بدأت السيناريوهات السوداء تتظهّر أكثر فأكثر. وتبدو الليرة في هذه المرحلة وكأنها فقدت كل مقومات الصمود واستسلمت لقدرها. لكن ما هو آتٍ سيرسم صورة كارثية تتجاوز الوجع الحالي، لأنّ العملة الوطنية قد تفقد قيمتها بالكامل، ويتوقّف التعامل فيها.
بعدما وصل سعر السنت الأميركي الواحد إلى 500 مليار دولار في زيمبابوي في العام 2008، وفي خضم الأزمة الاقتصادية التي جعلت الدولار الزيمبابوي بلا قيمة، اضطر السكان الى حمل حقائب مليئة بالنقود من أجل التسوّق وشراء احتياجاتهم الأساسية الغذائية، وكانت الأسعار تتضاعف، ممَّا دفع بالحكومة الى تعليق العمل بالعملة المحلية.
في لبنان، لم يعادل الدولار الاميركي بعد ملايين ومليارات الليرات اللبنانية، لكن انهيار الليرة بشكل متسارع وبنسبة 15 الى 20 في المئة يومياً، سيجعل مصير لبنان مشابها يوما بعد يوم لمصير زيمبابوي، حيث لن تكون الفترة طويلة جدّا قبل ان تتكاثر «الاصفار» على أسعار السلع في لبنان، وقبل ان نرى عملات ورقية أكبر من فئة المليون و50 او 100 مليون او حتى مليار! كما وانه لن يطول الوقت قبل ان ترفع المصارف سعر الصرف المعتمد من قبلها للسحوبات النقدية بالليرة وقبل ان يعدّل مصرف لبنان سعر صرف منصته الالكترونية في حال بقي هناك من دولارات للابقاء على المنصة وعلى سياسة الدعم، وقبل ان يرفع القطاع العام والخاص الرواتب والاجور… إلّا ان جميع تلك الترجيحات الآتية لا محالة، لن تساهم ولن تعالج ولن تحدّ من تداعيات الأزمة المالية والنقدية والاقتصادية ولن ترفع القدرة الشرائية للمواطن، لأنّ الفارق بين سعر الصرف في السوق السوداء وفي القطاع المصرفي سيبقى شاسعاً، على سبيل المثال 20 الف ليرة في السوق السوداء مقابل 8 آلاف في المصارف. كما ان رفع الاجور لن يوازي ارتفاع معدل تضخم الاسعار، وبالتالي أي زيادة في الاجور بنسبة 20 او 30 في المئة لن تغطّي ارتفاعا بقيمة 60 و80 في المئة في أسعار السلع والخدمات.
ومن يعتقد انّ ارتفاع الدولار الى 13500 ليرة هو السقف الاقصى الذي سيفجّر الأزمة ويولّد الحلول، لا يجب ان يغيب عن ذهنه سيناريو زيمبابوي وغيرها من الدول التي لم تعالج أسباب الأزمة بل اكتفت فقط بوقف التداول بعملاتها المحلية. وهذا الاجراء ليس مستبعداً من طبقة حاكمة قررت محاربة انهيار عملتها بقمع المنصات الالكترونية واقفال محال الصيرفة. وها هي الليرة منذ بدء هذه الاجراءات البوليسية تشهد أسرع انهيار لها في اسبوع حيث تراجع سعر صرفها من حوالى 9000 ليرة مقابل الدولار يوم الاثنين الماضي عندما اتخذ قرار القمع في اجتماع بعبدا، الى اكثر من 13500 ليرة أمس بعد امتناع الصرافين الشرعيين عن العمل، وبعد إقفال المنصات الالكترونية المعنية بتحديد سعر صرف العملة مقابل الدولار.
في هذا الاطار، رأى الخبير المالي مايك عازار «اننا بلغنا الخطر الذي كنا نخشى حصوله، وهو فقدان الثقة التام بالليرة اللبنانية من قبل كافة شرائح المجتمع. عندما كان البعض يعتبر ان الليرة ستعاود الارتفاع او انه ستتم معالجة الأزمة، لم يكن مسار انهيار العملة متسارعا كما هو الحال اليوم، حيث كانت هناك فترات من الاستقرار أيضا في سعر الصرف في السوق السوداء. إلا اننا اليوم نشهد فقدانا تاما للثقة في الليرة، وتسارعاً مخيفاً في تدهور سعر الصرف بين ساعة واخرى، وباتت الليرة تفقد حوالى 1000 و2000 ليرة من قيمتها يوميا».
وقال لـ»الجمهورية» انه لاحظ عبر المنصات الالكترونية التي ما زالت قائمة او من خلال المجموعات المعنيّة بتحديد سعر صرف الليرة عبر تطبيق «واتساب» وغيره، اتّساع الفارق بين سعر بيع وشراء الدولار بحدود ألف ليرة، وهو مخالفة كبيرة للقوانين والشروط المحددة للصرافين، بما يتيح لكافة المتعاملين في السوق السوداء من اشخاص شرعيين وغير شرعيين تحقيق ارباح أكبر خلافاً للقانون.
واشار عازار الى شبه انقطاع للدولار في السوق السوداء وعدم توفره بكميات كبيرة يحتاج لها التجار، بما سيؤثر سلبا في سلسلة التوريد الغذائية والصحية ويؤدّي الى انقطاع السلع الاساسية الغذائية والاستهلاكية وفقدانها أو ارتفاع اسعارها أضعافاً، معتبرا ان التجار، مع ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل متسارع ويومي، قد يلجأون الى التسعير بالدولار واشتراط الدفع نقدا وبالدولار بسبب الصعوبة التي يواجهونها في تأمين العملة الصعبة للاستيراد، إلا ان ذلك لن يشكّل حلّاً لأن معظم المستهلكين لا يملكون الدولارات ولا قدرة لهم على شرائه، وبالتالي سيتعذّر على كلّ من لا يحمل الدولارات شراء حاجاته الاساسية.
وفيما شدد على انه لا يمكن تحديد المسار الذي سيسلكه سعر الصرف في المرحلة المقبلة، توقّع عازار، في حال بقي الوضع من دون معالجات جدّية على كافة الاصعدة، ان نصل الى مرحلة يتضاعف فيها سعر الصرف بشكل يومي لتفقد العملة المحلية قيمتها بشكل كامل ويتوقف التداول بها نهائيا، لافتاً الى انّ تغيير العملة المحلية هو جزء من الاصلاحات النقدية التي لا مفرّ منها لاحقاً.
ورأى ان لجوء الطبقة الحاكمة الى أسهل الطرق للخروج من الأزمة عبر منح زيادة على رواتب فئة من القطاع العام سيجرّ زيادات لفئات اخرى، وسيليه رفع سعر صرف السحوبات النقدية في المصارف واجراءات اخرى مماثلة لا تعدو كونها «مجاراة» للأزمة وليس «معالجة» لها.
رنى سعرتي