المركزي: “زيحو من الدرب… السوق السودا لي”

الإتفاق الذي تمّ في اجتماع بعبدا في شأن تمديد فترة دعم المحروقات حتى نهاية ايلول لكن على سعر 8 آلاف ليرة، طرح علامات استفهام حول المصدر الذي سيلجأ اليه مصرف لبنان لتأمين الدولارات، من دون المسّ بالاحتياطي. ويبدو انّ لدى المركزي أدوات مبتكرة على طريقة «بالموجود جود».

من خلال مراجعة تطور الحسابات المالية العامة، يتبين انّ إيرادات الدولة تراجعت بما لا يقلّ عن 50% حتى الآن، قياساً بما كانت عليه قبل الأزمة في العام 2019. هذه النسبة محسوبة وفق الليرة اللبنانية. هذا يعني ببساطة انّ الخزينة التي كان يدخل اليها حوالى 12 مليار دولار في السنة، وكانت تقع في عجز يُقدّر بحوالى 3 الى 4 مليارات دولار تقترضها لكي تقفل حساباتها السنوية، أصبح يدخلها اليوم ما يوازي حوالى 400 مليون دولار فقط. واذا استثنينا خدمة الدين التي كانت تدفعها الدولة لقروضها، والتي توقفت عن دفعها منذ الإفلاس، نستطيع ان نقول انّ الفارق بين 2019 و2021 سيكون حوالى 11 ملياراً و600 مليون دولار. وإذا كانت دولة مدخولها 12 مليار دولار وصلت الى الإفلاس والى الوضع الذي نشهده اليوم في غضون 10 سنوات من العجز، فكيف سيكون مشهد هذه الدولة التي أصبح مدخولها 400 مليون دولار، وهي تحتاج الى 3 أو 4 مليارات دولار ثمن محروقات في السنة؟

 

إنطلاقاً من هذه الأرقام، ينبغي ان نبني حساباتنا في موضوع عمق الأزمة، والوقت الذي قد يستغرقنا للخروج منها. وكذلك ينبغي ان نتوقع بعقلانية المشهد الحياتي والاقتصادي، في حال بقي الوضع على ما هو عليه اليوم، من دون البدء في عملية الإنقاذ. ولتسهيل الفكرة، تنبغي الإشارة الى انّ موظفي الدولة كان يبلغ مجموع رواتبهم من مجمل إيرادات الموازنة حوالى 50%، أي ما يوازي حوالى 6 مليارات دولار في السنة. واذا اعتبرنا انّ الإنفاق على رواتب القطاع العام سيحافظ على النسبة نفسها، فهذا يعني بلغة الارقام حوالى 200 مليون دولار سنوياً. وبمجرد مقارنة الرقمين، (6 آلاف مليون دولار مقابل 200 مليون دولار) نستطيع ان نكوّن مشهدية مبدئية عن الوضع المعيشي القائم، والمفتوح على مزيد من التقهقر في الأيام المقبلة.

 

ضمن هذه الحقائق الرقمية الثابتة، تنبغي قراءة خلفيات كل الأزمات التي تنفجر في وجه اللبنانيين في هذه الحقبة. وفي هذا المناخ الاستثنائي، يحاول مصرف لبنان ابتكار الأدوات لتمويل ما أمكن من مقومات الحياة، من دون المسّ بالاحتياطي الإلزامي. وقد نجح حتى الآن في حماية هذه الأموال، لكن التحدّيات القائمة تطرح علامات استفهام في شأن الايام المقبلة.

 

الى ذلك، بدأت حرب البقاء التي اندلعت منذ فترة بين المركزي والمصارف تأخذ ابعاداً جديدة، من خلال التعميم 159 الذي أصدره مصرف لبنان في 17 آب الجاري، ومنع من خلاله على المصارف التجارية شراء الدولار من السوق السوداء. وقد يتراءى للبعض، انّ الهدف الرئيسي من هذا القرار هو تخفيف الضغط على الليرة لمنع انهيارها بسرعة اكبر، وبالتالي حماية القدرات الشرائية المتبقية للمواطنين. لكن الحقيقة غير ذلك، والقرار يستهدف بصورة أساسية إبعاد المنافسين للمركزي عن السوق السوداء، لكي يتسنّى له شراء الدولارات من هذه السوق لتمويل العمليات الضرورية، ومنها على سبيل المثال، تمويل الفارق بين السعر الحقيقي للمحروقات والسعر الإسمي الذي سيُحدّد للمواطن (8 آلاف ليرة للدولار). وسيتمكن المركزي من خلال إبعاد المنافسين (المصارف) من جمع الدولارات الضرورية لتمويل هذا الدعم للمحروقات حتى نهاية ايلول 2021.

 

لكن قرار المركزي إضفاء الحصرية لنفسه في السوق السوداء، يطرح علامات استفهام من جديد حول خطورة إلغاء المصدر شبه الوحيد الذي يستطيع ان تلجأ اليه المصارف لتمويل عملياتها، ومنها تنفيذ التعميم 158 الذي يقضي بدفع دولارات طازجة للمودعين. فهل سيتعثر التنفيذ بسبب قرار وضع اليد على السوق السوداء؟

 

إلى جانب السوق الذي شهد في الشهرين الأخيرين تدفقات مقبولة للدولارات الطازجة، وهو ما يفسّر مراوحة سعر الصرف في هذه الفترة ضمن سقفٍ وقعرٍ مقبولين، يتجّه المركزي اليوم نحو الجمعيات التي تتلقّى الدولارات الطازجة. وقد دخل في مفاوضات مع مموليها، لكي يتمكّن مصرف لبنان من شراء هذه الدولارات على سعر السوق الحرة. وإذا نجح في هذه المحاولة، سيؤمّن المزيد من الدولارات التي سيستخدمها في تمويل الحالات الطارئة من دون المسّ بالاحتياطي الإلزامي.

انطوان فرح