مخاوف التضخم المبالغ فيها

لقد حان الوقت للتوقف عن الثرثرة الفارغة الخاصة بالتضخم. وينبغي الترحيب بالتوقعات ذات الصلة بالتحسن اللائق في وتيرة ارتفاع الأسعار، إذ إننا بعيدون كل البعد حالياً عن الأيام السيئة التي شهدناها في سبعينات القرن الماضي.
ومع الارتفاع الملحوظ الذي سجلته مقاييس التضخم في الولايات المتحدة مع نهاية العام الماضي، إلا أنها أدنى بكثير من المستويات المستهدفة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وفي الصين، سجلت أسعار المستهلكين انخفاضاً غير متوقع بنسبة 0.3 نقطة مئوية في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. ويبدو المسؤولون الاقتصاديون في اليابان وكأنهم قد تخلوا فعلاً عن هدفهم المحدد ببلوغ نقطتين مئويتين هذا العام. وحتى في جنوب شرقي آسيا، حيث سجل النمو الاقتصادي ارتفاعاً سريعاً وتاريخياً عن بلدان العام المتقدم، فإن تحركات الأسعار في الأسواق تبدو ضعيفة للغاية. ولا تزال حكومة كوريا الجنوبية تغازل الانكماش الاقتصادي، في حين تحاول ماليزيا وتايلند تحمل أعبائه.
وتعكس مقاييس السوق عودة واضحة للتضخم؛ إذ تجاوزت عوائد السندات الثلاثينية مستوى نقطتين مئويتين خلال الأسبوع الماضي للمرة الأولى منذ عام كامل، في حين تراجعت السندات الحكومية في المملكة المتحدة مع ارتفاع النفط. وتكمن الفكرة في أن الانتعاش الاقتصادي، بمعاونة من المحفزات المالية والنقدية الهائلة، سوف يشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار المستهلكين. ومما يؤسف له، وفي غالب الأمر ما يوصف ذلك بلهجة الترويع المخيفة مثل «الفيضان»، و«الانفجار»، و«الإنذار»، وحتى «نهاية عهد السخاء». ويتجاوز هذا دروس العقد الماضي السابق عن ظهور جائحة فيروس «كورونا» المستجد. وبعيداً عن وصفها بنذير الشؤم والهلاك، فإن الطفرة الكبيرة في الأسعار يمكن اعتبارها انتصاراً واضحاً للسياسة المالية المعتمدة.
عبر سنوات، كنا نسمع أن النمو الاقتصادي كان بطيئاً للغاية، وأن التضخم منخفض للغاية، وأن محافظي البنوك المركزية الكبيرة قد أخفقوا في السيطرة على الأمر. هل تتذكرون العناء الشديد الذي خبرناه قبل سنوات عندما تراجعت أسعار الفائدة في الأسواق إلى ما دون الحد الصفري؟ هل تدور الانتقادات حالياً حول أن المسؤولين قد قاموا بعملهم بصورة جيدة للغاية؟ فقط عندما تستقر نسبة التضخم عند نقطتين مئويتين ينبغي على صناع السياسات التفكير في سحب التحفيز المالي.
ومن هذا المنطلق، فإننا أبعد ما نكون عن نهاية الدعم النقدي. والاستنتاج بخلاف ذلك معناه تجاهل تام لما يقوله صناع القرارات السياسية بالفعل. يتوقع السيد جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، بل ويرغب في، ارتفاعات أسرع في الأسعار. ولقد قال في يناير الماضي: «من المفيد النظر إلى الوراء في ديناميات التضخم التي شهدتها الولايات المتحدة منذ عقود مضت، وملاحظة أنه كان هناك ضغط هائل مضاد للتضخم الكائن لفترة من الوقت بلغت عقدين كاملين».
كان بول فولكر، الذي وافته المنية في نهاية عام 2019 عشية ظهور الوباء، سوف يسخر للغاية من مخاوف اليوم. عندما تولى إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979 كانت أسعار المستهلكين ترتفع بنسبة 15 نقطة مئوية. ولقد رفع أسعار الفائدة إلى 20 في المائة لمصارعة هذا الوحش الكاسر. ولم يعد التضخم على وضعه مرة أخرى ثم انحسر تهديده منذ ذلك الحين. ويواصل خلفاء السيد فولكر البحث عن مثل هذه الديناميات بهدف تكرارها، غير أنهم كثيراً ما تصيبهم خيبة الأمل الشديدة. وكانت التوقعات تفيد بأن التيسير الكمي والعجز الكبير عقب الأزمة المالية العالمية في 2007 و2009 من شأنهما تصحيح ذلك الاتجاه تلقائياً، غير أن ذلك لم يحدث، ولقد تأثر بنك الاحتياطي الفيدرالي كثيراً بتلك التجربة المؤلمة.
بيد أن الأموال المتداولة داخل النظام النقدي في عصر الوباء الراهن هي أكبر من ذلك بكثير، لذلك فإن العودة السريعة سوف تكون قوية مع مبررات أفضل للمخاوف، كما تقول الحجج المطروحة. ولكنني غير مقتنع بذلك. لقد دخلت الولايات المتحدة في توسع مالي كبير في عام 2017 عندما أقر الكونغرس التخفيضات الضريبية التي تزعمها دونالد ترمب، تماماً كما لو كان الاقتصاد يعاود الانطلاق من جديد. وكان يُنظر في تلك الأوقات أنه من غير المعتاد أن يقع مثل هذا التحول الهائل إثر مرور وجيز لفترة الركود العصيبة. ولقد ارتفعت معدلات النمو بصورة كبيرة مع انخفاض معدلات البطالة في المقابل إلى 3.5 نقطة مئوية، وهو أدنى مستوى مسجل منذ 50 سنة، إذ كان التضخم لطيفاً في تلك الأثناء.
ومثلما كان التضخم منخفضاً بصورة كبيرة في عام 2010 فمن سيقول إنه لن يفاجئنا بالارتفاع مجدداً؟ عندما يحين وقت الانخفاض، يكون المستثمرون على حق في انتظار الألم، بصرف النظر تماماً عن مدى دقة التوقعات. ولقد تعلم السيد بن برنانكي هذا الدرس بالطريقة العسيرة: مجرد الاقتراح بطرح التناقص التدريجي في عام 2013 أسفر عن تدهور شائع في الأسواق آنذاك.
والأنباء السارة بالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية تتعلق بأنه إذا صار الارتفاع في الأسعار مشكلة حقيقية – بدلا من عودة الظهور بمظهر صحي جديد – فإن من يحتلون المناصب بعدهم سيكونون المسؤولين عن حل هذه المشكلات. وفي غضون ذلك، دعونا نتجاوز بعض الكآبة التي تكتنف الأمر الواقع. هناك الكثير من دروس التاريخ التي تعين في التغلب على المشكلة قبل أن يتحول التضخم لدينا إلى وحش كاسر يصعب ترويضه.

دانيال موس.

ما “مصير” 3,2 مليارات دولار في الخارج؟

مع انتهاء المهلة الزمنية لتنفيذ التعميم 154، يباشر مصرف لبنان دراسة أوضاع المصارف. ومن خلال المؤشرات، لا يبدو أنّ المشكلة تكمن في التزام المصارف بمندرجات التعميم، بقدر ما هي في التوقيت ومصير الأموال الجديدة.

لطالما كانت العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية جيدة، وتتسِم بالحرفية التي تفرضها المعايير العالمية المتعارف عليها، للتعاون بين المصرف التجاري مع الجهة المنظمة (regulator) والمُشرفة (supervisor) على القطاع. لكن في الحالة اللبنانية يمكن الادعاء انّ العلاقة تخطّت بعض السقوف، واكتسبت صفة الودّ والتعاون المُفرط في فترة من الفترات، من دون أن يعني ذلك تخطّي الخطوط الحمر.

بعد المطبّات التي اجتازها الوضع المالي، ووصول الأزمة الى المرحلة المتقدمة التي بلغتها اليوم، كيف يمكن وصف هذه العلاقة؟

من خلال متابعة التعاميم وطريقة التعاون، يمكن القول انّ العلاقة حالياً تتحكّم بها ثابتتان لا يمكن لأي طرف تجاوزهما: الثابتة الأولى قناعة الطرفين بأنهما على مركب واحد. الثابتة الثانية ترتبط بسعي كل طرف الى تحصين وضعه على المركب، لأنّ الانقاذ يتطلب التضحية بالبعض، ومن البديهي ان كل فريق يكافح لاستبعاد اسمه عن لائحة المُضحّى بهم.

قبَيل ساعات من انتهاء المهلة المُعطاة للمصارف للالتزام بمندرجات التعميم 154، كان لافتاً صدور تعميم وسيط لتنظيم الحسابات الجديدة التي تُعرف بحسابات الـFresh دولار. وقد أُعطيت تفسيرات عدة لصدور هذا القرار، لكن الاسباب الموجبة والأهداف معروفة، ويمكن تلخيصها بالتالي:

اولاً – الفصل التام بين السيولة الخارجية المطلوبة للالتزام بالتعميم 154 (3 % من حجم الودائع)، وبين ودائع الاموال الطازجة. وجاء توقيت التعميم قبَيل ساعات من انتهاء المهلة، وبعدما تماهى الى مسامع المركزي انّ بعض المصارف تريد استخدام هذه الاموال في احتساب نسبة السيولة المطلوب تكوينها في حسابات المصارف المراسلة.

ثانياً – يخدم التعميم أهداف المركزي في إبقاء الحسابات الجديدة مُحرّرة من أي قيود، وجاهزة للدفع غب الطلب عندما يقرر صاحب الوديعة ذلك.

ثالثاً – يدرك المركزي انّ وظيفة المصارف التقليلدية غير قائمة حاليا، وبالتالي فإنّ الابقاء على نسبة سيولة كاملة (100 %) بالنسبة الى الحسابات الطازجة، لن يؤثّر في الاقتصاد، لأنّ المصارف حالياً غير جاهزة لتمويل الاقتصاد كما كانت تفعل قبل الأزمة. كما انّ الاقتصاد نفسه غير جاهز لاستيعاب عمليات التمويل سوى في حالات استثنائية جداً.

وهكذا جاء التعميم الوسيط ليعطي الانطباع بأنّ المركزي مصرّ على تنفيذ التعميم 154، وانه سيباشر في اتخاذ الاجراءات القانونية في حق أي مصرف غير مُلتزم.

في موازاة هذا الوضع، تتحرّك المصارف من منطلق انها لا تريد التملّص من مندرجات التعميم، لكن هناك تساؤلات في شأن بعض النقاط، من أهمها:

اولاً- لماذا يتم التعاطي مع موضوع المهل بخفّة، في حين ان المعوقات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» حقيقية وليست مجرد ذريعة بدليل ان كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة اللبنانية أصدرت قوانين لتمديد المهل تماشياً مع هذا الواقع الذي لا يناقش فيه اثنان؟

ثانياً – اذا كان مبدأ زيادة الرأسمال مفهوماً، بل يشكّل حاجة توافق عليها المصارف، وتريد تنفيذها في أقصى سرعة ممكنة، لأنها وسيلة للصمود والبقاء في انتظار بدء إنقاذٍ تأخّر كثيراً، فإنّ هذا الأمر قد لا ينطبق على سيولة الـ3 % (حوالى 3,2 مليارات دولار)، من حيث التوقيت. إذ كيف سنحمي هذه السيولة ونضمن استخدامها بالطرق الصحيحة، اذا كانت الدولة قادرة على إصدار قوانين ساعة تشاء قد تؤدّي الى صرف هذه الاموال في غير مقصدها. ومن يضمن ألا تتحول هذه الاموال الى رهينة اضافية تنضمّ الى الاحتياطي الالزامي المُحتجز في مصرف لبنان، والذي يتمّ تبذيره تحت تسمية الدعم؟

ثالثاً – اذا كان مصرف لبنان حريصاً بهذا القدر على توفير الدولارات الطازجة، لماذا لا يعمد الى اتّباع آلية تضمن عودة الدولارات التي يتم استخدامها، في دعم المواد الاولية لمنتجات يُعاد تصديرها؟ وهل يجوز ان يبقى هذا الامر مبهماً، بحيث لا يُعرف كم خرج من لبنان وكم عاد اليه من دولارات جرى اقتطاعها لدعم الانتاج؟

رابعاً – اذا كان تأمين سيولة الـ3 % ينبغي أن يتم عبر استرجاع نسب حدّدها التعميم 154 من مودعين أخرجوا أموالاً من القطاع المصرفي منذ منتصف 2017، عبر الحَثّ. فهل أصبحت المصارف مسؤولة عن عدم قدرتها على إلزام مودعيها بهذا الأمر؟ وهل من الطبيعي ان تتمكّن المصارف من استعادة الاموال، في حين انّ الدولة بكل وسائلها المتاحة عاجزة عن الامر؟ وهل المطلوب تطبيق التعميم على ناس وناس؟

هذا المناخ يوحي بالتغيير الذي طرأ على العلاقات الودية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهو مناخ يكاد يكون بديهياً، لأنّ البلد في أزمة خانقة، وكل طرف يتحسّس رقبته للحفاظ على كيانه. مصرف لبنان من جهته، يريد شراء المزيد من الوقت بالاعتماد على المصارف هذه المرة. والمصارف تريد ضمان الاستمرارية والحد من استمرار الخسائر لئلّا يكون الحل في النتيجة مُدمّراً للقطاع وللودائع.

في المحصلة، سيتمّ تنفيذ التعميم 154 وفق قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وستُعطى المصارف القادرة على الالتزام الوقت الكافي، برغم الصرامة في اللغة التي يستخدمها مصرف لبنان. لكن المصارف العاجزة عن الالتزام، بصرف النظر عن المهل، سيتمّ التعاطي معها على أساس انّ خروجها من السوق عبر الدمج، او تغيير ملكيتها عبر وضع مصرف لبنان يده عليها، أفضل للجميع.

انطوان فرح.