إنّ الدولرة القوية التي عاشها لبنان منذ أزمة الثمانينات والتسعينات جعلت أي أداة استقرار قائمة على التحكم في عرض النقود بالليرة اللبنانية غير فعالة، وأدت إلى اعتماد الاستقرار على أساس تثبيت سعر الصرف بشكل مستمر عبر تدخّل مصرف لبنان في سوق القطع… إلا أن الحفاظ على هذا «الاستقرار» كان يتطلب دائما توفير المزيد من احتياطي العملات الأجنبية لمصرف لبنان للحفاظ على هامش تدخله في السوق… الأمر الذي تطلّب جذب ما يكفي من الدولارات من الخارج وتحقيق فائض في ميزان المدفوعات (حيث تقليدياً فائض ميزان الرساميل يفترض أن يعوّض عجز الميزان التجاري في بلد مستورد رئيسي)… ومع تراكم عجز ميزان المدفوعات وزيادة الهوة بين الدولرة المتزايدة للودائع والموجودات المتناقصة بالدولار، ومع تلاقي الحاجة لشراء الوقت وتلاقي هدف المالية العامة لجهة تمويل عجوزاتها وتخفيض خدمة الدين العام عبر دولرة جزء منه، وهدف المصرف المركزي بزيادة احتياطه بالعملات الأجنبية وهدف المصارف بإيجاد توظيفات مربحة و»موثوقة» حصلت سلسلة «الهندسات المالية»… فما هي آليّاتها؟ وأي دور وأي نتائج لكل من الأطراف المعنية بتنفيذها؟
بعد تجربة التضخّم المفرط وانهيار سعر صرف الليرة في الثمانينات واتجاه العملاء الاقتصاديين تلقائياً في لبنان نحو الدولرة الحرة الجزئية غير الرسمية ولو بمعدّل مرتفع تخطى حينها الـ80 % من الودائع، ثم انخفض بعد تثبيت سعر الصرف تدريجاً لكن من دون ان ينخفض عن عتبة الـ67 % من الودائع ليعاود اليوم تخطي حدود 80 %. كان لا بد من اعتماد سياسة ضبط سعر صرف الليرة إزاء الدولار المستخدم الى جانبها بشكل مواز في السوق، لا بل أنشئت غرفة مقاصة للشيكات بالدولار واعتمدت المصارف لسنوات تعبئة أجهزة الصراف الآلي بالدولار الأميركي الى جانب الليرة اللبنانية مع السماح بالتحويل التلقائي بين حسابات الليرة والدولار والسحب النقدي بأي من العملتين، خلافاً لما هي الحال في مختلف بلدان العالم التي يقتصر فيها سحب الصراف الآلي على العملة الوطنية التي يمكن التحكّم بطباعتها. وذلك في ظل تَنامٍ غير مستدام للدين العام الذي أصبح أكثر من ثلثه مدولراً، ويعاني تراجعاً متتالياً لتصنيفه الائتماني من المؤسسات الدولية بما يعكس التشكيك بالقدرة على التسديد الكامل عند الاستحقاقات ويتطلّب زيادة معدلات الفوائد للتعويض عن المخاطرة، ويضاف اليه تدهور في ميزان المدفوعات والأصول الخارجية للنظام المصرفي وضعف احتياطيات المصرف المركزي بالدولار الأميركي بعد جهود صموده منذ انقلاب الأوضاع في لبنان والمنطقة منذ العام 2011 واستمرار مصرف لبنان بـ»دعم» سعر صرف الليرة 1507.5 وتأمين الاستيراد على أساسه بكميات تبيّن أنها كانت تفوق حاجة السوق المحلي بما كان يزيد الضغط على استنزاف الاحتياطي الأجنبي أكثر فأكثر.
وللتذكير فقد بلغ عجز ميزان المدفوعات في نهاية عام 2019 حوالى 4,351 ملايين دولار أميركي، بينما بلغ العجز المتراكم منذ عام 2011 14,515,9 مليون دولار أميركي، باستثناء عام 2016 الذي تميز بشكل استثنائي بفائض في ميزان المدفوعات نتيجة عمليات «الهندسة المالية» المنفذة من قبل مصرف لبنان كوسيط بين الخزينة العامة والمصارف التجارية.
وقد اعتمدت هذه العمليات على تبادل حصة متزايدة من سندات الخزينة بالليرة اللبنانية التي يحتفظ بها القطاع المصرفي مقابل سندات اليوروبوندز من خلال مصرف لبنان، والتي سعت إلى جذب المزيد من الدولارات لتجديد احتياطياتها من العملات الأجنبية وتأخير اندلاع الأزمة قدر الإمكان… انتهت هذه العمليات بزيادة «تغطيس» المصارف اللبنانية في تمويل الدولة عن طريق شراء سندات اليوروبوندز الخاصة بها باستخدام الودائع بالعملات الأجنبية لعملائها، مما يفسر الانتشار الحالي للأزمة في القطاع المصرفي وتوقفه عن توفير الدولارات لمودعيه.
وقد أدت الهندسة المالية التي تم تنفيذها في عام 2016 إلى نتائج ملحوظة لمختلف اللاعبين المعنيين من الخزينة العامة والمصرف المركزي الى المصارف التجارية. وأخّرت ظهور معالم أزمة تراكمت مؤشراتها حتى انفجرت بوجه المودعين دفعة واحدة في خريف 2019 من دون التنبه للمراحل السابقة…
وقد بدأت عمليات «الهندسات المالية» كخيار غير تقليدي للسياسة النقدية في لبنان منذ العام 2016 لتؤدي الى النتائج التالية:
بداية تحسين الاحتياطي الإجمالي لمصرف لبنان من النقد الأجنبي من 35.1 مليار دولار في أيار 2016 قبل عمليات الهندسة المالية في نهاية تشرين الأول 2016 إلى 40.6 مليار دولار بعد تحقيقها (بين الوساطة لبيع اليوروبوندز وأيضاً إصدار وبيع شهادات إيداع من المصرف المركزي للمصارف لاجتذاب المزيد من ودائع الدولار الموظّفة لديها)، لزيادة إمكانية التدخل في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن استقرار سعر الصرف واتباع سياسة تثبيت الليرة مقابل الدولار الأميركي.
كما أدى هذا الخيار الى إعادة رسملة المصارف وفقاً للمعيار الدولي IFRS9 نظرا لأن مصرف لبنان أصدر تعميما يطالب المصارف التجارية بتوجيه العوائد التي حققتها الهندسة المالية نحو زيادة رساميلها وتحسين احتياطيات المصارف والالتزام بالمعيار الدولي للتقارير المالية IFRS9 الصادر في كانون الثاني 2018، والذي يتطلب من المصارف تقدير وتسجيل مخصصات الخسائر المتوقعة على الذمم المدينة من لحظة التزامها بإقراض الأموال أو الاستثمار في أداة مالية، مثل السندات. كما يطلب مصرف لبنان من المصارف التجارية تكوين احتياطيات بمعدل 2 % من الأصول التي تحمل مخاطر الملاءة المالية.
وسمح أيضا للمصارف التجارية بالوصول إلى نسبة حقوق الملكية التي فرضها عليها مصرف لبنان نهاية عام 2018، وهي 15 % وهي تتجاوز توصيات Bale3 التي طلبت زيادة هذه النسبة من 8 % إلى 10.5 % من المشكوك في تحصيلها. أصول من بداية عام 2019.
ومع ذلك، فإن المصارف تخاطر بأن تجد نفسها في حالة فخ السيولة إذا لم تكن قادرة على استخدام العوائد المحققة لمنح القروض ويتعين على الخزينة العامة إصدار سندات عند الاستحقاقات لفترة طويلة لامتصاص هذه السيولة الزائدة. وبالتالي لا يكون التسهيل الكمي المطبق Assouplissement quantitatif أكثر من مجرد تبادل بسيط للسندات الحكومية.
كذلك مع زيادة السيولة بالعملة الوطنية، أتاحت الهندسة المالية ضمان الاحتياجات التمويلية للقطاعين العام والخاص في ظل أفضل الظروف بفضل زيادة الودائع بنسبة 2.5 % لتصل إلى الحد الأدنى. معدل الزيادة السنوي 7.2 % في نهاية عام 2016. وهكذا زادت الودائع المصرفية من 159 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2015 إلى 172 مليار دولار أميركي في نهاية عام 2016. لتفوق ما يوازي 180 مليار دولار منها 120 مليار دولار فعليا بالدولار الأميركي قبيل انفجار الأزمة عام 2019. بالإضافة إلى ذلك، مكّنت السيولة الفائضة بالليرة اللبنانية المصارف التجارية من زيادة محفظة قروضها خاصة من خلال القروض المدعومة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة والقطاعات الاقتصادية الهشة وقروض الإسكان.
كما تم تحسين وضع المالية العامة من خلال تخفيض خدمة الدين العام. وخفضت الهندسة المالية أسعار الفائدة على أذون الخزانة لأجل 5 سنوات من 6.74 % إلى 5 %. كما خفض مصرف لبنان أسعار الفائدة على شهادات الإيداع طويلة الأجل لحسابات التوفير بالليرة اللبنانية من 9 % إلى 8.4 %. وشجع هذا التحسن في وضع المالية العامة المؤسسات المالية الدولية على الاكتتاب بسندات اليوروبوندز. من هناك، ساعدت الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بالهندسة المالية على تعزيز المراكز النقدية والمالية دون رفع أسعار الفائدة على سندات الخزانة بالليرة اللبنانية أو سندات الخزانة بالدولار الأميركي.
وقد أدت الهندسة المالية إلى نجاح مشروع قانون الخزانة الجديد بالدولار الأميركي. وإذ يدرك أن مصرف لبنان مسؤول عن الترويج لسندات اليوروبوندز للخزينة العامة تطبيقاً للمواد 70 إلى 97 من قانون النقد والتسليف التي تمنحه في مهمته دور الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والترويج المجاني للقروض العامة داخلياً وخارجياً، يسمح مصرف لبنان للمصارف التجارية بخصم شهادات الإيداع بالدولار الأميركي بشرط الاكتتاب بنفس المبلغ في أذون الخزانة بالدولار الأميركي، فضلاً عن تحسين وضع ميزان المدفوعات من خلال تطبيق إجراءات من شأنها زيادة الطلب المحلي والإنتاجية وبالتالي زيادة النمو والتنمية. وبلغ تدفق رأس المال الناتج عن هذه الهندسة المالية 4.2 مليارات دولار أميركي في نهاية عام 2016. وتحول العجز التراكمي الذي بلغ 1.7 مليار دولار أميركي في أيار 2016 إلى فائض قدره 1.35 مليار دولار أميركي بنهاية عام 2016.
وقد كانت الزيادة في التضخم من 0 % إلى 2 % في أيلول 2016 مناسبة تماماً للنتائج المرجوة للسياسة النقدية لمصرف لبنان. كما لوحظ تحسن في تصنيف لبنان بعد عمليات الهندسة المالية الأولى لمصرف لبنان، مما أدى إلى انتقال التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالة الدولية Standard and Poor›s من سلبي إلى مستقر.
كذلك استفادت الدولة من تطبيق معدل ضريبة قدره 15 % على العوائد التي حققتها المصارف التجارية، بقيمة 5 مليارات دولار أميركي، وبالتالي إيرادات ضريبية بقيمة 1.2 مليار ليرة لبنانية أو ما كان يوازي 800 مليون دولار أميركي من هذه العوائد الاستثنائية.
يلاحظ أنّ مصرف لبنان طلب من خلال ثلاث مذكرات أن يخصص جزء من هذا الدخل لإعادة رسملة المصارف بما يقارب 2.4 مليار دولار. ومع ذلك، فإنّ هذا لا يعني أنّ المصارف سجلت أرباحا بقيمة الفارق أي 2.6 مليار دولار لأنه من أجل جذب المزيد من العملات الأجنبية، كان على بعض المصارف إطلاق منتجات مالية جديدة تشارك فيها جزءًا من الأرباح مع عملائها ولا يتأثر فيها مصرف لبنان.
يتم وضع حوالى نصف هذه السيولة بالليرة اللبنانية على شكل ودائع طويلة ومتوسطة الأجل لدى مصرف لبنان، على أن يتم تقسيم الباقي بين مبلغ مخصّص لتقديم قروض للقطاع الخاص ومبلغ يوضع في حساب خاص لدى المصارف يمكن للحكومة الاقتراض منه بنسبة 5 % لمدة 5 سنوات، أي بمعدل نقطتين أقل من سعر السوق وبحيث لا يكون هناك فائض في السيولة يحمل مخاطر عالية للتضخم.
وتؤكد الهندسة المالية فرضية نجاح السياسات النقدية غير التقليدية في أوقات الأزمات في دعم الاقتصاد ككل وضمان التمويل اللازم للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، مع اتّباع السياسات النقدية التقليدية.
يبقى القول إنه إلى جانب فوائد اللجوء الاستثنائي للسياسات النقدية غير التقليدية، إلا أنّ الهندسات المالية لمصرف لبنان لم تخل من القيود والمخاطر.
وقد تبيّن أن ضخ السيولة والحاجات التمويلية للقطاع العام وإقباله على تقديم الحوافز للحصول عليها قد شجع المصارف على التمادي في المخاطرة التي ضغطت بدورها على الاستقرار النقدي. وقد أصبح الجهاز المصرفي الشريك الرئيسي المموّل للدولة من خلال سندات الخزينة، إن بالليرة اللبنانية أو بالدولار الأميركي، فاشتبكت أوضاع المالية العامة المتدهورة أساساً بفعل عجزها ومديونيتها بوضع المصرف المركزي الساعي لإدارة أزمة استنزاف احتياطاته الخارجية والتمسّك باستقرار السياسة النقدية وربط لليرة بالدولار مهما كان الثمن، ووضع القطاع المصرفي الذي أصبح مصدر التمويل الرئيسي لدولة يتدهور تصنيفها مما يؤثر على جودة ميزانيات مموّليتها وإمكانية استرداد أموالهم، والبرهان انّ عامل المخاطرة كانت تعكسه بوضوح معدلات الفوائد بعد أن باتت كلها تلحق بفائدة سندات الدولة، حيث يفترض أن يكون التوظيف «الآمن» فكان التوظيف «الأخطر».. هنا مصدر الخلل.. ومن هنا تبدأ المعالجة الصحيحة.
د. سهام رزق الله.