سباق الحكومة مع مصرف لبنان… وفي الهريبةِ كالغزالِ

يبدو البلد في هذه المرحلة مشلولاً بشكل كامل، ولولا تركيز الاهتمام على جائحة «كوفيد-19»، لكان المشهد نافراً ومُقزّزاً أكثر. إذ انّ الجائحة خطفت الأنفاس، وغطّت على القرف السياسي الذي وصل الى مراحل متقدّمة من الانحطاط والانفصال عن الواقع الذي يعيشه الناس. وبعد انقشاع غبار الجائحة، وعودة الامور الى طبيعتها، سوف تعود الأزمة الاساسية الى الصدارة، وهي أزمة سياسية قادت الى كارثة اقتصادية ومالية.

من الوجهة المالية والاقتصادية، هناك امكانات وفرص متاحة امام لبنان للخروج من النفق، اذا تمّ عزل العوامل السياسية، وسُمح باتخاذ الإجراءات المطلوبة للحل. وتكمن نقاط القوة التي لا تزال متوفرة حتى هذه اللحظة، بالآتي:

اولاً- احتياطي من الذهب باتت قيمته توازي 80 أو 90 في المئة من حجم الاقتصاد (GDP) الحقيقي، الذي تراجع الى ما بين 19 و20 مليار دولار.

ثانياً- قوى لبنانية عاملة في الخارج، خصوصاً تلك الموجودة في دول الخليج العربي والقرن الافريقي، قادرة على رفد السوق بكمية من الدولارات الطازجة تتراوح بين 6 الى 7 مليارات دولار سنوياً، أي ما يوازي في الوضع الحالي حوالى 70% من حجم الاستيراد. وتشكّل نسبة هؤلاء حوالى 20% من مجموع القوى العاملة في لبنان. وهي من اكبر النسب في العالم.

ثالثاً- كادرات بشرية متخصصة ومتطورة، قادرة على تحويل البلد الى منصّة اقليمية في قطاع اقتصاد المعرفة، برغم المنافسة الاسرائيلية وتقدّمها في السباق، وهو قطاع مفتوح على كل الأسواق العالمية.

رابعاً- شبكة مغتربين موزّعين في كل انحاء الكرة الأرضية، يمكن أن يشكّلوا جسور عبور على المستويين السياسي والاقتصادي، وأرضية جاهزة للدعم المعنوي قبل المادي. هذه الشبكة لا تتوفر بالقوة نفسها في دول كثيرة حول العالم.

خامساً- ثروة نفطية قابعة في المياه الاقتصادية، يصعب تحديد قيمتها الفعلية قبل استكمال عمليات التنقيب.

سادساً- ثروة عقارية غير مُستثمرة تملكها الدولة عبر المشاعات والاملاك البحرية والنهرية…

سابعاً- مؤسسات عامة يمكن تحويلها الى مؤسسات منتجة اكثر ورابحة من خلال الخصخصة، أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص (PPP)، أو حتى من خلال الـBOT.

ثامناً- عقول ومهارات وخبرات بشرية متفوقة على مستوى المنطقة، في قطاعات الاستشفاء والتعليم والمال والمصارف والسياحة، جاهزة لإحداث الفرق عندما يتبدّل المشهد السياسي.

هناك لائحة أطول بنقاط القوة التي لا تزال موجودة، رغم الانهيار المالي والاقتصادي القائم، والذي قد يزداد تعقيداً وصعوبة مع الوقت. لكن المشكلة تكمن في المشهد السياسي. والمقصود هنا، ليس المشهد الحالي المرتبط بتشكيل الحكومة، حيث أصبحنا امام حكومة تصريف أعمال مستقيلة، ورئيس مكلّف عاجز عن التأليف، بل في المشهد الأوسع المرتبط بالنقطة التي يقف فيها البلد، وسط الصراع الاقليمي الذي صار اكثر وضوحاً وشراسة، وينعكس مباشرة على الوضعين المالي والاقتصادي.

لكن هذا الواقع لا يعفي السلطة الحالية بكل مكوناتها، لاسيما منها حكومة تصريف الاعمال من مسؤولياتها. وهي المسؤولة عن هدر حوالى 11 مليار دولار منذ سنة ونيف ولم يرف لها جفن. وهي مستمرة في هذا الهدر تحت عنوان الدعم، رغم علمها بأنّ نسبة صغيرة جداً من الاموال التي تُدفع للدعم تصل الى المواطن المحتاج، في حين انّ القسم الأكبر من الاموال تذهب الى تجار أو متحايلين، أو ميسورين، سواء عبر التهريب الى سوريا أو عبر الإفادة من السلع المدعومة لتحقيق ارباح غير مشروعة، أو لتهريب الاموال الى الخارج، أو حتى للإفادة من استمرار السرقة في الداخل، كما يحصل في العقود التي يتمّ تجديدها بلا أي مجهود لخفض كلفتها، وتُدفع بالدولار.

قد يتراءى للبعض أنّ المواجهة المفتوحة اليوم بين الحكومة ومصرف لبنان ترتبط بتصفية حسابات شخصية، كأن يُقال انّ حاكم المركزي الذي يشعر بالضغط السياسي عليه، من خلال تحريك ملفات قضائية في وجهه، يحاول ان يردّ الصفعة عبر فتح ملفات تدين جهات سياسية بالفساد، كما هي حال الكهرباء مثلاً. لكن الواقع مختلف تماماً، ويشير الى انّ المواجهة أصبحت محصورة في الهروب من ساحة المعركة، بعدما بات اعلان الهزيمة في الحرب على قاب قوسين أو أدنى. وعندما يُهزم بلدٌ في حرب مدمّرة ويُطلب من شعبه دفع الثمن، يتعرّض المسؤولون عن الهزيمة للمحاكمة، سواء المعنوية او الفعلية. وهذا ما يجري اليوم في الصراع بين حكومة تريد أن تخرج بأقصى سرعة لئلا تتحمّل مسؤولية المشهد الاسود الذي ستتضح معالمه قريباً، وبين مصرف مركزي يرفض حاكمه، ومعه المجلس المركزي، أن يكون في الواجهة، عند اعلان الهزيمة.

إرتكزت طبيعة الصراعات في الماضي على النفوذ، وكان كل طرف في المعادلة يستميت في الدفاع عن «حقوقه» في أن يكون صاحب القرار وليس سواه. لكن المواجهة بين الحكومة ومصرف لبنان حالياً، هي في الاتجاه المعاكس، انّها معركة للتخلّي عن النفوذ والقدرة على اتخاذ القرارات. الحكومة تقول لمصرف لبنان انّها غير معنية ولا تستطيع أن تقرّر شيئاً، والمركزي يدعو الحكومة الى تحمّل مسؤولياتها واتخاذ القرارات والتوقيع عليها، لأنّه غير راغب في هذه المسؤولية التي تتجاوز حدود قدراته وصلاحياته.

جرت العادة على أن تكون الصراعات في البلد من أجل انتزاع النفوذ والسلطة، وهو مشهد يعكس الفساد والانحطاط. أما وقد وصل الصراع الى مرحلة القتال من أجل التخلّي عن سلطة القرار، فهذا يوضح أين أصبح البلد اليوم، وأين سيكون غداً.

انطوان فرح.

ناتج “بيتكوين” يقترب من التريليون ورهان محموم حتى 2040 – منير يونس – 180Post

تتعرض عملة بيتكوين المشفرة إلى مضاربات فريدة من نوعها في عالم المال والتداول، ما يدعو إلى تنبيه صغار المستثمرين إلى عدم الإنجرار وراء المراهنات التي قد تمحو مدخراتهم بلمح البصر، مع عدم إنكار تحولهم إلى أثرياء بطرفة عين، والنصيحة هي تحديد حجم الإستثمار بمبلغ يمكن تحمل خسارته إذا إنهار السعر وإضمحلت القيمة يوماً ما.

وعلى هذا القياس، إستثمرت شركة “تسلا” لصناعة السيارات الكهربائية والبالغة قيمتها السوقية 805 مليارات دولار نحو 1.5 مليار دولار في عملة بيتكوين، أي 0.0021 في المائة من تلك القيمة السوقية، وهي نسبة ضئيلة تكفلت برفع سعر بيتكوين 22 في المائة، فور تداول الخبر قبل يومين. قبل ذلك، ساهم رئيس “تيسلا” برفع سعر العملة المشفرة 18 في المائة في غضون ساعات قليلة أوائل الشهر الحالي بفعل سحر تغريدة بكلمة واحدة (# بيتكوين!).

أين المنطق في ارتفاع السعر 40 في المائة بخبر أو تغريدة؟ لا بل أين ذلك المنطق من بلوغ القيمة السوقية لشركة “تيسلا” نفسها 805 مليارات في وقت لم تبدأ فيه در الربح  إلا في العام الماضي برغم بدء إنتاجها في 2003  وتكبدها خسائر متتالية منذ ذلك الوقت، وعدم توزيعها للأرباح على مساهميها؟ ولم تبع العام الماضي إلا نصف مليون سيارة من أصل 80 مليون سيارة مباعة في 2020!

بالعودة الى المنطق الممكن نقاشه، فإن التفسير الوحيد هو الرهان على التكنولوجيا وسرعة تقدمها وغزوها مختلف مناحي حياتنا بسرعة الضوء أحياناً كثيرة. فالمستقبل للسيارات الكهربائية حتى لو أن عددها اليوم  3 ملايين فقط.  فهي لا تشكل حالياً أكثر من 1 في المائة من أسطول السيارات عالمياً، ومع ذلك قفز سعر سهم “تيسلا” من 86 دولاراً في كانون الثاني/ يناير 2020 إلى 849 دولاراً اليوم. في سنة واحدة إرتفع 430 في المائة، فارتفعت ثروة ايلون ماسك إلى 188 مليار دولار كما في منتصف الشهر الماضي لينافس جيف بيزوس مؤسس “أمازون” على عرش الرجل الأثرى في العالم.

المنطق الممكن إعتماده هو نفسه: الرهان على التكنولوجيا ومعجزاتها. وليست قصص نجاح “مايكروسوفت”، “فيسبوك”، “أمازون”، “أبل”، “غوغل” و”أوبر” في اقل من 10 سنوات.. إلا أمثلة حية نعيشها في تفاصيل تغيير أنماط حياتنا على مدار الساعة.

وفي عالم المال وتطبيقاته الحديثة، نشأت بيتكوين (2009) لتكون عملة دفع إلى جانب العملات “الحقيقية” أو بديلاً عنها في المستقبل، مع فارق جوهري في أن سعرها لا يخضع إلا للعرض والطلب، بينما العملات “الحقيقية” تخضع لأساسيات إقتصادية وسياسات بنوك مركزية في ضبط السيولة أو فلشها.

من أطلق بيتكوين في 2009 غير معروف بالإسم والعنوان. هو شخص سري يعرف باسم ساتوشي ناكاماتو. أسّس إنتاجها على عمليات حسابية ورياضيات معقدة بأجهزة كمبيوتر يمكن لأي كان تعلمها، وعندما يصل المستخدم الى المعادلة المطلوبة يحصل على مكافأة هي بيتكوين مسجلة ومخزنة ومتداولة بشفافية في نظام “بلوكشين” التشفيري، بالند للند عبر “أكواد” من دون أي وسيط.

البحث عن البيتكوين يشبه العمل في منجم، عُمّاله مهووسو تكنولوجيا منتشرون حول العالم، يجرون العمليات الحسابية بحواسيبهم (التعدين) على مدار الوقت وأعشار ثوانيه، وصولاً الى المكافأة المجزية. ووفقاً للحسابات الأولى للمؤسس، ليس هناك إلا 21 مليون وحدة (بيتكوين)، ولا يصل إليها العالم مهما حاول قبل العام 2040.

بدأ التعدين في 2009 بمعدل 50 كل 10 دقائق وهو اليوم 12.5، وينخفض تدريجياً حتى الصفر بعد 19 سنة. ويرجح المتعاملون أن المؤسس الأول يحمل 1.1 مليون وحدة من إجمالي بلغ حالياً 18.3 مليون وحدة تشكل 85 في المائة من السقف النهائي المتوقع للإصدار.

كل 4 سنوات تجري إحتفالية افتراضية، ويقسّم خلالها ما يستجد من “مكافآت بيتوكونية” على إثنين وفقاً للبروتوكول الأساسي. فالصعوبة المتصاعدة للحسابات يقابلها ندرة في المكافآت، نزولاً تدريجياً بعرض تعديني تناقصي مقابل طلب مضاربي تصاعدي مفترض، فترتفع الأسعار حكماً.

ففي أول تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، كان السعر10 آلاف دولار. ثم بلغ في 2 شباط/ فبراير المنصرم 36140، والتداول اليوم عند 46915 دولاراً لكل بيتكوين.

الجنون السابق للأسعار سجله العام 2017 ببلوغه 19 ألف دولار، ثم هبطت الأسعار في تقلبات حادة وفجائية إلى قاع قبيل منتصف 2019 عند 3 آلاف دولار أو أقل، وخلفت متعاملين مفلسين مدمرين مالياً وإجتماعياً ونفسياً حد الإنتحار. عاد الارتفاع تدريجياً، لكن حفلة الجنون الخيالي غير المسبوقة  بدأت الخريف الماضي، ما دفع البنك الاستثماري العالمي “جي بي مورغان” إلى توقع الصعود إلى 146 ألف دولار، أما “سيتي بنك” فيزايد حتى 300 الف دولار للبيتكوين الواحدة!

هذه التقلبات الحادة تجذب المتداولين والمراهنين من شركات وأفراد للتداول على مئات المنصات المتاحة. وتعرض صناديق إستثمارية منتجات مالية مشتقة (رهانية بامتياز) متصلة بالعملة المشفرة. إلى ذلك، اعتمدت العملة في منصات دفع الكترونية، وأقبلت على اقتنائها شركات عالمية في قطاع البرمجة الحاسوبية.

ما يلفت المستثمرين إرتباط مستجد بين بيتكوين وأداء الأسواق الأميركية. ففي آذار/ مارس 2020 هبط السعر في موازاة هبوط “وول ستريت” تأثراً بتفشي وباء كورونا والاقفال الاقتصادي الذي فرضه. ثم بدأ الصعود في موازاة إنتعاش الأسواق بنسبة 18 في المائة في 6 أشهر، فقفزت بيتكوين بنسبة 370 في المائة، وهي نسبة تضع الإستثمار في خانة المخاطر العالية وتصنيف بيتكوين أصلاً مضاربياً بامتياز، وليس ملاذاً آمناً كما يسوق المتحمسون لهذه  العملة.

صحيح أنه إستثمار بديل واعد بعوائد خيالية في وقت يتراجع فيه الإقتصاد العالمي ومعدلات الفوائد قريبة من الصفر، لكنه ليس آمناً بالنظر إلى عوامل مثل إمكان وضع قيود على منصات التداول، أو خطأ تقني وفني ما، أو إختراق سيبراني خطير، أو تدخل سيادي مثلما فعلت الصين والهند وكوريا الجنوبية وأندونيسيا بمنع التداول بهذه العملة، بيد أن المنع لا قيمة له طالما هناك أفراد ينفذون إلى الانترنت بأساليب مبتكرة عصية على الحجر البات. وبين المخاطر أيضاً السؤال المحير عن هوية المؤسس السري والمطلق لهذا التشفير فضلاً عن إتهامات بإمكان استخدام بيتكوين في معاملات مشبوهة وتمويل إرهاب وغسيل أموال.

ومع ذلك تبقى بيتكوين رهاناً تكنولوجياً مذهلاً لأنها العملة المشفرة البديلة شبه الوحيدة التي أثبتت جاذبيتها وسط نحو 1500 عملة مشفرة أبرزها “إيثيريوم” و”ريبل”.

وكما كانت أحلام مؤسسي الإنترنت ومطوريه بجعل الشبكات خارج السياقات الكلاسيكية قانونياً وسياسياً ومالياً ومعلوماتياً، فإن منتجي بيتكوين اليوم يراهنون على الخروج من سياقات العملات الحقيقية إلى الفضاء الرقمي المشفر الكامل من دون أدنى دور لأي بنك مركزي وسلطة مالية. وبين الحجج الجاذبة أيضاً سهولة التحويل الآمن بسرعة البرق بكلفة لا تذكر، وإمكان قسمة البيتكوين إلى مليون مقابل قسمة الدولار إلى 100 سنت فقط. تلك القسمة وصولاً إلى أدنى جزء من الوحدة يفتح المجال واسعاً أمام الإستخدام من البسيط التافه إلى العظيم الخطير، وما بينهما من سلع وخدمات لا عدّ لها ولا حصر. والمعادلة الإقتصادية تقضي بأن إرتفاع بيتكوين يقابله رخص نسبي للسلع والخدمات في إتجاه مضاد لأي تضخم، وهذا ما يفسر إستخدامها في دول مثل الأرجنتين وفنزويلا وتركيا وربما إيران. ولا ينقص اللبناني شيئاً لدخول هذا المعترك وهو المعروف برهاناته المالية وغير المالية الخطرة من دون كبير حذر من إنفجار الفقاعة مهما كلف الثمن!

منير يونس

مواجهة مفتوحة بين الحكومة ومصرف لبنان

يرفض مصرف لبنان أن تتعامل معه الحكومة على قاعدة « take it or leave it « في ما يتعلّق بتمويل نفقات الدولة على سعر الصرف المدعوم ممّا تبقّى من احتياطي عملات أجنبية يحاول البنك المركزي منفرداً ترشيد استهلاكها من اجل إطالة أمد الدعم الى أطول فترة ممكنة، وضمان ديمومة عمل المَرافِق العامة وتوفير الحاجات الاساسية لتيسير الامور الحياتية للمواطنين.

وبما انّ قطاع الكهرباء يعدّ من الامور الحيوية التي لا يمكن التفريط بها، أكد مصرف لبنان أنه يتعاون إيجاباً في هذا الملف، وهو على استعداد لتأمين السيولة المطلوبة بالعملات الاجنبية لتمديد عقد تشغيل وصيانة معملي دير عمار والزهراني وتفادي غَرق البلاد بالعتمة، إلّا انه يجد نفسه الجهة الوحيدة الحريصة على ما تبقى من احتياطي عملات أجنبية وعلى ضرورة ترشيد الدعم، في حين تمارس كل الجهات المستفيدة من الدعم، إن كانت الوزارات او المؤسسات الادارية او الشركات والتجار، سياسة الضغط من خلال تَخييره بين الظلمة او الدعم وبين انقطاع المواد والسلع أو الدعم، غير آبهة بترشيد حاجاتها من الدولارات وتقليصها، مع العلم انّ الوضع المالي والنقدي لم يعد يحتمل أي تقاعس في ادارة الأزمة.

مصادر في مصرف لبنان أكدت لـ»الجمهورية» انه مع انعدام القدرة على تعزيز احتياطي البنك المركزي من العملات الأجنبية في مقابل ارتفاع حاجات الإنفاق، يحاول المجلس المركزي في مصرف لبنان التعاون بشكل إيجابي مع الحكومة والفرقاء السياسيين من أجل تجنيب البلاد انفجاراً اجتماعياً مع الحفاظ في الوقت نفسه على ما تبقّى من دولارات لدعم أي خطة اقتصادية ستضعها الحكومة المقبلة في حال تشكيلها.

وأشارت المصادر الى انه في حال التوافق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إنقاذ، فإنّ الحد الأقصى للدعم المالي السنوي سيبلغ حوالى ملياري دولار في حين «اننا اليوم نقوم بإنفاق 6 مليارات دولار سنوياً على الدعم من دون أي خطة إصلاحية، ما يؤدي الى هدرها»، مشددة على ضرورة تشكيل حكومة جديدة تضع خطة لاستغلال تلك الاموال المتبقية في إطار خطة اقتصادية ومالية واضحة.

وحول سيناريوهات ترشيد الدعم التي وضعتها الحكومة، اعتبرت مصادر البنك المركزي انه من المفترض وضع خطة واحدة للدعم تتناسَب والوضع المالي للبلاد، وتقطع الطريق امام عمليات التهريب والتخزين والاحتكار القائمة، وتفيد بشكل أساسي الأسَر الاكثر فقراً، وليس خطط دعم «شعبوية».

وأسِفت لأنّ الوقت يمرّ من دون التوصل بعد الى أي قرار او خطة في شأن ترشيد الدعم، «بل كلّ ما يُعرض علينا هو سيناريوهات بعيدة جدّاً من أي ترشيد فعليّ وجدّي للدعم»، موضِحة انّ تلك السيناريوهات تعتمد على تحديد الكميات التي يتم دعمها واقتراحات، على سبيل المثال، بخفض قيمة دعم بعض السلع بـ100 مليون دولار في مقابل زيادة حجم دعم سلع أخرى بالقيمة نفسها.

وسألت: هل اقتراح خفض فاتورة الدعم السنوية البالغة 6 مليارات دولار بمقدار 300 مليون دولار، يُعدّ ترشيداً للدعم؟

بيان مصرف لبنان

وبالعودة الى أزمة الكهرباء، أصدر مصرف لبنان امس بياناً أكد فيه حرصه «على المصلحة العامة، وعلى استمرارية عمل المرافق العامة وفي مقدمتها كهرباء لبنان، وتأمين السلع الاساسية»، مُذكّراً بمراسلاته خلال الأشهر الستة السابقة مع وزارة المالية، المتعلقة بالوضع المالي العام لمصرف لبنان وضرورة ترشيد سياسة الدعم.

وقال: بما أنه، ولاستمرار قيام مصرف لبنان بمهامه في هذه الأزمة الحادة، والمَنصوص عنها في المادة 70 من قانون النقد والتسليف المتعلقة بالمحافظة على النقد لتأمين نمو اقتصادي واجتماعي دائم، وبما أنّ مصرف لبنان يستخدم موجوداته المحدودة بالعملات الاجنبية بناء على مسؤوليته الوطنية،

وعطفاً على طلبات شركة كهرباء لبنان والوزارات المعنية بالدعم، وطلبات المستوردين للمواد المدعومة، فإنّ مصرف لبنان كان قد أرسل كتاباً الى وزير المالية في 12 شباط 2021 يفيد فيه الآتي بيانه:

– ضرورة اعتماد خطّة فورية لترشيد الدعم مع تحديد الأولويات ومصادر تمويلها الأمر الذي يدخل في صُلب مهام الحكومة، وإبلاغ مصرف لبنان بها، علماً أنّ أي تأخير في ذلك له تداعيات سلبية على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي.

– ضرورة تحديد الاجراءات التي ستتخذها الحكومة لتأمين العملات الأجنبية اللازمة للمصاريف والمستوردات الأساسية.

– يقترح مصرف لبنان على وزير المالية، بالتعاون مع وزير الطاقة ومدير عام شركة الكهرباء، وضع دراسة شاملة على كل العقود الموقعة من قبل شركة كهرباء لبنان تشرح فيها طريقة اختيار الشركات المتعاقدة والتأكد من عدم وجود وسائل بديلة لتخفيض التكاليف، وهذا ما كان قد اقترحه مصرف لبنان مراراً خلال اجتماعات الاشهر الماضية مع معالي وزير الطاقة وشركة الكهرباء، وعلى أن تكون هذه الدراسة علنية ومتوفرة للعموم لِفَسح أوسع مجال للمشاركة في هذه المسؤوليّة الوطنية.

– ضرورة أن يكون هناك موافقة خطية على كل الفواتيرالمعروضة للدفع من شركة كهرباء لبنان وكافة الوزارات المعنية والمستوردين المعتمدين، من قبل مركزية واحدة تقررها الحكومة. على أن تحدّد الحكومة الأولويات، وتُؤكِّد مع المركزية على احترام آلية الدفع المتفق عليها مع مصرف لبنان، وتحمّل مسؤولية كلفة الدعم بالعملات الاجنبية وأي هدر أو سوء استعمال ينتج عنها.

وقد طلب مصرف لبنان من وزير المالية الإجابة بالسرعة الممكنة نظراً لحساسية الوضع الحالي وحفاظاً على استمرارية عمل المرافق الاساسية كافة».

أزمة الكهرباء

تجدر الاشارة الى انّ الشركة الأميركية primesouth المُشغّلة لمعملي الزهراني ودير عمار يتنهي عقدها يوم الاثنين 15 شباط 2021، وتهدّد بالانسحاب وتسليم معملي إنتاج الكهرباء لمؤسسة كهرباء لبنان التي طالبت بدورها بتمديد العمل للشركة، وحصلت على موافقة وزارتي المالية والطاقة. لكنّ الشركة الاميركية رفضت التمديد قبل دفع مستحقاتها السابقة البالغة قيمتها 45 مليون دولار، ومستحقاتها الجديدة للعام المقبل والبالغة 60 مليون دولار. وقد عُقدت اجتماعات عدّة في هذا الاطار بين وزير الطاقة ريمون غجر ومدير عام مؤسسة كهرباء لبنان كمال حايك ومسؤولين في مصرف لبنان للتوصّل الى صيغة حول كيفية تأمين مستحقات الشركة والاتفاق معها قبل يوم الاثنين المقبل وتفادي غرق البلاد في العتمة، علماً انّ الطاقة الكهربائية المنتجة من قبل معملي دير عمار والزهراني تشكل حوالى 10 ساعات من التغذية الكهربائية يومياً.

ووفقاً لِما يتم التداول به فإنّ الكرة اليوم في ملعب مصرف لبنان الذي تنتظر وزارة الطاقة جواباً منه حول إمكانية تأمين المبالغ المطلوبة بالدولار.

رنى سعرتي

مستقبل «إكسون ـ موبيل»

«إكسون – موبيل» هي الشركة التي لم تخسر في التاريخ، كان ذلك حتى أعلنت الشركة عن نتائجها السنوية لعام 2020، حيث حققت الشركة خسارة سنوية بلغت 22 مليار دولار، وهي التي بلغت أرباحها في سنة 2019 أكثر من 14 مليار دولار! لم تخسر «إكسون – موبيل» بعد أزمة 2008 المالية حيث عُدّت الخسارة أمراً مقبولاً لعديد من الشركات، ولكنها خسرت في أثناء جائحة «كورونا»، في أمر قد يعد منطقياً في سنة نزل فيه سعر النفط تحت الصفر، وفي عام توقف العالم فيه عن الدوران، وقبع فيه الناس في بيوتهم من الخوف؛ فلا طائرات في الجو، ولا مصانع تعمل، ولا سيارات في الشوارع. وليست «إكسون – موبيل» وحدها التي حققت خسائر من ضمن شركات النفط التي أعلنت عن أرقامها في الأيام القليلة الماضية، فشركة «بريتيش بتروليوم» خسرت نحو 5.7 مليار دولار بعد أن ربحت 10 مليارات في العام السابق. أما شركة «كونوكو – فيلبس»، وهي أحد أكبر منتجي النفط في الولايات المتحدة، فقد خسرت 2.7 مليار دولار مقارنةً بأرباح العام السابق التي فاقت 7.9 مليار دولار. ولكن لماذا يختلف الوضع في «إكسون – موبيل» ما دامت خسارة شركات النفط في هذا العام أمر منطقية مقارنةً بما حدث؟
«إكسون – موبيل» شركة لا تشابهها شركة أميركية أخرى، فهي رمز النفط في الولايات المتحدة؛ كونها أكبر منتجي النفط فيها على الإطلاق، وقد كانت الشركة في عام 2013 تملك أعلى قيمة لشركة مساهمة حول العالم بقيمة زادت على 410 مليارات دولار، ولكنها الآن لا تساوي حتى نصف هذه القيمة! وما زاد على ذلك أن الشركة خرجت في أغسطس (آب) الماضي من مؤشر «داو جونز» الصناعي، وذلك بعد 92 عاماً من وجودها فيه. ومنذ اندماج الشركتين «إكسون» و«موبيل» عام 1999 والشركة تعد أحد أكبر اللاعبين في سوق النفط حول العالم، إلا أن أداء الشركة اختلف كثيراً منذ ذلك الوقت وحتى الآن، فحجم الإنتاج لم يختلف كثيراً للشركة منذ عام 2010 حتى 2019 وذلك على الرغم من اعتماد الشركة على كثافة الإنتاج وليس على قيمته.
أما الأداء المالي فيُظهر أن الشركة في انحدار مستمر خلال الأعوام الماضية، فالعائد من استثمار رأس المال في استخراج النفط انخفض من 30% في العقد الأول من الألفية، إلى 6% في السنوات الخمس التي سبقت الجائحة. وديون الشركة ارتفعت خلال العقد الأخير من مبلغ ضئيل لتصل إلى 63 مليار دولار، وعلى الرغم من انخفاض الربحية في الشركة، وزيادة الديون فإن الشركة استمرت في توزيع الأرباح للمستثمرين بنحو 15 مليار دولار سنوياً. وحتى في عام 2020 فقد وزّعت الشركة الأرباح على المساهمين على الرغم من تسريحها الكثير من موظفيها بسبب الجائحة.
واليوم تنظر «إكسون – موبيل» إلى مستقبل مظلم، فالشركة قد لا تصمد إذا ما استمر الحال على ما هو عليه، حتى ظهرت شائعات بأن العملاق الأميركي قد يندمج مع عملاق نفطي آخر وهي شركة «شيفرون»، وفي حال اندمجت الشركتان فبإمكانهما توفير 7% من الطلب العالمي للنفط! ولكن حتى هذا الاندماج قد لا يتم بالنظر إلى ما يعاني منه قطاع النفط الأميركي في الوقت الحاضر.
وما يزيد الطين بلة، أن الشركة خرجت بهذه الحالة المادية بعد انتهاء فترة أكثر رئيس أميركي دعماً للقطاع النفطي، وببدء فترة ولاية لرئيس أميركي جديد أخذ على عاتقه حماية الكوكب والبيئة من الانبعاثات الكربونية، بل كان أول قراراته الانضمام إلى اتفاقية باريس المناخية، وهو ما يعني أن القطاع النفطي الأميركي بأكمله قد يعاني من القرارات التنظيمية التي قد تتبع هذه السياسة البيئية.
إن خسارة الشركات النفطية في عام 2020 ليست مستغرَبة، فهي مكوّن من مكونات السوق، وبتوقف الأسواق والمصانع عن العمل، كان من الطبيعي أن تخسر شركات النفط في هذا العام. وما يتداول أن هذه الخسارة بسبب استخدام الطاقة النظيفة غير منطقي على الإطلاق، فحتى هذه اللحظة لم نشاهد طائرة تطير بالطاقة النظيفة، وما زلنا نشاهد المصانع والسيارات تعمل بالطاقة المستمدة من النفط. ولكن ما يثير القلق في حالة «إكسون – موبيل» أن المستثمرين توقعوا هذه النكسة للشركة بعد سنوات من الانحدار في الأداء، وما حدث هذا العام أثار القلق بشأن المستقبل القريب للعملاق النفطي، لا بشأن مستقبل النفط.

د. عبدالله الردادي

أين إعادة الودائع من إعادة رسملة المصارف؟

إستقطبت المتابعين للوضع المصرفي في لبنان قضية إعادة رسملة المصارف وإعادة هيكلة القطاع وإعادة النظر بانخراطه في تمويل الدولة، فيما الهاجس الأساسي للناس يكمن في كيفية إعادة الودائع! فما هي أهمية استحقاق زيادة رسملة المصارف وزيادة احتياطاتها لدى المصارف المراسلة؟ وأين «يصرف» المودعون حصيلة كل التعاميم المتلاحقة؟ إنّ القراءة المتأنية تتطلّب تحديد إشكالية أزمة ودائع الناس لدى المصارف وأزمة المصارف في توظيفاتها من جهة، ثم تحديد مدى انعكاس الاجراءات الجديدة على تخفيف المخاطر عن المودعين أو المساهمة في تحسين الدفاع عنها من جهة أخرى.

أمام عتبة استحقاق شباط 2021 الذي يوجِب على المصارف، وفق تعاميم المصرف المركزي، توفير سيولة بنسبة 3% من ودائعها بالعملات الأجبنية لدى المصارف المراسلة وزيادة رأسمالها بنسبة 20%، لا بد من التذكير أنّ النشاط المصرفي بمجمله لقانون التجارة (1942) ولقانون النقد والتسليف (1963)، وأنّ المصارف والمؤسسات المالية الأخرى في لبنان تعمل تحت إشراف مصرف لبنان، أي المصرف المركزي الذي يشكّل السلطة النقدية الناظمة لعمل المصارف في البلاد. فالمصرف المركزي هو مصرف المصارف ومصرف الدولة في آن، وهو الذي يمنح الترخيص لإنشاء مصارف جديدة، ويحدّد مجال عملها، ويرسم أصول المهنة ويفرض القواعد الاحترازية التي ينبغي أن يعتمدها القطاع.

أما الهيئة الرقابية فتتمثّل في لجنة الرقابة على المصارف التي أُنشئت في العام 1967، والتي تتولّى مراقبة نشاط المصارف، وتتأكّد من حسن تطبيق القوانين والأنظمة المرعية.

ولقد ازدهر القطاع المصرفي في ستينات القرن العشرين، وهي المرحلة التي شهدت انطلاقة هذا القطاع وانتعاشه، إلى أن حصلت أزمة بنك انترا (1966).

وقد أعقبتها فترة الإزدهار النسبي قبل تجمّع عوامل أزمة الثمانينات التي اقتصرت على التضخّم المفرط وتدهور سعر صرف الليرة، كون المصارف لم تكن بعد غارقة في تمويل القطاع العام العاجز عن التسديد، لا سيما في العملة الأجنبية، كما أصبحت عليه الحال تِباعاً منذ منتصف التسعينات، وبدأ انكشافه مع تراكم عجز ميزان المدفوعات وتقلّص الدولارات في البلد وانغماس القطاع المصرفي في استقطابات الدولار لتمويل كّل من الدولة (عبر الاكتتاب بالأوروبوند) وحاجات المصرف المركزي (عبر شراء شهادات الايداع بالدولار الأميركي لتعزيز احتياطي مصرف لبنان بالدولار، الضروريين لاستمرار الدفاع عن ربط سعر الصرف بحدود 1507.5، بغضّ النظر عن كل تدهور المؤشرات الماكرو-اقتصادية وعجوزات ميزان المدفوعات، وإن لتلبية احتياجات الاستيراد في بلد يشكّل فيه الاستيراد أكثر من 80% من الاستهلاك، ويتم فيه تعويم نمط عيش أعلى من إمكانية معظم المواطنين بين مروحة القروض التي تم إغراق معظم المواطنين فيها بالدولار الأميركي لشراء السيارات والمفروشات والسفر والسياحة، وحتى عمليات التجميل… من دون أدنى تحذير لهم نظراً لأنّ معظمهم من أصحاب الرواتب المتواضعة بالليرة اللبنانية، التي يستحيل أن تصمد إزاء أي تدهور في سعر الصرف. وها هي السلطات النقدية قد اضطرت لفرض استمرار تسديدها حتى اليوم على أساس سعر الصرف 1507.5..)، فباتت المصارف في المقابل عاجزة عن استرداد دولاراتها الموظف منها لدى الدولة على شكل يوروبوندز، أو لدى المصرف المركزي على شكل شهادات إيداع بالدولار، أو لدى هذه الشرائح من القطاع الخاص من مواطنين اقترضوا بالدولار وبالكاد رواتبهم بالليرة تسمح لهم التسديد على سعر الصرف القديم.

الانكشاف السيادي للمصارف اللبنانية

أبعد من سندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف اللبنانية بالدولار الأميركي واليوروبوندز التي يحملها المصرف المركزي، من الضروري الإشارة الى أنّ الجهاز المصرفي اللبناني لديه مصادر قلق أخرى من الانكشاف السيادي. فبالإضافة إلى اليوروبوندز التي يحملها القطاع المصرفي، تُظهِر أرقام وكالة «بلومبرغ» أن المصارف اللبنانية اشترت شهادات إيداع بالدولار الأميركي من المصرف المركزي حتى باتت عليه التزامات بقيمة 52.5 مليار دولار على شكل ودائع بالعملات الأجنبية وشهادات إيداع بالدولار الأميركي يعود معظمها الى المصارف اللبنانية، أي أنها توظيفات من مجموع مدّخرات المودعين اللبنانيين بالعملات الأجنبية. وعلى رغم أنّ القليل من شهادات الايداع يستحق هذا العام أو العام المقبل، فإنّ أكثر من 8 مليارات دولار تستحق في 2022 و2023.

كذلك، من المفيد الاشارة الى أنّ معدل الاحتياطي الالزامي على الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف هو 15%، ما يعني أنّ مقابل مجموع الودائع بالعملات الأجنبية لدى المصارف، التي انخفضت من 120 قبل اندلاع الأزمة الى حوالى 112 مليار دولار اليوم، انخفضت الحاجة الى الاحتياطي الالزامي لدى مصرف لبنان من 18 الى 17 مليار دولار (15% من الودائع بالدولار الأميركي) على شكل احتياطي إلزامي بالعملات الأجنبية، تُضاف الى الأعباء بالعملات الأجنبية التي يفترض أن تكون لدى المصرف المركزي إمكانية تغطيتها (علماً أنّ معدل الاحتياطي الالزامي هو 25% على الودائع الجارية بالليرة اللبنانية و15% على الودائع المجمّدة بالليرة اللبنانية).

القروض المتعثّرة للمصارف وجمود النشاط الاقتصادي

الى جانب الانغماس بالانكشاف على الدين السيادي للدولة وشهادات الايداع بالعملات الأجنبية، تواجه المصارف اللبنانية مخاطر انعكاسات جمود النشاط الاقتصادي وتوقّف الطلب على التسليفات، كما توقف تدفّق الرساميل من الخارج وزيادة الودائع في الداخل، والتوجّه المعاكس نحو تقليصها أكثر من قبل أصحابها الى الحد الأدنى الممكن، إن من خلال استخدامها لسدادٍ مُسبَق لتسليفاتهم أو السحوبات المستمرة بالدولار الأميركي في بداية الأزمة كما بالليرة اللبنانية حالياً ولو على سعر المنصة 3900، أو حتى من توجّه كثيرين الى ما يُعرف بأدوات الحماية من المخاطر عبر شراء الذهب أو الاستثمار العقاري.. علماً أنّ لهذا الأخير إيجابيات كثيرة، لا سيما في تسييل عقارات كانت مجمّدة بفعل الأزمة فيما أصحابها مديونون للمصارف ويهمّهم إطفاء أكبر جزء من ديونهم ولو بشيكات مصرفية، بغض النظر عن إمكانية سحبها نقداً.

من هنا، تفتح الأزمة الاقتصادية باب مخاطر القروض المتعثّرة لدى المصارف، والتي لا تقلّ أهمية عن مخاطر الانكشاف السيادي، مع الاشارة الى أن التسليفات المصرفية بالعملات الأجنبية للقطاع الخاص اللبناني تتراوح بحدود 30 مليار دولار، وتسعى تعاميم المصرف المركزي على احتوائها من خلال العمل على وضع سقوف على الفوائد الدائنة، وتخفيض الفوائد المدينة بشكل مباشر، وتوجيه المصارف لإعادة هيكلة الديون المتعثّرة عبر إطالة الأجال، وإعادة النظر بالشروط الى جانب الالتزام بالتعاميم الجديدة الصادرة عن المصرف المركزي، والتي تنص على تخفيض معدلات الفوائد…

كما أنّ الإجراءات الحالية من ضبط حركة الرساميل بسبب الأزمة في غياب نص قانوني جامع وضوابط موحّدة، جمّدت كلياً إقدام غير المقيمين وحتى المغتربين عن إرسال التحاويل، لا بل أدت الى قلق المقيمين على ودائعهم، إن كان بالعملات الأجنبية أو حتى بالليرة اللبنانية، ما يدفعهم يومياً الى نشاط مصرفي باتجاه واحد هو سحب الأموال وتخزين الأوراق النقدية إن كان بالدولار أو حتى بالعملة الوطنية، ما ينسف النظام المصرفي ككل ويدفع باتجاه الاقتصاد النقدي cash economy، فيضرب إمكانية استعادة المصارف دورها في التسليف أيّاً كانت شروطها لافتقاد ثقة العملاء بإيداعها مدّخراتهم.

أزمة السيولة بالدولار وتراكم عجز ميزان المدفوعات وازدواجية سعر الصرف

تعتمد المصارف اللبنانيّة على حساباتها لدى المصارف المراسلة في الخارج (القطاع المالي غير المقيم) لشراء الدولارات الورقيّة وشحنها إلى لبنان، لتأمين السحوبات النقديّة لزبائنها. كما تعتمد المصارف على هذه الحسابات لسداد ديونها في الخارج، وإجراء الحوالات لعملائها، خصوصاً بعد تشدد مصرف لبنان في استعمال الاحتياطي المتوفّر لديه من العملة الصعبة.

وتبيّن الميزانيّات المجمّعة للمصارف اللبنانيّة أنّ هذه المصارف خسرت خلال عام 2019 وحده ما نسبته 43.56% من قيمة حساباتها لدى القطاع المالي غير المقيم (أي المصارف المراسلة)، فضلاً عن انعكاس أثر السحوبات النقديّة الكثيفة والمستمرّة منذ 17 تشرين الأوّل 2019. وكان واضحاً أنّ استمرار المصارف في توفير السحوبات النقديّة لعملائها بالدولار سيكون مسألة متعذّرة خلال الفترة المقبلة، إلا إذا سمح مصرف لبنان باستعمال الاحتياطي الذي يملكه من العملة الصعبة لهذه الغاية، والذي يمثّل كما سبق وذَكَرنا جزءاً من ودائع المصارف بالعملات الأجنبية لديه عبر شرائها لشهادات الايداع بالعملات الأجنبية…

وعلى خط مواز، وحتى قبل اتخاذ الإجراءات المكبّلة لحركة الرساميل، كان لبنان يعاني في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ العام 2011، انقلابَ وضعِ ميزان المدفوعات وتحوّله الى سلبي بشكل مستمر مع تراجع ميزان الرساميل وعدم إمكانيته التعويض عن العجز الهائل في الميزان التجاري الذي تخطى سنوياً 17 مليار دولار أميركي.

هذا التراجع في استقطاب العملات الاجنبية وعجوزات ميزان المدفوعات كانا يضغطان بشكل متزايد على سوق القطع، الذي يعتمد منذ عام 1997 على ربط سعر صرف الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة للدولار. إلّا أنّ انفجار الأزمة ومحدودية الاحتياطي بالعملات الأجنبية وأولويات استخدامه بين تلبية استحقاقات داهِمة بالدولار الأميركي قبل بَت إعادة هيكلة الدين العام وتمويل استيراد مواد أساسية من قمح ودواء ولوازم طبية ومشتقات نفطية، في ظل تزايد الطلب على الدولار في السوق، جَمّد إمكانية الصرف في القطاع المصرفي الذي أبقى على السعر الرسمي 1507.5 من دون إمكانية التحويل في المصارف ولا التحويل الى الخارج، حتى تضاعَف الطلب على الدولار لدى الصرافين، وأفلتَ السوق من إمكانية ضبطه فظهرَ سعراً موازياً للدولار أعلى من السعر الرسمي، فتهاوى معه الهدف الأساسي للمصرف المركزي المتمثّل بحماية القدرة الشرائية والاستقرار النقدي من تقلبات سعر الصرف وموجات التضخم.

أفق مخارج الأزمة وانعكاساتها على المودعين

بين تعاميم البنك المركزي لزيادة الرسملة وزيادة السيولة لدى المصارف المراسلة بنسبة 3%، قد تتمكن بعض المصارف من تعزيز وضعها في السوق، لا سيما تلك التي تبيع أصولها في الخارج. لكنّ التعاميم تسمح بإعادة تقويم العقارات التي تملكها المصارف كجزء من موجوداتها الأساسية والموجودات التي استحوذت عليها من المقترضين مقابل القروض المتعثّرة، واستعمال الارتفاع في قيمة العقارات لتحقيق الزيادة المطلوبة في الرساميل، ما يجعل تحقيق زيادة الرساميل مسألة دفتريّة ومحاسبيّة لا تحقق أي تغيير في سيولة المصارف وقدرتها على سداد التزاماتها للمودعين حالياً بانتظار تحسّن وضع القطاع العقاري والتمكّن من تسييلها.

أمّا عجز المصارف في التزاماتها لدى المصارف المراسلة في الخارج، فيجعل من الصعب عليها تحرير فائض من زيادة السيولة لإحداث أي حَلحلة لجهة تحرير ودائع زبائنها بالدولار الأميركي.

أما عودة الانتظام إلى القطاع فتتطلّب خطة متكاملة على مستوى الحكومة، وتحديد الخسائر المنتظرة في القطاع والطريقة العادلة لتوزيعها من جهة أخرى، على أن تكون عمليّة إعادة هيكلة المصارف وإعادة رسملتها إحدى أجزاء هذه الخطة الكاملة.

هذه الخطة تتطلّب إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة رسملته، مع التشديد على ضرورة الضخّ المباشر للأموال في رؤوس أموالها من المساهمين، علماً أنّ هوية المساهمين وإمكاناتهم وإرادتهم لها تأثيراتها الأساسية في إمكانية تحقيق هذه الخطوة، فضلاً عن إمكانية دخول المستثمرين الجدد في المرحلة التالية، ما يجعل إعادة هيكلة القطاع أمراً ملحّاً قبل التوجّه الى مستثمرين جدد أو حتى لاستمزاج كبار المودعين بالمساهمة في زيادة الرساميل، ليكون معروفاً أي مصارف، أو بالأحرى أي مجموعات مصرفية، ستكون محتلّة المشهد الجديد للقطاع.

وإذا كانت أبرز التحديات المستقبلية أمام المصارف اللبنانية تكمن في اكتساب الثقة لاسترجاع الأموال المخزّنة في المنازل من جهة وإعادة استقطاب الرساميل من الخارج، فمن المعروف أنه يصعب استعادتها من الكثير من المصارف الموجودة حالياً بعد اهتزاز العلاقة بين طرفي العقد من مصارف ومودعين، والمسألة باتت تتطلّب مشهداً جديداً قادراً بأن يوحي بالفرق ويحقّقه فعلاً.

ولكن حتى لو لم تكن عمليات الدمج والاستحواذ كافية في القطاع المصرفي، فالأساس يبقى في التقويم العلمي الحقيقي لواقع أصول المصارف لتحديد المصارف ذات المخاطر الكبرى وغير القابلة على الاستمرار، كما تحديد المصارف المتمكّنة ضمن مجموعات مصرفية ذات رسملة جيدة ولو استعانت بمساهمة من كبار مودعيها لتعزيز رسملتها ومكانتها في السوق، ووضع الآلية المناسبة لإيفاء الدولة الالتزامات تجاهها بعد وضع أطر إعادة هيكلة الدين، طالما من المرجّح أنها لا تزال تحمل سندات خزينة وشهادات إيداع لدى المصرف المركزي. وذلك يكون من خلال برامج إشراك المصارف في المرافق الحيوية للدولة لاستعادة كامل الأموال المستثمرة من قبلها لدى الدولة المتعثّرة، وهي أموال المودعين، فيكون بذلك تحقق الإصلاح باتجاهين: الاتجاه الأول عبر وضع برنامج واضح لإعادة حقوق المصارف والمودعين، والاتجاه الثاني هو إنقاذ المرافق العامة عبر إشراك القطاع الخاص بكل فعاليته وإنتاجيته في ملكيتها وإدارتها بما يحسّن كل نوعية أدائها.

للمرة الأولى يطرح ملف إعادة هيكلة القطاع المصرفي باتجاه البناء الصلب لقطاع متين بمؤسسات شفافية وفعالة بعيدة عن كثافة الأسماء والمنافسة غير الجديرة وأوهام الفوائد المضخّمة والأرقام غير الواقعية وتوجيه الادّخار نحو تمويل قطاع عام عاجز في ظل اختناق قطاع خاص… فهل يكون كل ذلك فرصة لاستعادة الثقة ببناء متين يستحق تحمّل الكلفة وعناء الصبر لاستعادة الحقوق؟

د. سهام رزق الله