«مايكروسوفت» المتجددة

تعد «مايكروسوفت» شركة «عجوزاً» في عالم التقنية مقارنة بمثيلاتها من الشركات التقنية، فباستثناء «أبل» التي تصغر «مايكروسوفت» بعام واحد، فإن معظم الشركات التقنية الحالية أسست في منتصف التسعينات، وأفلس كثير منها في أزمة «دوت كوم» عام 2000. ومرت «مايكروسوفت» بتقلبات الأسواق خلال الخمسة وأربعين عاماً منذ تأسيسها حتى الآن، إلا إن استراتيجية الشركة المتجددة مكّنتها من الصمود أمام هذه التقلبات؛ بل إن «مايكروسوفت» استفادت من هذه التغيرات السوقية بشكل خدم مصالحها. ولمعرفة مدى هذه الاستفادة تكفي نظرة واحدة إلى أداء سهم «مايكروسوفت» خلال السنوات العشر الماضية؛ حيث بدأ سهم الشركة عام 2010 بسعر لا يتجاوز 30 دولاراً، وتعدى الآن حاجز 200 دولار. هذا الارتفاع نتيجة استراتيجية الشركة منذ منتصف العقد الماضي التي استهدفت أن تكون «مايكروسوفت» أحد اللاعبين الكبار في عدد من القطاعات ذات النمو العالي.
والمطلع على محفظة «مايكروسوفت» الاستثمارية اليوم يجد فيها كثيراً من التنوّع، كما هو ديدن كثير من الشركات التقنية الأخرى، مثل «أمازون» و«فيسبوك» و«غوغل». فبالإضافة إلى نشاطها المعروف بأنظمة التشغيل والأجهزة الحاسوبية، تستثمر «مايكروسوفت» في الخدمات السحابية؛ وهو من أكبر قطاعاتها وأكثرها ربحية اليوم، وفي مبيعات الإعلانات، والألعاب، وبرمجيات الواقع المعزز، ومحركات البحث، وبرمجيات التواصل الاجتماعي… وغيرها من الاستثمارات التي تستند بشكل جوهري إلى التقنية.
ونوّعت «مايكروسوفت» في محفظتها الاستثمارية من خلال عمليات الاستحواذ التي وصلت إلى 225 عملية استحواذ منذ إنشاء الشركة عام 1975 بمعدل 6 استحواذات سنوياً. ولعل أشهر هذه العمليات استحواذ «مايكروسوفت» على موقع «لينكدن» بنحو 26 مليار دولار في عام 2016، وعلى «سكايب» في 2009 بـ8.5 مليار دولار، وهما الأكبر في تاريخ الشركة. كما استحوذت في عام 2014 على شركة «نوكيا» للهواتف الذكية بصفقة زادت على 5 مليارات دولار. ولعل آخر استحواذ لـ«مايكروسوفت» يعطي فكرة عن استراتيجياتها تجاه عمليات الاستحواذ. فمنذ الأسبوع الماضي أصبحت شركة «زينيماكس» ملكاً لـ«مايكروسوفت» بمبلغ قارب 7.5 مليار دولار، وهو ثالث أكبر استحواذ في تاريخ «مايكروسوفت». و«زينيماكس» إحدى أشهر شركات واستوديوهات الألعاب رغم عدد موظفيها الذي لا يزيد على 2300 موظف.
وترى «مايكروسوفت» مستقبلاً واعداً في قطاع الألعاب، والواقع أن هذا القطاع الآن ضخم بشكل لا يصدق. فحجم قطاع الألعاب اليوم يزيد على حجم «هوليوود» وقطاع الموسيقى مجتمعين! ومبيعاته هذا العام قد تتخطى 160 مليار دولار، ويتوقع أن تزيد على 200 مليار العام المقبل. وفي حين كان عدد من يلعبون الألعاب الإلكترونية قبل 15 عاماً لا يتعدى 200 مليون، فهو يزيد اليوم على 2.7 مليار لاعب غالبيتهم يستخدمون الهواتف الذكية للألعاب؛ حيث تبلغ نسبة الألعاب المحمّلة على أجهزة «آيفون» 72 في المائة من مجموع التطبيقات المحمّلة من متجر تطبيقات «أبل». و«مايكروسوفت» مستثمرة فعلاً في قطاع الألعاب منذ 2001 بجهازها المشهور «إكس بوكس». إلا إن استثمارها في «زينيماكس» له معانٍ مختلفة. فمبيعات أجهزة الألعاب بدأت فعلاً في الانخفاض مؤخراً، وما يباع من أجهزة الألعاب في 10 سنوات يباع في سنة واحدة من الهواتف الذكية. وباستحواذ «مايكروسوفت» على شركة برمجيات للألعاب مثل «زينيماكس»، فهي تستثمر في محتوى الألعاب أكثر من استثمارها في الأجهزة التي يتم من خلالها اللعب، والتي يمكن أن تتغير مع الوقت بتطور التقنية. وقد سبق لـ«مايكروسوفت» الاستثمار في اللعبة الشهيرة «ماينكرافت» بشرائها بـ2.5 مليار دولار.
إن تجدد «مايكروسوفت» المتواصل هو سبب حفاظها على مكانتها في السوق على مدى 4 عقود ونصف. فالشركة، رغم امتلاكها ميزات لا يمكن منافستها مثل أنظمة التشغيل والبرمجيات المكتبية، تواصل تجديد وتنويع استثماراتها. والشركة بخبرتها العريقة في القطاع التقني تدرك أن من يأمن هذا القطاع مصيره الخروج من السوق. ولذلك كان الاستثمار في المحتوى مؤخراً أكثر من الأجهزة. ولا تزال «مايكروسوفت» ماضية في هذا التنويع، وكانت آخر هذه المحاولات في المنافسة على الاستحواذ على التطبيق الصيني «تيك توك» وهو ما يعني أن «مايكروسوفت» قد تبدأ استثمارات ترفيهية إضافة إلى الألعاب، ومن يدري؛ فقد يكون لها استثمار مستقبلي في الأفلام، كما هي الحال مع «أبل» و«أمازون».

د. عبدالله الردادي.

ما تبقّى من الودائع: 12 سنتاً لكل دولار

مضى حوالى العام على احتجاز أموال المودعين في المصارف اللبنانية، ولا يزال البعض يعيش حالة إنكار للأزمة المالية التي نمرّ بها، معتبراً انها مؤامرة أو «غيمة صيف وتمرّ»، وسيعود الدولار الى 1500 ليرة وسيسترجع وديعته وبالدولار، ما ان تنجلي هذه الغيمة. فما حقيقة وضع الودائع في المصارف؟ وهل هي حقاً موجودة؟ ومتى يمكن استرجاعها؟ وبأية شروط؟

أين كنّا وأين أصبحنا؟ أين هي ودائعنا ولماذا تبخرت؟ وهل من أمل باسترجاعها؟ هذا هو لسان حال اللبنانيين والمغتربين الذين شعروا منذ حوالى العام بأنّ ودائعهم هي مجرد أرقام وهمية، وانّ مدّخراتهم وجَنى العمر تبخّر، وانّ كل ما يَجنونه بالكاد يكفي طعاماً. فمتى ينتهي هذا الكابوس ويخرج أحد المسؤولين ويصارح اللبنانيين بالحقيقة ويرسم لهم خريطة الطريق للمرحلة المقبلة؟

في ظل هذه الضبابية السائدة يبدو حتى الآن انّ المرحلة المقبلة ستكون أسوأ من السابقة، فأين قصّرت الدولة؟ وما الخطوات التي كانت لتجنّبنا هذا الهبوط الحاد الى القعر؟

في السياق، يقول المستشار المالي ميشال قزح انّ ما حصل منذ 17 تشرين الأول 2019 حتى اليوم هو لا مساواة بين المودعين، بحيث انّ أصحاب المصارف وبعض النافذين سياسياً ومساهمي المصارف تمكّنوا من إخراج أموالهم من لبنان، في حين انّ أموال بقية الشعب ظلّت عالقة في المصارف. وقال لـ«الجمهورية»: كان يمكن لحاكم مصرف لبنان ان يُصدر تعميماً في 18 تشرين الأول 2019 يفرض بموجبه الكابيتال كونترول لمنع تحويل الأموال الى الخارج، مؤكداً انّ لمصرف لبنان السلطة الكاملة لإصدار هكذا قرار، وقد رأينا كيف أصدر مجموعة تعاميم اتخذ فيها قرارات قوية، منها التعميم رقم 154.

ولدى سؤاله: هل هناك أيّ أمل باسترجاع الودائع العالقة في المصارف؟ أجاب قزح: عندما يدعو أحد النواب الى إعادة تكوين الودائع فهذا يعني انها غير موجودة، وإذا كنّا لا نريد المَسّ بالذهب فهذا يعني انّ المبلغ المتوفّر في البنك من كل دولار هو حوالى 12 سنتاً؟ بما يعني انّ 88% من الودائع غير موجودة.

أضاف: المركزي يرفض اليوم تحويل الودائع الى ليرة، لذلك يُجيز سحب الدولار وفق تسعيرة 3900 ليرة. وبما اننا في وضع غير مستقر لجأ المودعون الى سحب دولاراتهم من المصارف، رغم تعرّضهم الى haircut بنسبة 45 الى 50% عندما كان سعر الدولار مقابل الليرة يتراوح ما بين 7200 و7500 ليرة، بينما ارتفعت هذه النسبة اليوم الى ما بين 55 الى 60% بوصول الدولار في السوق الموازي الى 9000 ليرة.

6 أشهر صعبة

وأكد قزح انّ المرحلة المقبلة، والتي تتراوح ما بين ستة أشهر الى سنة، ستكون صعبة جداً على المواطن اللبناني، خصوصاً انّ سعر صرف الدولار مقابل الليرة مرجّح أن يرتفع في السوق الموازي الى أكثر من 20 ألفاً، الّا انّ الأوضاع ستبدأ بالتحسّن تدريجاً بعد التوقيع مع صندوق النقد، لأنه الجهة الوحيدة القادرة على ضَخ أموال جديدة في السوق. وقال: إنّ عودة الثقة بالقطاع المصرفي ممكنة، لكن هناك عدة خطوات تسبق ذلك، منها: خفض عدد المصارف العاملة في لبنان من 60 حاليّاً الى 10، وإعادة النظر بطريقة عملها، ولاحقاً يمكن جَذب المودعين من خلال إعطائهم دولارات نقداً ربما تبدأ بـ 200 دولار أسبوعيّاً وتزيد مع الوقت، لكنّ ذلك مستحيل قبل 5 سنوات من بدء تطبيق الكابيتال كونترول على ان يبدأ العَد من تاريخ التوقيع مع صندوق النقد.

وتوقّع قزح، في حال لم يوقّع لبنان اتفاقاً مع صندوق النقد، أن يلجأ حاكم مصرف لبنان في القريب العاجل الى رفع سعر الدولار المعتمد في المصارف للسحوبات بالعملات الاجنبية من 3900 ليرة الى 6000 ليرة، مؤكداً انّ المعطيات تشير الى ان لا قرار سياسياً بعد للتوجّه نحو صندوق النقد. ولفت الى انّ الكابيتال كونترول والـbail in هما من ضمن الشروط التي يفرضها صندوق النقد، وتطبيق الـbail in، أي أن يمتلك الدائنون أسهماً في المصارف اللبنانية، هو خطوة مرفوضة من قبل أصحاب المصارف لأنها تعني تغييراً في مُدراء المصارف ومالكيها، مع العلم انّ وضعهم اليوم شبيه بمَن يترأس شركة مفلسة. فالمصارف أقرضَت مصرف لبنان، وهي للأسف لا تزال تأمل باسترجاع أموالها التي هي أموال المودعين، الّا ان هذا الامر مستبعد جداً لأنّ الاقتصاد اللبناني دخل في المربّع السلبي.

واعتبر قزح انّ المركزي يراهن على ان يؤدّي إخراج الودائع من المصارف (باللولار والليرة اللبنانية) الى التخفيف من حجمها، وهذه الخطوة ستخفّف عنه عبء دفعها بالدولار الحقيقي في المرحلة المقبلة. لكنّ هذه الخطوة أدّت في المقابل الى تكبير الكتلة النقدية في السوق، ما انعكسَ تدهوراً في قيمة العملة الوطنية، فسجّلَ التضخّم مستويات غير مسبوقة. وأكد انّ طبع الليرة اللبنانية وشحنها الى لبنان يتم بكميات كبيرة، والدليل انّ ورقة الـ100000 ليرة دخلت في التسلسل E28، لافتاً الى انه منذ بدء الأزمة الى اليوم، أي في خلال عام، ارتفعت الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية من 11 تريليوناً الى 31 تريليون، أي انها زادت حوالى 3 مرات.

عن رفع الدعم

من جهة أخرى، أكد قزح انّ المصرف المركزي لن يرفع الدعم كلياً عن المحروقات والقمح والأدوية إنما تدريجاً، وذلك بعد وصول الإحتياطي الالزامي الى 17.5 مليار دولار. ويمكن ان يسمح بتراجع الاحتياطي أكثر، عازياً ذلك الى التراجع الحاصل في حجم الودائع في المصارف، وقال: بما انّ المصرف المركزي مُجبر على عدم المَس بـ 15% من حجم الودائع، وهو ما يعرف بالاحتياطي الالزامي، فإنه بالتالي كلما تراجَع حجم الودائع كلما تراجعت معه نسبة الاحتياطي الالزامي، بما معناه انه في الفترة المقبلة ستتراجع نسبة الاحتياطي الالزامي متأثرة بتراجع حجم الودائع من 17.5 مليار دولار الى 17 مليار دولار ثم الى 16 مليار وبعدها الى 15… وهذا ما يؤكد انّ الدعم سيستمر في الفترة المقبلة، إنما سيخف تدريجاً.

تابع: انّ التهريب الحاصل، خصوصاً في مادة المحروقات (كونها تستنزف الحصة الأكبر من أموال الدعم، حوالى 5 مليارات دولار سنوياً)، لم يساعد كثيراً في استدامة خطة الدعم لأنّ هذه الأموال استعملت لاستهلاك بلدَين. وجَزمَ انّ التهريب الى سوريا لن يخف حتى لو ارتفع سعر صفيحة البنزين الى 200 ألف ليرة، لأنّ لبنان منفذ سوريا الوحيد لشراء البنزين.

ورداً على سؤال، تخوّف قزح من ان يؤدي ارتفاع الدولار المتوقّع بعد البدء التدريجي برفع الدعم الى جَعل البطاقة التموينية التي يعدّها المصرف المركزي بقيمة مليون ليرة شهرياً من دون أي جدوى، لأنها لن تكفي لا لشراء الادوية ولا المحروقات، مؤكداً انّ لبنان دخل في سيناريو فنزويلا، والتخوّف اليوم هو من الدخول في سيناريو الصومال حيث يزداد العنف بهدف السرقة. ورأى اننا مقبلون على ثورة اجتماعية كبيرة، لأنه لن يكون في مقدور اللبنانيين العَيش في ظل سعر 20 ألفاً للدولار مقابل الليرة.

ايفا ابي حيدر