مع انتهاء المهلة الزمنية لتنفيذ التعميم 154، يباشر مصرف لبنان دراسة أوضاع المصارف. ومن خلال المؤشرات، لا يبدو أنّ المشكلة تكمن في التزام المصارف بمندرجات التعميم، بقدر ما هي في التوقيت ومصير الأموال الجديدة.
لطالما كانت العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية جيدة، وتتسِم بالحرفية التي تفرضها المعايير العالمية المتعارف عليها، للتعاون بين المصرف التجاري مع الجهة المنظمة (regulator) والمُشرفة (supervisor) على القطاع. لكن في الحالة اللبنانية يمكن الادعاء انّ العلاقة تخطّت بعض السقوف، واكتسبت صفة الودّ والتعاون المُفرط في فترة من الفترات، من دون أن يعني ذلك تخطّي الخطوط الحمر.
بعد المطبّات التي اجتازها الوضع المالي، ووصول الأزمة الى المرحلة المتقدمة التي بلغتها اليوم، كيف يمكن وصف هذه العلاقة؟
من خلال متابعة التعاميم وطريقة التعاون، يمكن القول انّ العلاقة حالياً تتحكّم بها ثابتتان لا يمكن لأي طرف تجاوزهما: الثابتة الأولى قناعة الطرفين بأنهما على مركب واحد. الثابتة الثانية ترتبط بسعي كل طرف الى تحصين وضعه على المركب، لأنّ الانقاذ يتطلب التضحية بالبعض، ومن البديهي ان كل فريق يكافح لاستبعاد اسمه عن لائحة المُضحّى بهم.
قبَيل ساعات من انتهاء المهلة المُعطاة للمصارف للالتزام بمندرجات التعميم 154، كان لافتاً صدور تعميم وسيط لتنظيم الحسابات الجديدة التي تُعرف بحسابات الـFresh دولار. وقد أُعطيت تفسيرات عدة لصدور هذا القرار، لكن الاسباب الموجبة والأهداف معروفة، ويمكن تلخيصها بالتالي:
اولاً – الفصل التام بين السيولة الخارجية المطلوبة للالتزام بالتعميم 154 (3 % من حجم الودائع)، وبين ودائع الاموال الطازجة. وجاء توقيت التعميم قبَيل ساعات من انتهاء المهلة، وبعدما تماهى الى مسامع المركزي انّ بعض المصارف تريد استخدام هذه الاموال في احتساب نسبة السيولة المطلوب تكوينها في حسابات المصارف المراسلة.
ثانياً – يخدم التعميم أهداف المركزي في إبقاء الحسابات الجديدة مُحرّرة من أي قيود، وجاهزة للدفع غب الطلب عندما يقرر صاحب الوديعة ذلك.
ثالثاً – يدرك المركزي انّ وظيفة المصارف التقليلدية غير قائمة حاليا، وبالتالي فإنّ الابقاء على نسبة سيولة كاملة (100 %) بالنسبة الى الحسابات الطازجة، لن يؤثّر في الاقتصاد، لأنّ المصارف حالياً غير جاهزة لتمويل الاقتصاد كما كانت تفعل قبل الأزمة. كما انّ الاقتصاد نفسه غير جاهز لاستيعاب عمليات التمويل سوى في حالات استثنائية جداً.
وهكذا جاء التعميم الوسيط ليعطي الانطباع بأنّ المركزي مصرّ على تنفيذ التعميم 154، وانه سيباشر في اتخاذ الاجراءات القانونية في حق أي مصرف غير مُلتزم.
في موازاة هذا الوضع، تتحرّك المصارف من منطلق انها لا تريد التملّص من مندرجات التعميم، لكن هناك تساؤلات في شأن بعض النقاط، من أهمها:
اولاً- لماذا يتم التعاطي مع موضوع المهل بخفّة، في حين ان المعوقات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» حقيقية وليست مجرد ذريعة بدليل ان كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة اللبنانية أصدرت قوانين لتمديد المهل تماشياً مع هذا الواقع الذي لا يناقش فيه اثنان؟
ثانياً – اذا كان مبدأ زيادة الرأسمال مفهوماً، بل يشكّل حاجة توافق عليها المصارف، وتريد تنفيذها في أقصى سرعة ممكنة، لأنها وسيلة للصمود والبقاء في انتظار بدء إنقاذٍ تأخّر كثيراً، فإنّ هذا الأمر قد لا ينطبق على سيولة الـ3 % (حوالى 3,2 مليارات دولار)، من حيث التوقيت. إذ كيف سنحمي هذه السيولة ونضمن استخدامها بالطرق الصحيحة، اذا كانت الدولة قادرة على إصدار قوانين ساعة تشاء قد تؤدّي الى صرف هذه الاموال في غير مقصدها. ومن يضمن ألا تتحول هذه الاموال الى رهينة اضافية تنضمّ الى الاحتياطي الالزامي المُحتجز في مصرف لبنان، والذي يتمّ تبذيره تحت تسمية الدعم؟
ثالثاً – اذا كان مصرف لبنان حريصاً بهذا القدر على توفير الدولارات الطازجة، لماذا لا يعمد الى اتّباع آلية تضمن عودة الدولارات التي يتم استخدامها، في دعم المواد الاولية لمنتجات يُعاد تصديرها؟ وهل يجوز ان يبقى هذا الامر مبهماً، بحيث لا يُعرف كم خرج من لبنان وكم عاد اليه من دولارات جرى اقتطاعها لدعم الانتاج؟
رابعاً – اذا كان تأمين سيولة الـ3 % ينبغي أن يتم عبر استرجاع نسب حدّدها التعميم 154 من مودعين أخرجوا أموالاً من القطاع المصرفي منذ منتصف 2017، عبر الحَثّ. فهل أصبحت المصارف مسؤولة عن عدم قدرتها على إلزام مودعيها بهذا الأمر؟ وهل من الطبيعي ان تتمكّن المصارف من استعادة الاموال، في حين انّ الدولة بكل وسائلها المتاحة عاجزة عن الامر؟ وهل المطلوب تطبيق التعميم على ناس وناس؟
هذا المناخ يوحي بالتغيير الذي طرأ على العلاقات الودية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهو مناخ يكاد يكون بديهياً، لأنّ البلد في أزمة خانقة، وكل طرف يتحسّس رقبته للحفاظ على كيانه. مصرف لبنان من جهته، يريد شراء المزيد من الوقت بالاعتماد على المصارف هذه المرة. والمصارف تريد ضمان الاستمرارية والحد من استمرار الخسائر لئلّا يكون الحل في النتيجة مُدمّراً للقطاع وللودائع.
في المحصلة، سيتمّ تنفيذ التعميم 154 وفق قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وستُعطى المصارف القادرة على الالتزام الوقت الكافي، برغم الصرامة في اللغة التي يستخدمها مصرف لبنان. لكن المصارف العاجزة عن الالتزام، بصرف النظر عن المهل، سيتمّ التعاطي معها على أساس انّ خروجها من السوق عبر الدمج، او تغيير ملكيتها عبر وضع مصرف لبنان يده عليها، أفضل للجميع.
انطوان فرح.