سرعة دوران النقد

لا يزال الاقتصاديون يدرسون الآثار الحالية والمستقبلية التي سبّبتها جائحة «كورونا»، فقد غيّرت هذه الجائحة مفاهيم اقتصادية عدة، لا سيما مع تأثيرها على مفاصل الاقتصاد العالمي. ومع بدء الحملات الدولية الواسعة للتحصين ضد الفيروس، بدأ العالم يفكر في الوضع الاقتصادي فيما بعد «كورونا». وتعد «سرعة دوران النقد» أحد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تتم دراستها في الوقت الحالي لما فيها من توضيح لسلوك المستهلكين خلال الجائحة، واستقراء لهذا السلوك فيما بعدها، وما يترتب على ذلك من سياسات اقتصادية ونقدية.
ويُعرف مصطلح «سرعة دوران النقد» بأنه عدد المرات التي يتم فيها استخدام وحدة النقد خلال فترة من الزمن لشراء سلعة أو خدمة. وبشكل أكثر بساطة، فإن هذا المصطلح يعني عدد المرات التي تنتقل فيها العملة من يد شخص إلى شخص خلال مدة زمنية. وتعد سرعة دوران النقد مؤشراً مهماً على الحركة الاقتصادية وعلى ثقة الأفراد والمستثمرين بالاقتصاد المحلي. ولذلك، ففي أوقات الأزمات الاقتصادية تنخفض سرعة دوران النقد لأسباب منها اهتزاز ثقة المستثمرين بالوضع الاقتصادي، وتفضيلهم الادخار على الإنفاق خوفاً من المستقبل. وقد ارتبطت فترات الكساد الاقتصادية بانخفاض دوران النقد، حدث ذلك في ثلاثينات القرن الماضي إبان الكساد العظيم، وفي أزمة 2007 المالية التي استمر بعدها دوران النقد في انخفاض لفترة طويلة. وفي المقابل فإن زيادة دوران النقد يرتبط بزيادة الرفاهية الاقتصادية والمعيشية بفرض أن زيادة نصيب الفرد من الدخل يعني زيادة نفقاته الاستهلاكية وبالتالي زيادة دوران النقد.
وفي الولايات المتحدة، كانت سرعة الدوران النقدي في منتصف التسعينات 2.2، أي إن الدولار الواحد كان يتم تداوله أكثر من مرتين في السنة، ويشمل هذا الأمر التعامل النقدي والرقمي للدولار (بما في ذلك الإنفاق من خلال البطاقات الائتمانية). إلا أن هذا الرقم بدأ بالانخفاض تدريجياً مع الزمن ليصل إلى 1.5 قبل الجائحة، وإلى أقل من 1 بعد الجائحة، وهذا هو الرقم الأقل تاريخياً في الولايات المتحدة. وقد يكون سبب هذا الانخفاض أن المستهلكين لم يجدوا سبيلاً لإنفاق أموالهم لا سيما مع فترات الحجر المنزلي خلال أيام الجائحة. إلا أن خوف الكثيرين من فقدان وظائفهم وتفضيلهم الادخار على الإنفاق استعداداً للمستقبل المجهول كان سبباً مهماً لانخفاض سرعة دوران النقد.
إلا أن الجائحة ليست الوحيدة الملومة على هذا الانخفاض، فمعدل دوران النقد كان منخفضاً بالفعل قبل الجائحة، وفي ذلك دليل على عدم تساوي الثروة. فالمعروف عن الطبقة المتوسطة والفقيرة أنهم أكثر إنفاقاً للأموال بحكم تقارب دخلهم مع احتياجهم، فهم ينفقون غالبية ما يحصلون عليه، أي إن الثروة في أيديهم تزيد سرعة دوران النقد. لذلك فإن انخفاض سرعة دوران النقد تعني أن غالبية النقد تتركز لدى الأثرياء، والذين في العادة تقل مصروفاتهم بشكل كبير عن دخلهم، مما يسبب تركز النقد لدى البنوك.
ويسبب هذا التركز قلقاً للبنوك المركزية، التي تضطر إلى طباعة أوراق نقدية جديدة بشكل متكرر بسبب تكدس النقد في البنوك. كما تؤثر سرعة دوران النقد بشكل مباشر على معدل التضخم، حيث يسبب انخفاض سرعة دوران النقد في انخفاض معدل التضخم بسبب قلة الإنفاق المحلي. ولذلك فإن سرعة دوران النقد هو أحد أكثر المتغيرات المستخدَمة من البنوك المركزية لتحديد النمو النقدي وصياغة السياسة النقدية.
إن ما يقضّ مضجع كثير من البنوك المركزية اليوم هو انخفاض سرعة دوران النقد حتى مع كثرة الحوافز التي تقدمها الحكومات خلال فترة الجائحة، وعلاوة على هذه الحوافز فإن كثيراً من الحكومات تطبع المزيد من الأوراق النقدية، وهو ما يرتبط عادةً بزيادة في الاستهلاك المحلي، وهو ما لم يحدث في كثير من الدول. هذه النقطة تحديداً هي ما تثير قلق الاقتصاديين في تلكم الدول، فزيادة الأوراق النقدية مع انخفاض دوران النقد يعني زيادة المدخرات بشكل مباشر. وفي حال انتهت الجائحة، فإن المستهلكين سيملكون كمية عالية من النقد وسينفقونها في وقت قصير، وهو ما يعني زيادة سريعة في التضخم، قد لا تكون في مصلحة الاقتصادات المحلية.

د. عبدالله الردادي.

. ليرة لبنانية جديدة لمحاربة التضخم

اذا استمر الوضع على ما هو عليه اليوم، سنقترب بسرعة من درجة متقدّمة في التضخّم المفرط، وقد نشهد ولادة الليرة الجديدة في عملية قيصرية مُبكرة قبل اكتمال الظروف المناسبة، بما يهدّد حياة المولود الجديد، ويُدخلنا في حلقة مُفرغة من حذف الأصفار.

لم يكن مشهد اقتحام سوبرماركت وتحطيم المحتويات، أو مشهد التقاتل من أجل كيس حليب مجفّف او قنينة زيت مدعوم، من المشاهد المألوفة لدى اللبناني. لكن، من يراجع التطورات في دول واجهت أزمات مالية شبيهة بالأزمة التي نواجهها، يدرك انّ هذه المشاهد النافرة مألوفة، من حيث انّها تتكرّر وكأنّها تُستنسخ في كل دولة يعاني شعبها الظلم الاجتماعي الذي يعانيه اللبناني اليوم. دائماً تبدأ النقمة ضدّ المصرف وتتعرّض المصارف الى التحطيم والحرق، حيث يصبّ الفقراء الجدد غضبهم على المصرف كمرحلة أولى. ثم ينتقل الغضب الى مراكز بيع المواد الغذائية، لأنّ اهتمامات الناس تتركّز لاحقاً على تأمين الغذاء، بعد أن يفقدوا الأمل باستعادة مقومات العيش الرغيد ومتفرعاته. وفي مرحلة ثالثة يرتفع منسوب النهب والسرقة والاعتداءات على المحلات والناس، اذ تحلّ الحاجة القصوى مكان الغضب. وبالتالي، يصبح الهدف من اقتحام سوبرماركت السرقة لتأمين لقمة العيش، وليس مجرد فشة خلق…

في موازاة هذا السيناريو الذي يتكرّر في دول تعاني انهيارات مالية مصحوبة بعجز وفساد سياسي، يحول دون وقف الانهيار عند قعر مقبول، هناك مشهد آخر مُتكرّر يرتبط بدور رجل الأمن في أزمات من هذا النوع. هذا المشهد هو حصري للدول غير الديمقراطية. في هذه الدول يُستخدم رجل الأمن للقمع. وبما أنّ العسكر مثل سواه من الناس، يمكن أن يجوع وبالتالي، يصعب استخدامه في قمع الجائعين، تلجأ السلطات الى منح العسكريين امتيازات معيشية تسمح بضمان الولاء.

يروي ديبلوماسي لبناني معتمد في كاراكاس، انّ القيادات العسكرية في فنزويلا تتمتع بمميزات استثنائية منحها ايّاها الرئيس نيكولاس مادورو، تسمح للضباط الكبار بمداخيل مرتفعة وكافية لعيش رغيد، في حين انّ العسكريين يحصلون بدورهم على امتيازات معيشية، تقيهم العوز الذي يعانيه الشعب الفنزويلي. في لبنان، يعتقد البعض، ورغم الانتخابات، انّ العامل الطائفي يجعل النتائج أقرب الى التوتاليتارية الطائفية منها الى نتائج ديمقراطية. هذا الواقع سبّب النقزة، عندما جرى اقتراح تقديم مليون ليرة شهرياً للعسكريين، رغم النية الحسنة وراء الاقتراح، لأنّ أخطر ما يمكن ان يواجهه مجتمع، هو التمييز المعيشي بين مدني وعسكري في أزمة تُنهك الجميع.

خارج سياق المشاهد الحياتية القاسية التي سيشهدها البلد في الأشهر المقبلة، هناك اجراءات قد تضطر الى اتخاذها السلطات، من ضمنها رفع الاجور، شطب أصفار من العملة، أو استحداث عملة جديدة، أو حتى التخلّي عن الليرة وحصر التعامل بالعملات الاجنبية، وتحديداً بالدولار…

كل هذه الاجراءات ستكون مطروحة وفق التجارب التي واجهتها دول أخرى. لكن شطب أصفار من الليرة تحت مُسمّى الليرة الجديدة وفق ما يُعرف اقتصادياً بـ Redenomination ، أو حتى تغيير الإسم بالكامل من خلال ابتكار اسم جديد (وانة على سبيل المثال، وهي مشتقة من كلمة ارجوانة تيمناً بالتراث الفينيقي)، لن يقدّم أو يؤخّر اذا لم يأت ضمن خطة انقاذية شاملة. وهنا أيضاً نستحضر تجارب الدول لاستشفاف ما قد يجري.

في العادة، وفي حالات التضخّم المفرط (hyperinflation)، يتمّ اللجوء الى شطب الاصفار، واستحداث عملات جديدة. وظيفة هذا الإجراء الأولى نفسية، حيث يُفترض ان تريح المتعامل، وتوهمه بأنّ سعر صرف عملته أصبح أفضل. الوظيفة الثانية، تحقيق وفرٍ في عملية طباعة العملة، حيث انّ كلفة الطباعة تتجاوز أحياناً قيمة الورقة النقدية نفسها. الوظيفة الثالثة، تسهيل العمليات المحاسبية.

مع ذلك، نلاحظ انّ هذا الاجراء ينجح في دول ويفشل في دول أخرى. وفي التاريخ الحديث، أي من العام 1960 حتى اليوم، هناك 19 دولة حذفت أصفاراً من عملتها، بعضها مرات عدة، مثل البرازيل 6 مرات، يوغوسلافيا 5 مرات، الارجنتين 4 مرات، بلجيكا، روسيا، بولندا واوكرانيا 3 مرات، بوليفيا واسرائيل لمرتين، ومرة واحدة في كل من كوريا، ايسلندا، غانا، وتركيا.

لا حاجة الى التأكيد انّ معيار النجاح والفشل يرتبط بالظرف الذي تتمّ فيه عملية إطلاق العملات الجديدة. في اسرائيل مثلاً، استُحدث الشيكل الجديد (new shekel) في العام 1985، ضمن خطة إنقاذ شاملة أخرجت البلد من أزمة مالية واقتصادية خانقة، قبيل الانهيار الكبير الذي كان متوقعاً فيما لو لم تُقرّ ويبدأ تنفيذ الخطة. لذلك نجح الشيكل الجديد الذي كان يساوي 1000 شيكل قديم، وانتهت المشكلة. لكن، قبل ذلك، حاولت اسرائيل معالجة الأزمة على الطريقة اللبنانية، اذ انتقلت من «الليرة الاسرائيلية» التي كانت مُعتمدة الى الشيكل بسبب التضخّم، من دون خطة إنقاذ، وقد حذفت صفراً من العملة القديمة بلا نتيجة.

هذه التجربة لم تنجح مثلاً، ورغم تكرارها مرات عدة في هنغاريا، حيث كانت الدولة تستخدم عملة كورونا korona، وبسبب الانهيار المالي والتضخّم استحدثت عملتها الجديدة بينغو pengo، ولاحقاً وبسبب استمرار الانهيار استحدثت عملتها الحالية فورينت forint، ولا يمكن التكهُّن بإسم العملة الهنغارية بعد سنوات، اذا استمر فخ التضخم المفرط قائماً.

في لبنان، واذا استمرت الغيبوبة القائمة، واذا استمر اسلوب معالجة حرارة المريض المرتفعة عبر تحطيم ميزان الحرارة لإخفاء النتيجة، قد نضطر الى تغيير العملة مراتٍ عدة، والى رفع الاجور مراتٍ عدة أيضاً، وربما رفع تسعيرة المنّصة لسحب الودائع الدولارية بالليرة، لكننا سنبقى في دوامة الحلقة المفرغة التي ستواصل ابتلاع ما تبقّى من مقومات الوقوف مجدداً في المستقبل.​

انطوان فرح.