هكذا “حَسَبها” رياض سلامة عندما قرّر “حَبس” الليرة

بين ليلة وضحاها، كادت الليرة أن تتحوّل عملة صعبة على غرار الدولار، يصعُب الحصول عليها. تعدّدت الاجتهادات في تفسير ما يجري، لكنّ الواضح أنّ ما يمرّ به البلد ليس طبيعياً، ومن البديهي أن تكون القرارات والتطورات والحقائق والأرقام غير طبيعية أيضاً.

أثار قرار وضع قيود على السحب بالليرة عاصفة شعبية وقطاعية، واضطرّ مصرف لبنان، ورغم تمسّكه المبدئي بالقرار، الى تَليين موقفه بشكل غير مُعلن، الأمر الذي سمحَ للمصارف بطمأنة الناس الى أنّ السيولة بالليرة ستكون مؤمّنة من دون توضيحات كافية.

ما هي الظروف التي اضطرّت حاكم المركزي الى اتخاذ مثل هذه الخطوة، مع علمه المُسبق بحجم الاعتراضات التي ستواجهه، وبالأضرار التي ستلحقها الخطوة بالاقتصاد؟

من الواضح أنّ رياض سلامة أدركَ، بعد جَسّ النبض الذي أجراه في موضوع وقف الدعم، أو تخفيفه تدريجاً، انّ المنظومة السياسية ليست مستعدة للمشاركة معه في أي قرار. وعلى طريقة الكابيتال كونترول، تنصّلت السلطة من مسؤولياتها، وكأنها تقول لسلامة: «قَبِّع شَوكَك بإيدَك».

عند هذا الحد، أدرك حاكم المركزي أنه سيكون أمام خيارات كلها صعبة، وتنطوي على مجازفة غير مضمونة العواقب. ولا شك في أنه فكّر في وقف الدعم، وحَشرِ السلطة لدفعها الى اتخاذ قرار، إمّا بتأييد الاجراء الجديد، أو بالطلب إليه الاستمرار في الدعم، وعلى مسؤوليتها. لكنه أدرك أنّ السلطة لن تَنحشِر، وستعمد الى وضعه في وجه الناس. وقد جاءت تحركات الاتحاد العمالي العام في الشارع، لتمنحه أنموذجاً عن الاسلوب الذي سيُعتمد لمواجهة قرار وقف الدعم.

الخيار الآخر الذي قد يكون فكّر به سلامة هو الاستمرار في الدعم، والبدء في الانفاق من الاحتياطي الالزامي. لكن، ومن خلال معرفته بأسلوب السلطة السياسية، كان يعرف، أو هكذا يُفترض، انّ السلطة ستنام على حرير الـ17 مليار دولار، وقد تنضب الاموال، ونصل الى الجحيم الذي سيحرق الجميع، خصوصاً انّ المركزي يُهَيّء نفسه للمرحلة المقبلة في شباط 2021 (بعد 4 أشهر فقط)، حيث سيبدأ ورشة اعادة تأهيل القطاع المصرفي، وقد يضطر الى وضع يده على أكثر من مصرف متعثّر، فكيف يستطيع أن يفعل اذا كانت إمكانته المالية قد تراجعت بنِسَب اضافية عمّا هي عليه اليوم؟

من هنا، اعتبر حاكم المركزي أنّ أهون الشرور يكمن في خفض السحوبات بالليرة من المصارف، بحيث تساهم خطوة من هذا النوع في خفض الانفاق من الاحتياطي الالزامي، من دون أن يكون قد اضطرّ الى رفع الدعم ومواجهة غضب الناس وغضب القطاعات الاقتصادية منفرداً. واعتبر انه بهذا القرار يضرب اكثر من عصفور بحجر واحد، إذ يؤدي تقييد السحوبات الى الامور التالية:

اولاً – تراجع الاستهلاك، وبالتالي تراجع الاستيراد وخفض منسوب الانفاق من اموال الودائع في مصرف لبنان.

ثانياً – تخفيف الضغط على الليرة في السوق السوداء لمنع ارتفاع اضافي في سعر صرف الدولار.

ثالثاً – إخراج بعض الدولارات المُخبّأة في المنازل، لترييح سوق الصرف.

رابعاً – وقف ظاهرة شيكات الـSwap، والتي تعتمد مبدأ استبدال سيولة بالليرة بشيك بالدولار، يُعاد سحبه على سعر المنصّة، الامر الذي يؤمّن أرباحاً مضاربة تزيد في تأزيم المشهد المالي.

خامساً – تخفيف عملية طباعة الليرة، خصوصاً انّ الطلب يزداد على العملة الوطنية. الدولة تموّل إنفاقها من الطباعة، والمركزي يؤمّن سحب الودائع الدولارية بالليرة من خلال الطباعة أيضاً. وتشير التقديرات الى حركة 4 آلاف مليار ليرة شهرياً في عملية السحوبات من المصارف.

لكنّ هذه «المزايا» التي قد يوفّرها قرار تقييد السيولة بالليرة، تقابلها حقائق لا يمكن الاستخفاف بنتائجها، من أهمها:

اولاً – إنكماش اقتصادي سريع ناتج عن تراجع الاستهلاك نتيجة شح السيولة. وهذا يعني إقفال المزيد من المؤسسات، وارتفاع عدد العاطلين عن العمل، وتراجع حجم الاقتصاد (GDP)، وارتفاع نسبة الديون الهالكة، بما يؤدي الى زيادة الضغط على المصارف، وتصعيب الحلول عندما يحين موعد وضع خطة للخروج من الحفرة.

ثانياً – فقدان مواد استهلاكية في الاسواق، وندرة تَوَفّر مواد أخرى، خصوصاً انّ المركزي اشتَرطَ الحصول على سيولة نقدية من الشركات المستوردة مقابل فتح اعتمادات مدعومة على سعر صرف 1507 أو 3900 ليرة.

ثالثاً – إعاقة القطاع الصناعي، بما قد يؤدّي الى انخفاض حجم التصدير، وتراجع كمية العملات الصعبة التي يُدخِلها القطاع الى البلد.

رابعاً – عودة التشنّج في العلاقة بين المصارف والزبائن، وهذا الامر ليس في مصلحة أحد خصوصاً انّ المصارف، لا سيما الصغيرة منها، ستكون امام خيارين: إمّا الاكتفاء بسقف السحوبات المنخفض الذي حدّده المركزي بما يعني ازدياد حدّة المواجهة مع الزبائن، وإمّا الاستغناء عن فوائد شهادات الايداع بما يعني زيادة حجم خسائرها والمجازفة بالوصول في شباط المقبل الى مرحلة الاستسلام، وتسليم مفاتيح المصرف الى البنك المركزي.

في المقارنة بين «مزايا» حَبس الليرة و»أضرارها»، يصعب الاستنتاج أيّهما أقل ضرراً من الآخر، لكن الأكيد انّ الضرر واقع في الحالتين. واذا كانت المعالجة الجذرية ستتأخّر، سيكون البلد في مواجهة صعوبات إضافية، إذ لا توجد حلول خارج المعالجة الشاملة، التي لا يمكن أن تبدأ قبل تغيير المشهد السياسي، بما يعني أنّ القصة «مطَوّلة».

انطوان فرح

كيف تعافى الاقتصاد الصيني؟

أصدرت الصين الأسبوع المنصرم تقريرا يوضح الأداء الاقتصادي لها، أثار الكثير من المتابعين الاقتصاديين، وأغاظ البعض الآخر ممن يشككون في البيانات الصينية. وأوضحت البيانات التي أصدرتها الحكومة الصينية أن الإنتاج الصناعي للصين زاد في شهر أغسطس (آب) لهذا العام مقابل العام الماضي بنسبة 5.6 في المائة، وارتفعت استثمارات الأصول بأكثر من 4 في المائة، كما زاد الفائض في ميزان التبادل التجاري للصين بنحو 19 في المائة. ورغم انخفاض مبيعات قطاع التجزئة على الأشهر السبعة الأولى من السنة بنسبة 8.6 في المائة، فإن مبيعات شهر أغسطس لهذا العام شهدت مستوى أعلى من العام السابق بما يقارب 0.5 في المائة. والمطّلع على هذه الأرقام يرى أن الصين إما تعافت وإما قاربت للتعافي من الآثار الاقتصادية لجائحة «كورونا». وهو ما شكك فيه الكثيرون كون الصين هي أول من تضرر من هذه الجائحة بداية هذا العام، لشهرين على الأقل قبل أن تصل هذه الجائحة إلى غيرها من الدول.
وجاء هذا التعافي بسبب الإنفاق العالي للحكومة الصينية خلال الفترة الماضية، وهو إنفاق بدافع رغبة الحكومة الصينية زيادة نسبة التوظيف بعد ما حدث من زيادة نسب للبطالة خلال فترة الجائحة. وتمكنت الصين من رفع إنفاقها من خلال زيادة مشاريع البنى التحتية التي مكنت المصانع من زيادة إنتاجها بالمقابل. وقد عانت الصين كثيرا من ضعف الطلب المحلي لديها مقارنة ببقية دول العالم، فالطلب المحلي في الصين لا يتجاوز 39 في المائة من حجم اقتصادها، بينما يبلغ المتوسط العالمي 63 في المائة. لذلك فإن الصين تعتمد بشكل كبير على الصادرات في اقتصادها الوطني. ويرى المحللون أن لهذا الإجراء انعكاسا سلبيا في المستقبل، فالتعافي الاقتصادي يجب أن يكون بناء على زيادة طبيعية وصحية في الطلب، لا أن يُخلق الطلب من الحكومة كما فعلت الصين. كما أن الصين لا توفر إعانات للكثير من العاطلين فيها، فمن ضمن 80 مليون عاطل صيني خلال الجائحة، أقل من 3 في المائة يحصلون على إعانات حكومية. وجود هذه النسبة هو أحد أسباب انخفاض الطلب المحلي في الصين. ويرى البعض أن الصين لم تتعاف فعليا من هذه الجائحة، بدلالة أرقام مثل انخفاض نسبة استخدام المواصلات العامة في بكين بأكثر من 10 في المائة، وهو مؤشر لقلق الصينيين المستمر من فيروس «كورونا». كما يزيد البعض على هذه التشكيكات في مدى استفادة الصين من الجائحة، خاصة أنها وصلت الآن لمستوى تاريخي بكون سلعها المصدّرة تشكل أكثر من 13 في المائة من السلع العالمية.
في المقابل فإن للصين وجهة نظر أخرى، وهي أن جميع الحكومات العالمية تدخلت لحماية اقتصاداتها المحلية، وأن تدخلها المبكر ساهم في تعاف اقتصادي مبكر. وقد تكون وجهة النظر هذه صحيحة لعدة أسباب، منها أن انخفاض نسبة استخدام المواصلات العامة مبرر بزيادة ارتفاع مبيعات السيارات في الصين والتي زادت بنسبة 12 في المائة، وهو مبرر وعي لدى الشعب الصيني، لا لقلق من الجائحة. كما أن زيادة الإنتاج في الصين قابلتها زيادة في الصادرات وضحتها زيادة نسبة الصين من سلع الصادرات العالمية وكذلك زيادة فائض التبادل التجاري، مع أن ذلك يمكن أن يبرر بانخفاض صادرات الدول الأخرى، وبالتالي زيادة نسبة صادرات الصين حتى دون زيادة الصادرات نفسها. كما يُبرر لزيادة الإنتاج في المصانع الصينية أن الحكومة فرضت احترازات صحية على جميع المصانع، وما ساعد على نجاح هذه الاحترازات سهولة التحكم نسبيا في بيئة المصانع مقارنة بغيرها من أماكن العمل.
لطالما كانت الصين مصدرا للتشكك للكثيرين، وحيثيات الجائحة ساهمت في زيادة هذه التشكيكات. إلا أن نموذج الاقتصاد الصيني لا يوجد له مثيل في العالم، والحكومة الصينية تحكم قبضتها على الاقتصاد كما لا تفعل دولة حول العالم، رغم ضخامة هذا الاقتصاد. كما أن النمو المستمر للاقتصاد الصيني خلال العقود الماضية قد يبرر الاستمرار في النمو. هذا النمو الذي قد يستغربه البعض، يعد نموا ضئيلا جدا مقارنة بمعدلات النمو التي شهدتها الصين في السنوات الماضية. وهنا يتضح أن الصين تضررت فعلا من الجائحة كما هي الدول الأخرى، وأنها حتى وإن شهدت أرقاما اقتصادية إيجابية، إلا أن هذه الأرقام تعد ضئيلة مقارنة بالوضع في حال عدم وجود الجائحة. ويبقى الوقت هو الحكم في الإجراءات التي اتخذتها الصين، والتي تعودت على أن تتحدى قراراتها الاقتصادية بشكل مستمر، إلا أن النتائج تأتي بعكس هذه التحديات.
د. عبدالله الردادي.