستمر مهزلة تدفق الأموال غير المشروعة من الدول النامية بلا أي اعتبار لقانون محلي أو دولي، أو مواثيق مانعة لتهريب الأموال وغسلها أو اكتراث بأسس أخلاقية باستمرار فاحش في نهب الأموال باستخدام ألاعيب محاسبية في التهرب الضريبي والجمركي بما قدّرته منظمة «الأنكتاد»، في تقريرها الصادر الأسبوع الماضي، بنحو 90 مليار دولار سنوياً في حالة أفريقيا وحدها تكفي لتغطية نصف احتياجات القارة لتمويل أهداف التنمية المستدامة، بما في ذلك احتياجات التعليم والصحة والبنية الأساسية، من مواردها الأصيلة.
إن دعاوى أصحاب مقولة السفينة الواحدة، وزعمهم عما سبّبه الوباء من ديمقراطية في انتشار المرض ومساواة في مواجهة مخاطره، لا تباريها في ترويج الخرافات إلا الادعاءات بالاتفاق العام على حتمية العمل على العودة إلى أوضاع اقتصادية واجتماعية، كشف الوباء عن مدى تعاستها، لما كانت عليه.
د. محمود محي الدين.