بدأ الوضع في لبنان يقترب من المشاهد التي كان يتابعها اللبناني عبر الشاشات في دول منهارة، أصاب الفقر شعوبها. بطاقات تموينية، التقاتل على كيس رز، استجداء محطات الوقود للحصول على غالون بنزين… انّه الانهيار الكبير الذي ظهرت بعض معالمه في الايام القليلة الماضية.
وقع المحظور وانتقل لبنان في أقل من أسبوع من السيئ الى الأسوأ الذي سيتفاقم يومياً. فما قبل اجتماع بعبدا المالي ليس كما بعده، ونحن نشهد حالياً تداعيات القرارات الخنفشارية التي صدرت عنه، والتي قد تكون ساهمت في تسريع تدهور سعر صرف الليرة بشكل دراماتيكي. إذ مع إيقاف عمل منصّات التسعير وملاحقة الصرافين الشرعيين، بات الكل لاعباً في السوق السوداء، بدليل تدهور الليرة من 10 آلاف الى 15 الفاً في أسبوع.
وقد رسم هذا الواقع مشهدية جديدة في حياة المواطن اللبناني تُلخّص “بالذل”، وبعد ان كان الذلّ محصوراً في المصارف انتقل الى السوبرماركت، حيث التقاتل على المواد المدعومة وما تيسّر على الرفوف من مواد غذائية، قبل ان تسجّل مزيداً من الارتفاع، ومنه الى باقي القطاعات الاقتصادية. فالطوابير طويلة امام محطات المحروقات، التي لا تزال توفّر مادة البنزين للحصول على ليترات محدودة. اما غالبية المحلات التجارية مقفلة بانتظار استقرار الصرف، والجديد تهديد نقابة اصحاب الافران بالتوقف القسري عن الإنتاج ريثما تستقر الأسعار.
وفي غياب أي حلول سياسية، اقلّه في المدى المنظور، وأي قرارات إصلاحية وفعّالة تحدّ من التدهور المتلاحق، كشفت مصادر متابعة لـ”الجمهورية”، انّ بعض اصحاب السوبرماركت بدأ باعتماد نوع من الأمن الذاتي في المناطق التي يعملون فيها، وتتمثل بحصر بيع المواد والسلع الغذائية الى زبائنهم، وذلك كتدبير يهدف الى الحدّ من تحرّك بعض “المجموعات” التي تنتشر في المناطق، وتعمل على سحب المواد المدعومة ما ان يتمّ عرضها في السوبرماركت، وخصوصاً الحليب والزيت والسكر، بحيث تصبح الكميات المعروضة منها اقل من الطلب، ويعمد هؤلاء تالياً، اما الى تجميع ما توفّر من المدعوم وتهريبه الى سوريا، واما الى إعادة بيعه في متاجر أخرى بأسعار غير مدعومة، وذلك بعد تغيير غلافها، وهذا ما تجلّى أخيراً بظاهرة حرق كمية من أكياس المواد التموينية المدعومة.
أما في ما خصّ بيع المحروقات، فلفتت المصادر الى انّ اكثرية المحطات باتت تعتمد اليوم سياسة التقنين في البيع، للحدّ من خسارتها قبل ارتفاع سعر صفيحة البنزين كل يوم اربعاء. والملاحظ انّ هذا التقنين أدّى بالمستهلكين الى التوجّه نحو الأرياف، حيث لا تقنين، لأنّ الضغط على الطلب أقل، كذلك انتشرت ظاهرة باصات البنزين التي تجوب المناطق لبيع البنزين بالغالونات بأسعار السوق السوداء، أي مضاعفة عن الأسعار الرسمية.
أضف الى ذلك، توجّه غالبية المصارف الى رفض قبول شيكات الدولار، والتي سبق للمصرف المركزي ان فرض تأمينها بنسبة 10% كشرط من شروط فتح اعتماد لاستيراد المحروقات. أما المصارف التي تقبل شيكات الدولار فتفرض تجميد التصرف بها لمدة عام، بما من شأنه ان يزيد من تفاقم الأمور مستقبلاً.
ما سبق هو اختصار ليوميات مواطن مذلول. أما الدولار المحلّق، فبيعه متوقف لدى الصرافين الشرعيين الذين اغلقوا محلاتهم بعد ملاحقتهم. ومتى سألت عن مكان لبيع الدولار، الكل يدلّ الى الضاحية الجنوبية مركز البيع والشراء والتسعير.
وبعد كل ما تقدّم، تبدو الصورة واضحة تماماً، اننا في جهنم الذي سبق وتحدث عنه رئيس الجمهورية، وانّ الاتجاه نحو مزيد من الفقر والعوز والجوع من دون ان ينكشف حتى الساعة القعر الذي تنحدر نحوه البلاد.
نقطة اللاعودة
في السياق، تؤكّد مصادر مطلعة لـ”الجمهورية”، انّ لا سقوف للدولار بعد اليوم، ولا شيء سيحدّ من تدهور الليرة الّا سلطة بديلة من خارج نظام الطوائف، وذلك في حال كانت هناك نية لبقاء البلد وليس زواله. لكن طالما انّ همّ المسؤولين محصور اليوم في الحسابات الديموغرافية والتوزيع الطائفي في وظائف الدولة والمحاصصة المتوقفة عند طائفة موظف فئة، خامسة فهذا يعني اننا لا نتحدث عن بلد.
وقالت المصادر: “لا نعلم اذا كنا دخلنا الأسوأ ام بعد، لكن اللعب والترقيع في الحلول من دون الإنصراف الى خطة شاملة من اساسياتها ترشيد الدعم، هو بمثابة بيع أوهام. كذلك الحديث عن البطاقة التموينية التي لم تصدر حتى الآن، والتي أصبحت لا تمثل أكثر من 10 الى 15 في المئة من القوة الشرائية التي خسرها المستهلك اللبناني”. وأبدت المصادر خشيتها من اننا وصلنا الى نقطة اللاعودة، لا بل نحن في صلبها، والمشكلة انّ البديل لم يولد بعد. فالأزمات في لبنان تتراكم وتتفاعل لدرجة انّ معالجتها ما عادت ممكنة مع هذا النمط او المستوى من الحكّام.
من جهة أخرى، ورداً على سؤال، رأت المصادر انّه ليس الوقت المناسب اليوم لرصد أعداد الهجرة، لأنّ أبواب غالبية الدول لا تزال موصدة بسبب تداعيات كورونا. لكن مع الوقت، وبعد ان تبدأ كورونا في الانحسار، وفي حين لا تزال الاوضاع في لبنان تمضي نحو القعر، عندها هناك خشية من هجرة كل لبناني يملك مهارات.
وقالت: “ألا يدرك المعنيون مدى خطورة خروج 100 طبيب من مؤسسة رائدة اسمها الجامعة الأميركية؟ فكل طبيب هو خسارة تقدّر بنحو 10 ملايين دولار، وهؤلاء هم عبارة عن خسارة مئات ملايين الدولارات تمثل قوة لبنان والقيمة المضافة التي يتمتع بها، الثقافة والصحة ومظاهر قوة لبنان”.
تابعت: “انّ الخلل الديموغرافي الوحيد المخيف اليوم هو هجرة الطبقة الوسطى، والتي ستطال المسيحيين أكثر من المسلمين، لأنّهم يشكّلون العدد الأكبر من هذه الطبقة. ويتميز المسيحيون بقدرة اكبر على التأقلم والاندماج مع مجتمعات جديدة، لأنّ لهم باع طويل في الهجرة، يعود الى اكثر من 100 عام”.
ايفا ابي حيدر