مالية الاقتصاد الصغير في لبنان الكبير…

على رغم من صغر حجمه لطالما شكّل الاقتصاد اللبناني قبل حرب 1975 نموذجا استثنائيا لامعا في محيطه بموازنات مالية متوازنة بلا عجز ولا حاجة للاستدانة وفائض ميزان مدفوعات بنتيجة تغطية فائض ميزان الرساميل على العجز التقليدي لميزان المدفوعات.. الى أن تبدّلت الحال منذ فترة الحرب وازدادت تحديات فترة إعادة الإعمار، ثم ما إن بدأ الاقتصاد يستعيد أنفاسه حتى جاءت متغيرات العام 2011 لتغلق كل مصادر تمويله واستقطابه للعملات الأجنبية.. فهي إشكالية المالية العامة في لبنان وكيف خرجت عن السيطرة؟ وأي أفق لتطوّرها؟ ما هي أبرز المراحل التي شهدها تطورها؟ وما أهم محطاتها؟ وأي تطلّع الى مستقبلها؟

بعد العصر الاقتصادي الذهبي الذي سبق اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وحتى اليوم، أصبحت موازنات الدولة المتتالية تعاني عجزاً مالياً، ليس بسبب الدور المتنامي للقطاع العام في التنمية الاقتصادية، ولكن بسبب الحرب ثم بسبب فقدان السيطرة على الإنفاق والإيرادات وغياب الإصلاحات الاقتصادية المعمّمة في فترة ما بعد الحرب، وغياب الرؤيا الاقتصادية الكفيلة بتحقيق التنمية المتوازنة قطاعيا ومناطقيا على كل المستويات، لا بل توجيه معظم الادّخار صوب تمويل مالية عامة تفتقد للإصلاح وتستدين لإيفاء فوائد ديونها السابقة…

بين عامي 1982 و1985، زادت النفقات بنسبة 178 % بينما زادت الإيرادات بنسبة 65 % فقط. بين عامي 1986 و1988، زادت النفقات بنسبة 702 % وزادت الإيرادات بنسبة 250 % . بين عامي 1988

و1990، أي خلال العامين الأخيرين من الحرب، وبفضل ضغوط مصرف لبنان المركزي الذي تشدد حينها في تمويل الخزينة تم ضبط التمويل المباشر منه بمقدار ثلث الحاجات التمويلية للقطاع العام وبدء التوجّه نحو الاستدانة لشراء الوقت والتخفيف من التضخم الناتج من التسليفات المباشرة وزيادة الكتلة النقدية المتداولة… كذلك تم إبعاد شبح تقسيم المصرف المركزي حينها ومحاولات البعض الضغط في اتجاه خلق عملتين للاقتصاد وانهيار آخر رموز وحدة اقتصاد الوطن المتشلّع على ضفّتي خطوط التماس… فكان الاقرار بأنّ الاقتصاد اللبناني أصغر من أن يقسّم في عز انقسام دولة لبنان الكبير…

وتشير تقديرات وزارة المال إلى استمرار عجز الموازنة خلال مراحل الحرب حيث بلغ نحو 28.5 % من الإنفاق عام 1977، و27.8 % من الإنفاق عام 1978، و38 % من الإنفاق عام 1981. وتشير تقارير صندوق النقد الدولي إلى أنّ النمو الذي شهده لبنان بين 1979 و1980 بسبب دخول التدفقات الرأسمالية أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم دول أجنبية، قد بدأ في النمو. وتدهور من النصف الثاني من عام 1981..

بين عامي 1991 و2011، أظهر اقتصاد لبنان نموا معتمدا إلى حد كبير على المديونية (بمقدار 150 % من الناتج المحلي الإجمالي) وعلى السياحة والخدمات المالية والاستثمار العقاري وخصوصا التحويلات المالية من الخارج (المبالغ التي يرسلها اللبنانيون المقيمون في الخارج إلى أقاربهم في الوطن) تتجاوز 7 مليارات دولار في السنة… ذلك قبل أن تتبدل الأوضاع مع اهتزاز الاستقرار السياسي عام 2011 وبداية الأزمة في سوريا والعراقيل التي رافقتها عبر الحدود البرية لتبادل السلع وانتقال السائحين بين لبنان وسائر البلدان العربية، وقد ترافق ذلك مع توافد مئات ألوف من النازحين في اتجاه لبنان وتبدّل مناخ الاستقرار في المنطقة، وتحوّل ميزان المدفوعات من رصيد إيجابي بفضل استقطاب الرساميل الخارجية الى تراكم رصيد سلبي تطلّب شراء الوقت عبر اللجوء الى «هندسات مالية» منذ العام 2016 لزيادة الاحتياطي من العملات الاجنبية وخفض كلفة الدين العام، كون الفائدة على اليوروبوندز أقل من الفوائد على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والمحافظة على سياسة ربط سعر صرف العملة الوطنية بالدولار الأميركي على أساس 1507.5 ليرة لكل دولار أميركي… الى ان تراكمت عناصر الأزمة في أواخر العام 2019 وانفجرت عام 2020 بالتدهور الشامل تزامنا مع الذكرى المئوية لقيام «دولة لبنان الكبير».

وفي نظرة تاريخية الى المؤشرات الاقتصادية للبنان، يتبيّن أنّ ذكرى الفترة التضخمية وانهيار سعر الصرف في الثمانينات شكّلا أساس خيارات مصرف لبنان، من حيث سياسة الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف، التي انتُهجت بين عامي 1997 و2019. وقد أظهرت مختلف الدراسات أنّ المكمن الرئيسي لأزمة الثمانينات كان على وجه التحديد التمويل النقدي لعجز الموازنة، من خلال التسليفات المباشرة من مصرف لبنان إلى الخزينة. في المرحلة الأولى، كانت فترة التمويل بواسطة التسليفات المباشرة من مصرف لبنان أي طبع النقد، وكان النهج النظري، الذي جعل من الممكن تفسير هذه الأزمة هو «التضخم المفرط والمفاجئ» الناتج من التمويل النقدي لعجز موازنة الدولة تحت ضغوط الحكومة المعروفة بمشكلة «التضارب الزمني».

ومع تطور الدين العام، أصبحت السياسة الأنسب للسلطة النقدية اللبنانية مرتكزة على الأسلوب الكلاسيكي الجديد والذي تثبت أدبياته الاقصادية، أنّه حتى لو كان المصرف المركزي يسيطر بصرامة على معدل نمو الكتلة النقدية على المدى القصير، فإنّ المديونية المتزايدة للدولة يمكن أن تؤثر على توقعات تحقيق الدخل، وبالتالي التوقعات التضخمية.

فكان اختيار العملاء الاقتصاديين هو «استيراد الصدقية النقدية» باللجوء إلى الدولرة. وكان اختيار مصرف لبنان هو السعي لتحقيق الاستقرار النقدي وفقا للنهج التقليدي النقدي من خلال التحكّم بالتضخم بالارتكاز الى سياسة نقدية مقيّدة، قبل التحرك تدريجا بنحو موازٍ لربط سعر الصرف. في ظلّ معدلات دولرة آخذة بالارتفاع، بحثاً عن ضمان القدرة الشرائية للمدخرات وتسهيلاً للتسعير والتداول للمنتجات.

ومن المعلوم أنّ التجربة القاسية لتضخم الثمانينات أرخَت بظلالها بقوة على خيارات السياسة النقدية مطلع التسعينات، حيث تلقّى المصرف المركزي كرة النار، فكان عليه امتصاص التضخّم الذي ساهم في حدوثه بنحو أساسي، بسبب زيادة الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية، إن لتمويل الدولة أو لتلبية احتياجات تمويلية تحت كل ضغوط تلك الحقبة من الحرب وعدم الاستقرار على كل المستويات… هكذا بدأ تأثير ذكرى فترة التضخّم والدولرة على سلوك الحكومات والسلطة النقدية بحثاً عن تثبيت استقرار قيمة العملة الوطنية وقدرتها الشرائية في مطلع التسعينات، بعد انتهاء الحرب ميدانياً.

وخلال تلك الفترة، تركّزت جهود الحكومة على استبدال التمويل النقدي لعجز الموازنة على شكل سلفات خزينة مباشرة من المصرف المركزي بالدين العام، عبر اصدار سندات الخزينة، حتى لو احتفظ بجزء كبير منها المصرف المركزي والمصارف التجارية العاملة في لبنان، التي كانت مُلزمة بداية بالاكتتاب بسندات الخزينة بنسبة 60 % من التزاماتها بالليرة، ثم تمّ خفض هذه النسبة الى 40 % عام 1994 قبل إلغائها عام 1997 تزامناً مع اتخاذ خيار تثبيت سعر الصرف…

علماً أنّ تثبيت سعر الصرف بدلاً من الكتل النقدية، هو خيار طبيعي وثابت في الأدبيات الاقتصادية العلمية، كما في تجارب في ظلّ الدولرة، لأنّ الدولرة تفقد فعالية ضبط الكتلة النقدية بالعملة الوطنية بفعل سيطرة استخدام العملة الأجنبية، لذا يكون اعتماد ضبط سعر الصرف هو الأنجع.

إذاً، وعلى رغم من تعدّد الأسباب، إلّا أنّ الشرارة الأولى للتضخّم بدأت مع تمويل المصرف المركزي للدولة، ومع اعتماد زيادة النقد بالعملة الوطنية حتى افتقاد السيطرة على قيمتها وبدء هروب الناس منها في اتجاه الدولار، بعد افتقاد أدوارها الثلاثة كوحدة حساب وتسعير، ووسيلة للتداول ودفع المستحقات وقيمة للاحتياط..

ومع ذلك، من الضروري التمييز بين المنطق التقليدي الذي يفترض وجود عملة واحدة فقط، يتمّ تداولها في كل اقتصاد، والمنطق الذي يأخذ في الاعتبار وجود دولرة في الاقتصاد المعني، وبالتالي وجود عملة أجنبية مستخدمة الى جانب العملة الوطنية وتعرّض السوق لما يُعرف بـ»التضخّم المستورد» في حال تدهور قيمة العملة الوطنية ازاء العملة الاجنبية، وبالتالي الاضطرار الى تثبيت العملة الوطنية ازاءها، في ظلّ توازي استخدام العملتين.

وقد أظهرت تقارير صندوق النقد الدولي أنّ النمو الذي شهده لبنان بين عامي 1979 و1980، بسبب تدفق رأس المال أو «المال السياسي» إلى لبنان من خلال دعم الدول الأجنبية، ترك بعده تدهوراً بدأ من النصف الثاني من عام 1981 مع تدهور الأمن. خلال هذه الفترة، فقدت الدولة كل سيطرتها على إيراداتها ونفقاتها، واستندت قراءة أرقام المالية العامة والوضع الاقتصادي العام فقط على التقديرات، ولم تعد الإحصاءات رسمية وموثوقة. واستمر تعليق نشر حسابات الموازنة على النحو المنصوص عليه في الدستور وقانون المحاسبة العامة من 1979 إلى 1993.

منذ الثمانينات، حاول مصرف لبنان الحدّ من تسليفاته المباشرة للخزينة العامة، والحدّ أيضاً من تحويل مكاسبه من إعادة تقييم احتياطيات من الذهب إلى الخزينة العامة، كونه لم يقم لا بعملية بيع ولا إدارة لاحتياطي الذهب، حتى يعتبر أنّه حقق منه أرباحاً.

ومنذ عام 1993، تبنّى مصرف لبنان سياسة نقدية متشددة ودعم تدريجي لليرة اللبنانية، حتى ربط صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي عند 1507.5 كمعدل متوسط منذ عام 1997.

إلّا انّ تزايد الدين العام مثّل تقييداً للسياسة النقدية وأثّر في صدقية المصرف المركزي لدى العملاء الاقتصاديين (الذين يتوقّعون عن حق لجوء الدولة اليه لتمويل الدين العام)، كذلك يشكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييداً أيضاً للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي، والبرهان استمرار معدّل الدولرة بنسبة 82 % بعد 22 عاماً من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومُتماهٍ مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعاً بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي.

ومن المعلوم أنّ الدين العام قد ازداد بـ»تأثير كرة الثلج» منذ بداية فترة إعادة الإعمار في التسعينات، إلّا أنّه شهد تغيرًا جذريًا في هيكليته في عام 2002. وحتى العام 2002، كانت الحصة أصل الدين العام بالليرة اللبنانية. منذ عام 2002، وبعد مؤتمر باريس -2 بالتحديد للدعم الدولي للبنان، بدأت تكبر حصة الدين العام بالدولار الأميركي، بهدف خفض خدمة الدين العام ونموه (حيث أنّ أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالدولار الأميركي أقل طبعاً من معدلات الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية)، وتشجّع أصحاب رأس المال المقيم وغير المقيم على الاكتتاب فيها. وقد أدى هذا التغيير في هيكلة الدين العام دورا حاسما في الحفاظ على سياسة سعر الصرف، وزاد من تعقيد قيود الدولرة. وصندوق النقد الدولي، الذي دعا سابقاً إلى خفض قيمة العملة، عاد وأيّد سياسة ربط سعر الصرف، بعد أن تبيّن له أنّ أي خفض في قيمة العملة سيؤدي إلى زيادة الدين بالعملات الأجنبية، وسيؤثر على ملاءة الدولة وسيخاطر بإحداث أزمة خطيرة في النظام المصرفي كالتي نعيشها اليوم..

والمعلوم إقتصادياً أنّ كل زيادة في السيولة المتداولة لا تتوافق مع نمو اقتصادي موازٍ ومن دون تغيير في سرعة تداول العملة، تُترجم بزيادة معدل الأسعار وضرب سعر صرف العملة الوطنية نسبة الى سائر العملات الأجنبية، ما يجعل الاستيراد أيضاً أغلى، فيتغذى أكثر مفعول التضخم… وهذا ما يحصل يومياً في لبنان ولو بنحو أكثر وضوحاً منذ تشرين الأول 2019 من دون معرفة الحدود الزمنية والكمية لهذه المؤشرات كما لانعكاساتها.

د. سهام رزق الله.

حول تنبؤات الأسواق المالية

يحدث أحياناً أن يكون خبراء الاقتصاد على خطأ. فوفقاً للنظرية الاقتصادية، يجب أن تحظى المعاشات والرهون العقارية العكسية بشعبية كبيرة في إدارة المخاطر والسيولة، لكنّ كلا الأمرين يجد صعوبة كبيرة في إيجاد القبول في الأسواق.
تعد أسواق التنبؤات من الأشياء المفضلة لدى خبراء الاقتصاد: فالعقود ذات الفوائد المالية تتوقف على يحدث ما في العالم الحقيقي، كما أن مستقبلها غير مؤكد بدرجة كبيرة.
في جوهرها، تسمح أسواق التنبؤ للناس بـ«المراهنة» على بعض سمات الاقتصاد، وبالتالي إيجاد مشتقات مالية جديدة. قد يكون سوق التنبؤ في الناتج المحلي الإجمالي، أو ربما في معدلات البطالة المحلية، وسيلة مفيدة للتحوط من المخاطر.
إذا كنت تخشى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، فيمكنك «اختصار» إجمالي الناتج المحلي في سوق التنبؤ، وبالتالي حماية وضعك الاقتصادي العام، لأن رهانك سيؤتي ثماره إذا جاء الناتج المحلي الإجمالي أقل من المتوقع.
تعد أسواق التنبؤ أيضاً وسيلة مفيدة لاكتشاف المعلومات عمّا قد يحدث بعد ذلك. على سبيل المثال، إذا كنت تريد معرفة مَن قد يفوز بلقب «السوبر باول» (الدوري الأميركي لكرة القدم)، فهل هناك مكان أفضل للبحث عن احتمالات الرهان من البيانات المنشورة والمعلنة؟ وفقاً للمنطق نفسه، تقدم أسواق العقود الآجلة لأسعار الفائدة المختلفة أدلة حول ما قد يخططه «الاحتياطي الفيدرالي». كذلك تعد قيمة الحصول على معلومات عامة أكثر وأفضل، سبباً آخر لتشجيع أسواق التنبؤ.
اللغز الكبير هو سبب عدم انطلاق أسواق التنبؤ، على الأقل ليس منذ تاريخ أسواق رهانات «باكيت شوب» في الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر. فالقيود التنظيمية تعد ضمن الأسباب، لكنّ أسواق التنبؤ لم تنجح في بعض الأجزاء الأخرى من العالم من دون مثل هذه القيود. وموقع Intrade.com، الذي لم يَعُد له وجود الآن، كان مقره في آيرلندا وأنشأ أسواقاً نشطة وناجحة في الأحداث الرياضية والانتخابات الرئاسية. لكن معظم أسواق التنبؤ الخاصة بها ظلت غير سائلة إلى حد ما بسبب قلة اهتمام العملاء.
أدخل الآن موقع شركة «Kalshi» الناشئة ومقرها سان فرانسيسكو التي تهدف إلى إنشاء أسواق التنبؤ. ولحُسن الحظ، حصلت الشركة بالفعل على موافقة لجنة تداول السلع الآجلة لإدارة تبادل المشتقات. فهل سيكون الطلب على المنتج قوياً هذه المرة؟
قد يقول المتشكك إن الطلب محدود لأن هناك بالفعل كثيراً من الأسواق الجيدة والغنية بالمعلومات في الأصول الأخرى. في عام 2009 على سبيل المثال، هل كانت السوق ضرورية للتنبؤ بمدى جودة أداء هواتف «آيفون»؟ قد يكون سعر سهم «أبل» قد ساعد في أداء وظيفة مماثلة إلى حد كبير.
السؤال إذن هو: أيُّ أسواق التنبؤ قد تكون أكثر فائدة؟ فقد روّج روبرت جيه شيلر، الاقتصادي الحائز جائزة نوبل، لفكرة أسواق التنبؤ في الناتج المحلي الإجمالي، لكنّ معظم الناس يواجهون مخاطر كبيرة على مستوى أكثر محلية وأقل إجمالية.
ماذا عن سوق التنبؤ في أسعار العقارات المحلية، بحيث يمكن لمشتري المنازل وأقطاب العقارات التحوط لمشترياتهم؟ ربما، لكن السؤال المطروح بعد ذلك هو ما إذا كان سيتم جذب عدد كافٍ من المتداولين المحترفين إلى هذه الأسواق للحفاظ على سيولة هذه الأسواق. فما تسمى الخيارات الثنائية، خصوصاً عندما يكون الرهان على سعر أحد الأصول المالية، غالباً ما يظل سعره غير عادل أو يتم التلاعب به وينظر إليه المنظمون بشكل سيئ.
ولكي تنطلق سوق التنبؤات، من المحتمل أن تفي ببعض المعايير: أن تكون عامة بما يكفي لجذب اهتمام واسع النطاق، ومهمة بما يكفي لتجذب المتعاملين، وغير عادية بما يكفي لعدم قابليتها للتكرار من خلال التداول في الأصول الحالية. ويجب أيضاً أن تكون النتائج محددة جيداً بما يكفي بحيث لا تكون تسوية العقد محل نزاع.
يبقى أن نرى عدد الأصول الجديدة التي يمكن أن تفي بكل هذه المعايير. أما شركة «كالشي»، فيبدو أنها لن تعرض عقوداً سواء في الانتخابات السياسية أو الرياضية. كما يمكنك أن تجد على موقعها الإلكتروني معلومات عن أسواق التنبؤ بمخاطر الطقس وتغير المناخ المستقبلية.
على الرغم من جميع العقبات التي تواجه أسواق التنبؤ، هناك سبب للتفاؤل بشأن قابليتها للبقاء على المدى الطويل. هناك كثير من الأصول والعقود المالية اليوم أكثر مما كانت عليه قبل بضعة عقود، ومن المتوقع أن تزداد هذه الأسواق. فالإنترنت يقلل من تكاليف التداول والمراقبة، وهذا من شأنه أن يسهّل إنشاء أسواق التنبؤ.
إذا كانت هناك أسواق يمكنها التنبؤ بما إذا كانت أسواق التنبؤ ستنجح، فدعْني أتساءل: ما الاحتمالات… هل هي أعلى مما كانت عليه قبل عقد من الزمان؟ بالتأكيد هي كذلك، لكن هل هي مرتفعة بما يكفي لتقييم استثمار؟

تيلر كوين

مخاوف التضخم المبالغ فيها

لقد حان الوقت للتوقف عن الثرثرة الفارغة الخاصة بالتضخم. وينبغي الترحيب بالتوقعات ذات الصلة بالتحسن اللائق في وتيرة ارتفاع الأسعار، إذ إننا بعيدون كل البعد حالياً عن الأيام السيئة التي شهدناها في سبعينات القرن الماضي.
ومع الارتفاع الملحوظ الذي سجلته مقاييس التضخم في الولايات المتحدة مع نهاية العام الماضي، إلا أنها أدنى بكثير من المستويات المستهدفة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. وفي الصين، سجلت أسعار المستهلكين انخفاضاً غير متوقع بنسبة 0.3 نقطة مئوية في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي. ويبدو المسؤولون الاقتصاديون في اليابان وكأنهم قد تخلوا فعلاً عن هدفهم المحدد ببلوغ نقطتين مئويتين هذا العام. وحتى في جنوب شرقي آسيا، حيث سجل النمو الاقتصادي ارتفاعاً سريعاً وتاريخياً عن بلدان العام المتقدم، فإن تحركات الأسعار في الأسواق تبدو ضعيفة للغاية. ولا تزال حكومة كوريا الجنوبية تغازل الانكماش الاقتصادي، في حين تحاول ماليزيا وتايلند تحمل أعبائه.
وتعكس مقاييس السوق عودة واضحة للتضخم؛ إذ تجاوزت عوائد السندات الثلاثينية مستوى نقطتين مئويتين خلال الأسبوع الماضي للمرة الأولى منذ عام كامل، في حين تراجعت السندات الحكومية في المملكة المتحدة مع ارتفاع النفط. وتكمن الفكرة في أن الانتعاش الاقتصادي، بمعاونة من المحفزات المالية والنقدية الهائلة، سوف يشهد ارتفاعاً كبيراً في أسعار المستهلكين. ومما يؤسف له، وفي غالب الأمر ما يوصف ذلك بلهجة الترويع المخيفة مثل «الفيضان»، و«الانفجار»، و«الإنذار»، وحتى «نهاية عهد السخاء». ويتجاوز هذا دروس العقد الماضي السابق عن ظهور جائحة فيروس «كورونا» المستجد. وبعيداً عن وصفها بنذير الشؤم والهلاك، فإن الطفرة الكبيرة في الأسعار يمكن اعتبارها انتصاراً واضحاً للسياسة المالية المعتمدة.
عبر سنوات، كنا نسمع أن النمو الاقتصادي كان بطيئاً للغاية، وأن التضخم منخفض للغاية، وأن محافظي البنوك المركزية الكبيرة قد أخفقوا في السيطرة على الأمر. هل تتذكرون العناء الشديد الذي خبرناه قبل سنوات عندما تراجعت أسعار الفائدة في الأسواق إلى ما دون الحد الصفري؟ هل تدور الانتقادات حالياً حول أن المسؤولين قد قاموا بعملهم بصورة جيدة للغاية؟ فقط عندما تستقر نسبة التضخم عند نقطتين مئويتين ينبغي على صناع السياسات التفكير في سحب التحفيز المالي.
ومن هذا المنطلق، فإننا أبعد ما نكون عن نهاية الدعم النقدي. والاستنتاج بخلاف ذلك معناه تجاهل تام لما يقوله صناع القرارات السياسية بالفعل. يتوقع السيد جيروم باول رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، بل ويرغب في، ارتفاعات أسرع في الأسعار. ولقد قال في يناير الماضي: «من المفيد النظر إلى الوراء في ديناميات التضخم التي شهدتها الولايات المتحدة منذ عقود مضت، وملاحظة أنه كان هناك ضغط هائل مضاد للتضخم الكائن لفترة من الوقت بلغت عقدين كاملين».
كان بول فولكر، الذي وافته المنية في نهاية عام 2019 عشية ظهور الوباء، سوف يسخر للغاية من مخاوف اليوم. عندما تولى إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي في عام 1979 كانت أسعار المستهلكين ترتفع بنسبة 15 نقطة مئوية. ولقد رفع أسعار الفائدة إلى 20 في المائة لمصارعة هذا الوحش الكاسر. ولم يعد التضخم على وضعه مرة أخرى ثم انحسر تهديده منذ ذلك الحين. ويواصل خلفاء السيد فولكر البحث عن مثل هذه الديناميات بهدف تكرارها، غير أنهم كثيراً ما تصيبهم خيبة الأمل الشديدة. وكانت التوقعات تفيد بأن التيسير الكمي والعجز الكبير عقب الأزمة المالية العالمية في 2007 و2009 من شأنهما تصحيح ذلك الاتجاه تلقائياً، غير أن ذلك لم يحدث، ولقد تأثر بنك الاحتياطي الفيدرالي كثيراً بتلك التجربة المؤلمة.
بيد أن الأموال المتداولة داخل النظام النقدي في عصر الوباء الراهن هي أكبر من ذلك بكثير، لذلك فإن العودة السريعة سوف تكون قوية مع مبررات أفضل للمخاوف، كما تقول الحجج المطروحة. ولكنني غير مقتنع بذلك. لقد دخلت الولايات المتحدة في توسع مالي كبير في عام 2017 عندما أقر الكونغرس التخفيضات الضريبية التي تزعمها دونالد ترمب، تماماً كما لو كان الاقتصاد يعاود الانطلاق من جديد. وكان يُنظر في تلك الأوقات أنه من غير المعتاد أن يقع مثل هذا التحول الهائل إثر مرور وجيز لفترة الركود العصيبة. ولقد ارتفعت معدلات النمو بصورة كبيرة مع انخفاض معدلات البطالة في المقابل إلى 3.5 نقطة مئوية، وهو أدنى مستوى مسجل منذ 50 سنة، إذ كان التضخم لطيفاً في تلك الأثناء.
ومثلما كان التضخم منخفضاً بصورة كبيرة في عام 2010 فمن سيقول إنه لن يفاجئنا بالارتفاع مجدداً؟ عندما يحين وقت الانخفاض، يكون المستثمرون على حق في انتظار الألم، بصرف النظر تماماً عن مدى دقة التوقعات. ولقد تعلم السيد بن برنانكي هذا الدرس بالطريقة العسيرة: مجرد الاقتراح بطرح التناقص التدريجي في عام 2013 أسفر عن تدهور شائع في الأسواق آنذاك.
والأنباء السارة بالنسبة إلى محافظي البنوك المركزية تتعلق بأنه إذا صار الارتفاع في الأسعار مشكلة حقيقية – بدلا من عودة الظهور بمظهر صحي جديد – فإن من يحتلون المناصب بعدهم سيكونون المسؤولين عن حل هذه المشكلات. وفي غضون ذلك، دعونا نتجاوز بعض الكآبة التي تكتنف الأمر الواقع. هناك الكثير من دروس التاريخ التي تعين في التغلب على المشكلة قبل أن يتحول التضخم لدينا إلى وحش كاسر يصعب ترويضه.

دانيال موس.

ما “مصير” 3,2 مليارات دولار في الخارج؟

مع انتهاء المهلة الزمنية لتنفيذ التعميم 154، يباشر مصرف لبنان دراسة أوضاع المصارف. ومن خلال المؤشرات، لا يبدو أنّ المشكلة تكمن في التزام المصارف بمندرجات التعميم، بقدر ما هي في التوقيت ومصير الأموال الجديدة.

لطالما كانت العلاقة بين مصرف لبنان والمصارف التجارية جيدة، وتتسِم بالحرفية التي تفرضها المعايير العالمية المتعارف عليها، للتعاون بين المصرف التجاري مع الجهة المنظمة (regulator) والمُشرفة (supervisor) على القطاع. لكن في الحالة اللبنانية يمكن الادعاء انّ العلاقة تخطّت بعض السقوف، واكتسبت صفة الودّ والتعاون المُفرط في فترة من الفترات، من دون أن يعني ذلك تخطّي الخطوط الحمر.

بعد المطبّات التي اجتازها الوضع المالي، ووصول الأزمة الى المرحلة المتقدمة التي بلغتها اليوم، كيف يمكن وصف هذه العلاقة؟

من خلال متابعة التعاميم وطريقة التعاون، يمكن القول انّ العلاقة حالياً تتحكّم بها ثابتتان لا يمكن لأي طرف تجاوزهما: الثابتة الأولى قناعة الطرفين بأنهما على مركب واحد. الثابتة الثانية ترتبط بسعي كل طرف الى تحصين وضعه على المركب، لأنّ الانقاذ يتطلب التضحية بالبعض، ومن البديهي ان كل فريق يكافح لاستبعاد اسمه عن لائحة المُضحّى بهم.

قبَيل ساعات من انتهاء المهلة المُعطاة للمصارف للالتزام بمندرجات التعميم 154، كان لافتاً صدور تعميم وسيط لتنظيم الحسابات الجديدة التي تُعرف بحسابات الـFresh دولار. وقد أُعطيت تفسيرات عدة لصدور هذا القرار، لكن الاسباب الموجبة والأهداف معروفة، ويمكن تلخيصها بالتالي:

اولاً – الفصل التام بين السيولة الخارجية المطلوبة للالتزام بالتعميم 154 (3 % من حجم الودائع)، وبين ودائع الاموال الطازجة. وجاء توقيت التعميم قبَيل ساعات من انتهاء المهلة، وبعدما تماهى الى مسامع المركزي انّ بعض المصارف تريد استخدام هذه الاموال في احتساب نسبة السيولة المطلوب تكوينها في حسابات المصارف المراسلة.

ثانياً – يخدم التعميم أهداف المركزي في إبقاء الحسابات الجديدة مُحرّرة من أي قيود، وجاهزة للدفع غب الطلب عندما يقرر صاحب الوديعة ذلك.

ثالثاً – يدرك المركزي انّ وظيفة المصارف التقليلدية غير قائمة حاليا، وبالتالي فإنّ الابقاء على نسبة سيولة كاملة (100 %) بالنسبة الى الحسابات الطازجة، لن يؤثّر في الاقتصاد، لأنّ المصارف حالياً غير جاهزة لتمويل الاقتصاد كما كانت تفعل قبل الأزمة. كما انّ الاقتصاد نفسه غير جاهز لاستيعاب عمليات التمويل سوى في حالات استثنائية جداً.

وهكذا جاء التعميم الوسيط ليعطي الانطباع بأنّ المركزي مصرّ على تنفيذ التعميم 154، وانه سيباشر في اتخاذ الاجراءات القانونية في حق أي مصرف غير مُلتزم.

في موازاة هذا الوضع، تتحرّك المصارف من منطلق انها لا تريد التملّص من مندرجات التعميم، لكن هناك تساؤلات في شأن بعض النقاط، من أهمها:

اولاً- لماذا يتم التعاطي مع موضوع المهل بخفّة، في حين ان المعوقات التي أوجدتها جائحة «كوفيد 19» حقيقية وليست مجرد ذريعة بدليل ان كل حكومات العالم، بما فيها الحكومة اللبنانية أصدرت قوانين لتمديد المهل تماشياً مع هذا الواقع الذي لا يناقش فيه اثنان؟

ثانياً – اذا كان مبدأ زيادة الرأسمال مفهوماً، بل يشكّل حاجة توافق عليها المصارف، وتريد تنفيذها في أقصى سرعة ممكنة، لأنها وسيلة للصمود والبقاء في انتظار بدء إنقاذٍ تأخّر كثيراً، فإنّ هذا الأمر قد لا ينطبق على سيولة الـ3 % (حوالى 3,2 مليارات دولار)، من حيث التوقيت. إذ كيف سنحمي هذه السيولة ونضمن استخدامها بالطرق الصحيحة، اذا كانت الدولة قادرة على إصدار قوانين ساعة تشاء قد تؤدّي الى صرف هذه الاموال في غير مقصدها. ومن يضمن ألا تتحول هذه الاموال الى رهينة اضافية تنضمّ الى الاحتياطي الالزامي المُحتجز في مصرف لبنان، والذي يتمّ تبذيره تحت تسمية الدعم؟

ثالثاً – اذا كان مصرف لبنان حريصاً بهذا القدر على توفير الدولارات الطازجة، لماذا لا يعمد الى اتّباع آلية تضمن عودة الدولارات التي يتم استخدامها، في دعم المواد الاولية لمنتجات يُعاد تصديرها؟ وهل يجوز ان يبقى هذا الامر مبهماً، بحيث لا يُعرف كم خرج من لبنان وكم عاد اليه من دولارات جرى اقتطاعها لدعم الانتاج؟

رابعاً – اذا كان تأمين سيولة الـ3 % ينبغي أن يتم عبر استرجاع نسب حدّدها التعميم 154 من مودعين أخرجوا أموالاً من القطاع المصرفي منذ منتصف 2017، عبر الحَثّ. فهل أصبحت المصارف مسؤولة عن عدم قدرتها على إلزام مودعيها بهذا الأمر؟ وهل من الطبيعي ان تتمكّن المصارف من استعادة الاموال، في حين انّ الدولة بكل وسائلها المتاحة عاجزة عن الامر؟ وهل المطلوب تطبيق التعميم على ناس وناس؟

هذا المناخ يوحي بالتغيير الذي طرأ على العلاقات الودية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهو مناخ يكاد يكون بديهياً، لأنّ البلد في أزمة خانقة، وكل طرف يتحسّس رقبته للحفاظ على كيانه. مصرف لبنان من جهته، يريد شراء المزيد من الوقت بالاعتماد على المصارف هذه المرة. والمصارف تريد ضمان الاستمرارية والحد من استمرار الخسائر لئلّا يكون الحل في النتيجة مُدمّراً للقطاع وللودائع.

في المحصلة، سيتمّ تنفيذ التعميم 154 وفق قاعدة «لا يموت الديب ولا يفنى الغنم»، وستُعطى المصارف القادرة على الالتزام الوقت الكافي، برغم الصرامة في اللغة التي يستخدمها مصرف لبنان. لكن المصارف العاجزة عن الالتزام، بصرف النظر عن المهل، سيتمّ التعاطي معها على أساس انّ خروجها من السوق عبر الدمج، او تغيير ملكيتها عبر وضع مصرف لبنان يده عليها، أفضل للجميع.

انطوان فرح.