لغز الـ16 مليار دولار في مصرف لبنان

منذ ثورة 17 تشرين الاول 2019، وما أعقبها من تطورات على المستوى المالي والاقتصادي، تحوّل احتياطي العملات في مصرف لبنان بالنسبة للبعض، الى لغز. وحتى اليوم، لا يزال هذا الاحتياطي يُشكّل أحجية، كثيرون لا يستطيعون فكّ خيوطها. فهل من لغز فعلاً في هذا الملف؟

في تشرين الثاني 2019، وعقب إقفال القطاع المصرفي اللبناني لمدة اسبوعين تقريباً بالتزامن مع ثورة 17 تشرين، بدأ يتّضح عمق الأزمة المالية. واتجهت الأنظار الى مصرف لبنان وحاكمه، لمعرفة كم لديه من اموال يمكن استخدامها، لمواجهة الأزمة المقبلة، بانتظار خطة للخروج من المأزق.

في 11 تشرين الثاني 2019، عقد رياض سلامة مؤتمرا صحافيا أعلن فيه ان «الإحتياطي في مصرف لبنان يقارب الـ38 مليار دولار، بما فيه اليوروبوندز واستثمارات البنك المركزي، والقدرة النقدية لدى المصرف في الوقت الحاضر، والتي نستطيع استعمالها فورا هي في حدود الـ30 مليار دولار».

قبل كلام سلامة، أشارت أرقام ميزانية مصرف لبنان في نهاية تشرين الاول الى ان الاحتياطي لديه يبلغ 37.93 مليار دولار. واذا نقّصنا من المبلغ قيمة محفظة اليوروبوندز التي يحملها المركزي، يصبح الاحتياطي 32.90 مليار دولار. واللافت هنا ان سلامة احتسب كل الاحتياطي تقريبا على اساس انه مال جاهز للاستخدام، في حين انه أعلن لاحقاً، انه لا يستطيع ان ينفق من الاحتياطي الالزامي الذي كان حجمه في بداية الأزمة حوالى 17.5 مليار دولار.

هذا الاحتياطي تمّ تكريسه لسياسة الدعم التي بدأت بالمحروقات والقمح والدواء، وتوسّعت لاحقاً لتشمل سلة سلع وصل عددها الى حوالى 300 سلعة.

وعندما باشرت حكومة حسان دياب رسم سياسة اعلان الافلاس، وبدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ساد هرج ومرج في شأن حجم الاحتياطي الحقيقي الذي يمتلكه مصرف لبنان، لكي يُبنى على الشيء مقتضاه. وعندما أبلغ سلامة الحكومة بالرقم، وهو كان مطابقاً للرقم الذي يعلنه مصرف لبنان رسمياً في أرقامه التي ينشرها دورياً، شكّك كثيرون في صحة الرقم، وقيل يومها انه قد يكون رقماً دفترياً، وان المركزي لا يملك دولارات حقيقية بهذا الحجم. لكن تبيّن لاحقاً، ومن خلال استمرار سياسة الدعم التي كانت تستهلك حوالى 600 الى 700 مليون دولار شهرياً، ان الدولارات موجودة بدليل استعمال حوالى 15 مليار دولار منذ تشرين الاول 2019 حتى نهاية العام 2020، بمعدل 1,1 مليار دولار شهريا. هذا الانفاق توزّع بين تأمين الدعم، وبين تسديد مطلوبات على المصارف اللبنانية للمصارف العالمية المُراسلة، وبين تمويل بعض الاحتياجات الرسمية للدولة، بالاضافة الى تهريب أموال، في غياب الكابيتال كونترول.

رغم هذه الوقائع، ظلّ ملف احتياطي العملات في مصرف لبنان أشبه بلغز بالنسبة لبعض المتابعين. ربما لأنّ الارقام بقيت غامضة. وهكذا، عندما نُقل عن سلامة قوله للمسؤولين في آب 2020، انه لم يتبق من الاحتياطي الذي يمكن إنفاقه سوى حوالى ملياري دولار، على اعتبار ان الـ17,5 مليار هي احتياطي إلزامي (15 % من مجموع الودائع الدولارية في المصارف)، لا يمكن المَسّ به، قيل يومها من قبل البعض ان هذا الكلام يعني ان مصرف لبنان لم يعد يملك سوى ملياري دولار فعلياً، وان ما يتحدث عنه على اساس احتياطي إلزامي هو وهمي ومال غير موجود سوى دفترياً.

هذه المقولة سقطت لاحقاً، لكن لغز الاحتياطي استمر، ذلك انّ الأموال المسموح إنفاقها كان يُفترض ان تنتهي مع نهاية العام 2020 على أبعد تقدير. لكن الدعم استمر كما هو، مع التأكيد انّ مصرف لبنان لم يستخدم الاحتياطي الالزامي حتى الآن. وما زاد من وقع المفاجأة هو الكلام الذي خرج به وزير المالية غازي وزني لوكالة بلومبرغ قبل اسبوع، ومفاده ان الاحتياطي في مصرف لبنان وصل الى 16 مليار دولار، وان ما تبقّى للاستعمال هو حوالى مليار أو مليار ونصف المليار دولار. هذا التصريح زاد منسوب الالتباس، واعتبر بعضهم ان ذلك يعني ان سلامة بدأ يصرف من الاحتياطي الالزامي من دون الاعلان عن ذلك، في حين اعتبر آخرون ان سلامة خفّض بصمت نسبة الاحتياطي من 15 الى 10 أو 12 %.

لكن الواقع غير ذلك، ما قاله وزني يعني عملياً ان الاحتياطي الالزامي انخفض من 17,5 مليار دولار، الى حوالى 15.4 مليار دولار، وبما ان المركزي يملك حالياً 16 مليار دولار فهذا الوضع يتيح له إنفاق حوالى 600 مليون دولار.

أما كيف وصل الاحتياطي الالزامي الى هذا الرقم، فالجواب بسيط: تراجع حجم الودائع الدولارية الى حوالى 103 مليارات دولار. وهذا يعني ان الـ15 % المطلوبة كاحتياطي إلزامي لهذه الودائع اصبحت توازي حوالى 15,4 مليار دولار. أما القول انّ هذا المبلغ لا يسمح بإنفاق سوى 600 مليون دولار فصحيح، لكن الصحيح ايضاً ان المقصود بكلام وزير المالية هو احتساب سعر محفظة اليوروبوندز التي باتت تتراوح قيمتها بين 500 و700 مليون دولار، بالاضافة الى انّ الاحتياطي في الاشهر الثلاثة المقبلة سيتراجع، مع توقّع استمرار تراجع حجم الودائع الدولارية في المصارف نتيجة استمرار السحب بالليرة على سعر المنصة، بحوالى 400 مليون دولار شهرياً. وهذا يعني انّ الاحتياطي الالزامي سيصبح في حزيران 2021 حوالى 15.2 مليون دولار وربما أقل، اذا تراجع حجم الودائع اكثر بقليل نتيجة استمرار اطفاء بعض ديون القطاع الخاص بالودائع الموجودة. وبما أن مصرف لبنان يعيد الى المصارف تِباعاً ما يستحق لها من احتياطي الزامي بالليرة وليس بالدولار، تصبح الدولارات المُحرّرة من نصيبه، ويتصرّف بها على أساس انها احتياطي يمكن إنفاقه.

انطوان فرح

التحديات الصينية لولوج مرحلة الطاقات المستدامة

تعدّ سياسات الصين أساسية في نمو الاقتصاد الدولي ومحاولات تقليص الانبعاثات الكربونية؛ إذ تشكل الصين ثاني أكبر اقتصاد عالمي، كما أنها أكثر دولة ضخاً للانبعاثات الكربونية؛ إذ إنها شكلت أكثر من 30 في المائة من الانبعاثات العالمية خلال عام 2020.
أسس السياسة الصينية لها منطلقان مهمان؛ الأول: أن تقليص انبعاثات الاحتباس الحراري ضروري لإبطاء الارتفاع المستمر لحرارة المناخ، وهو ما تهدف إليه «اتفاقية باريس للمناخ – 2015». ثانياً: أن الصين لا تزال في طور التنمية بخلاف الدول الصناعية الكبرى التي حققت انطلاقاتها التنموية خلال منتصف القرن العشرين، ومن ثم يتوجب على الصين الاستثمار الواسع الآن مع مراعاة البروتوكولات المناخية في الوقت نفسه.
أعلنت الصين مؤخراً عن خطتها الخمسية المقبلة التي تهدف إلى تقليص الانبعاثات 18 في المائة سنوياً لكل وحدة من ناتج الدخل القومي بحلول عام 2025. وقد خيّب هذا الهدف الآمال؛ إذ إنه الهدف السابق نفسه؛ دون أي تعديل. كما أثار الإعلان الجديد الاستغراب؛ إذ إنه يأتي بعد تصريح الرئيس شي جين بينغ في سبتمبر (أيلول) الماضي؛ ذاك التصريح الذي لاقى كثيراً من الترحيب في حينه، حيث التزم بتحويل الصين إلى «صفر» من الانبعاثات بحلول عام 2060.
يذكر أن الأهداف المعلنة في الخطة الخمسية الجديدة تتوافق مع ما هو جارٍ حالياً؛ إذ إن ما تحاوله الصين خلال الفترة الحالية هو تقليص الانبعاثات إلى نحو الثلث من مصادر الوقود الأحفوري (النفط الخام، والغاز الطبيعي، والفحم الحجري)، باستبدال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بها. وهذا ما يجري إلى حد مهم في الوقت الحاضر؛ إذ إن نسبة تشييد الطاقتين النظيفتين تزداد بمعدل 12 في المائة سنوياً.
تدل الخطط الصينية على أن الانبعاثات ستصل إلى الذروة في عام 2030 حسب التزامها لـ«اتفاقية باريس للمناخ»، وذلك نظراً إلى توسع اقتصادها ومنشآتها الصناعية، ومن ثم تبدأ الانخفاض الكبير. وقد أثارت هذه السياسة تساؤلات عند بعض المراقبين الذين يشككون في قدرة الصين على إنهاء كامل لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول 2060؛ إذ يقدر حجم الانبعاثات حالياً بنحو 9.3 مليار طن متري.
تواجه الصين تحديات عدة في محاولتها الاقتصادية والاجتماعية الضخمة؛ فعدد سكان الصين 1.4 مليار نسمة، ويزداد سنوياً نحو 0.4 في المائة. والسياسة الراهنة هي رفع مستوى المعيشة الداخلي. وكما ذكرنا أعلاه، فإن الصين، على خلاف الدول الكبرى الأخرى، تعدّ نفسها في مرحلة اقتصادية مهمتها إطلاق النمو والتوسع. والتحديات كثيرة أمام القيادة الصينية؛ فالتغير المناخي يعني لها أولاً وقبل كل شيء، إغلاق الآلاف من مناجم الفحم الحجري المنتشرة في الريف وذات الكثافة العمالية.
كما تواجه الصين تحدياً جيوسياسياً من قبل الولايات المتحدة. فبغض النظر عن نوع الإدارة الأميركية، هناك نهج واضح في واشنطن، لربما يختلف في طريقة التنفيذ؛ يحاول أن يضع حداً للتقدم العلمي الصيني، خصوصاً في مجال العلوم الكومبيوترية. يكمن هذا الصراع بين الدولتين العملاقتين حالياً في منزلة كل منهما عالمياً. ويتمثل هذا الصراع في السماح لشركات البلدين بالوجود أو الانفتاح على الآخر في دولته.
فالولايات المتحدة قد بدأت تفرض قيوداً مشددة على شركاتها المستثمرة في الصين حول استعمال أو نقل بعض التقنيات. كما فرضت واشنطن قيوداً مشددة على استثمارات الشركات الصينية في الولايات المتحدة. على سبيل المثال؛ الهجوم الذي تشنه ضد شركة «هواوي»، أو منع بعض الشركات من التسجيل في البورصات الأميركية. تاريخياً؛ تؤدي الصراعات الاقتصادية إلى اللجوء للسلاح. وزيادة على ذلك؛ هناك مخاوف قديمة – جديدة من نشوب وتصاعد الصراع بين واشنطن وبكين حول مسألتي هونغ كونغ وتايوان.
من ثم؛ فإن استمرار التصعيد الذي يصب لصالح واشنطن في تعطيل أو تأخير التقدم الاقتصادي الصيني، سيؤدي إلى توجيه ضربة مؤلمة لتوسع وحرية التجارة العالمية في المقام الأول، واضطرار الصين إلى تغيير سياسة الانفتاح الاقتصادي التي تبنتها منذ عقد التسعينات في المقام الثاني.

 

وليد خدوري