أوهام القوة وحقائق الوهن

بعد عشرين سنة بدأت بالغزو المسلح لأفغانستان وانتهت بما وُصف بالانهيار الكبير، عرف العالم على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن أن الغرض من المهمة «لم يكن بناء دولة أو خلق ديمقراطية»، وصرح قيادي بحركة «طالبان» بأنها «لن تعتمد النظام الديمقراطي على الإطلاق». وتواترت تصريحات منسوبة لمسؤولين في دول الغرب والشرق بأن أفغانستان «مقبرة الإمبراطوريات»، وهو ما كان من اليسير التعرف عليه بالاطلاع على أي من كتب التاريخ المتراكمة على رفوف مراكز البحث ذات الأسماء البراقة في عواصم هذه الدول. ولكنها دروس التاريخ التي لا يتعلم الناس منها شيئاً، ستضاف إليها مؤلفات عن دروس جديدة من الأحداث الأخيرة قد تلقى المصير ذاته من التجاهل، ويدفع التكلفة دائماً عموم الناس بأرواح تزهق وثروات تهدر، وعقود تفقد من التنمية والبقاء في مصائد التخلف.
ومع انتشار مشاهد بائسة من مطار كابل وما اجتاحه من فوضى وضحايا اللحاق بطائرات الإجلاء، وصور تتناقلها الوسائط الإعلامية عن مظاهر الارتباك والهلع، أظهرت لقطات فوتوغرافية أفراداً من حركة «طالبان» يبدون محبتهم لتناول الآيس كريم وركوب سيارات الملاهي الاصطدامية.
وبعد أيام ستفسح أحداث أفغانستان المجال الذي تتصدره اليوم في الصحف ووسائل الإعلام لأحداث ومستجدات أخرى على ما جرت عليه العادة مع توالي الأزمات ثم الاعتياد عليها. ولكن ستبقى هناك أسئلة حرجة سيبقى كثير منها من دون إجابات شافية:
السؤال الأول، وهو أيسرهم، ما الذي جرى؟ وسيأخذنا أهل الاختصاص إلى جذور الأزمة في عام 1979 وربما قبلها، بالمحاولات التي قامت بها إدارة الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر إبان الحرب الباردة لمساندة المقاومة الأفغانية المناوئة للحكومة الموالية لموسكو وتداعيات ذلك بتورط الاتحاد السوفياتي في غزو البلاد التي عانت منذئذ من صراعات وحروب امتدت ليومنا هذا. شهد التدمير أشده بإعلان الرئيس الجمهوري جورج بوش غزو أفغانستان من خلال تحالف بقيادة أميركية في رد على الهجمات الإرهابية على الأراضي الأميركية في 11 سبتمبر (أيلول) 2001، مطيحاً بالنظام الحاكم في كابل.
ويردد اليوم خبراء أميركيون، كان بعضهم في الحكم أثناء ولاية الرئيس الديمقراطي باراك أوباما، بأنه كان على أميركا الخروج من أفغانستان بعد قتل أسامة بن لادن في أبوت آباد الباكستانية في مايو (أيار) من عام 2011؛ ويزايد على ذلك خبراء آخرون كانوا من كبار الموظفين في إدارة بوش بأن الخروج من أفغانستان كان واجباً بعدما تبين هروب بن لادن من كهوف جبال تورا بورا بولاية ننجرهار بعد معارك دارت هناك في ديسمبر (كانون الأول) 2001. أما لماذا بقيت قوات الغزو لعقدين كاملين منذ معركة تورا بورا، أو عشر سنوات منذ مقتل بن لادن، فهذا ما تحتار فيه الإجابات لمهمة قال الرئيس الدولة الأميركي الحالي إنها لم تكن أصلاً لبناء الدولة! في حوار استمعت إليه قبل كتابة هذه السطور ما قاله ريتشارد أرميتاج نائب وزير الخارجية الأميركية في إدارة بوش بأنه كان على أميركا الخروج في عام 2002، ولكنها وضعت الأمر في حالة قيادة بما سماه «الطيار الآلي»، التي استمرت لفترة طالت على النحو الذي انتهت إليه.
يتفق الأميركيون اليوم على أن الخروج كان لازماً وأنه تأخر، ولكنهم يختلفون على ما إذا كان الدخول غزواً كانت له ضرورة أصلاً. كما أنهم يتفقون – إلا قليلاً – على أنه كانت هناك استراتيجية للخروج، وهذا يقودنا للسؤال الثاني: لماذا حدث هذا الانهيار المفاجئ؟ وقد حاول المحلل السياسي إيان بريمر تفسير ما سماه أول أزمة كبرى في عهد بايدن باعتبارها فشلاً في التنفيذ، وليس في الاستراتيجية، للخروج من وضع كان لا يمكن الاستمرار فيه فلم تكن هناك فرصة للأميركان بالفوز، كما لم يكن هناك مجال لـ«طالبان» للخسارة. ويحدد بريمر أربعة أبعاد تظهر مواطن الوهن التي أدت لهذه الأزمة الكبرى: 1 – فشل عسكري واستخباراتي، 2 – فشل في التنسيق مع الحلفاء في إجراءات الخروج و تبعاته السياسية، 3 – فشل في التخطيط بمعنى التحسب للاحتمالات المختلفة وتدبير الموارد المناسبة لها، وهو ما جعل الإدارة ترسل جنوداً للمساعدة في الخروج بأكثر من ضعف العدد الذين سحبتهم، ثم ما رآه العالم على الشاشات من ارتباك من هول مفاجأة السقوط السريع للنظام أمام حركة «طالبان»، 4 – فشل في الإعلام والتواصل بالتقليل من احتمال وقوع البلاد بشكل شامل أو سريع تحت سيطرة «طالبان»، والتأكيد بأن مشاهد المروحية الأميركية، التي تشبث بسلمها لائذون بالهرب في سايغون في 1975، لن تعود فإذا بما هو أكثر منها تراجيدية يحتل الشاشات بما سيكون مادة لأفلام هوليوود لسنوات.
السؤال الثالث هو عن ماهية الدولة ومستقبلها في أفغانستان. وهذا ما ستفسر عنه الأيام المقبلة، فقد ترك الغزو رغم ما أنفقه دولة فاشلة على أرض أفغانستان، باقتصاد مهمل ومجتمع أكثر تفككاً وتناحراً مما كان. وأمسى اليوم جلياً ما كان من المفترض أن يدرك قبل هذا الغزو المدمر بديهياً، بأنه يستحيل بناء دولة وطنية بأيدي دخلاء أجانب، هذا مع افتراضات مفرطة السخاء في حسن النوايا. فما بالنا وقد أتى الدخيل تسبقه المدمرات المهلكة يباركها مبشرون بنظريات تعسة عن فوضى خلاقة. حقاً قد حدثت الفوضى ولم تخلق إلا الدمار. وعودة للاقتصاد المهمل، يشير الاقتصادي الأميركي جيفري ساكس في مقال بعنوان «دماء على الرمال» إلى أن تقريراً صدر في مطلع هذا العام للمفتش العام الأميركي لإعادة بناء أفغانستان، بأن 964 مليار دولار تم إنفاقها في 20 عاماً منذ الغزو؛ منها 86 في المائة ذهبت نفقات للقوات الأميركية، وما تبقى وهو في حدود 130 مليار دولار أنفق منه 83 مليار على قوات الأمن الأفغانية، وما فضل منها تناثر بين مكافحة المخدرات ومساندة وكالات أميركية عاملة في أفغانستان، تاركة 21 مليار دولار فقط مساعدات اقتصادية. أي ما ذهب من هذه المبالغ الهائلة لتنمية أفغانستان يقل عن 2 في المائة، فلا عجب أن تستقر البلاد في قاع جداول المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية باستثناء تحسن محدود في بعض مؤشرات الصحة وكذلك تعليم الفتيات التي يخشى تدهورها إذا لم تحظَ بمساندة كافية من النظام القادم الذي لم تتضح معالمه أو يسفر صراحة عن أولوياته.
السؤال الرابع يتعلق بمستقبل السياسة الخارجية الأميركية، والأهم مستقبل النظام الدولي الراهن في عالم متعدد الأقطاب سريع التغير بعد هذا الإخفاق المدوي… فما حدث ليس إخفاقاً فقط بمنظور مشاهد اللقطات الأخيرة في مطار كابل، ولكن بمسيرة مشاهدات دونتها سجلات من الأداء التعيس على أصعدة متعددة. يدفع هذا تيارات رأي متنامية عبر عنها تشارلز كوبتشان أستاذ الشؤون الدولية بجامعة جورج تاون بأن أولويات السياسة الأميركية يجب أن تكون إعادة بناء الداخل بالاستثمار في البنية الأساسية والسياسات الاجتماعية وضرب المثل من خلال إصلاح الديمقراطية في الداخل وبسياسة خارجية تحظى بمساندة شعبية. ويذكرنا محرر صحيفة «الفاينانشيال تايمز» بتاريخ أميركا الممتد بدوراته المتعاقبة بين التدخل السافر والانزواء لاعتبارات متعددة. فهناك عوامل داخلية تدفعها لعدم إقحام نفسها في الصراعات الخارجية إلا اضطراراً كما حدث في الحربين العالميتين الأولى ثم الثانية، وأنها في كل الأحوال ستظل حريصة على استقرار وأمن الحلفاء في أوروبا وآسيا، رغم الدعاوى المتصاعدة في الداخل لتحجيم التدخل الخارجي.
يكرر الأميركيون مقولة مفادها أن تأتي متأخراً أفضل من ألا تأتي أبداً، ولكن في حالة أفغانستان كان على الأميركان أن يرحلوا مبكراً، وكان من الأجدى حقاً ألا يأتوا إليها على هذا النحو أبداً.

د. محمود محي الدين

من استراتيجية التضخم المفاجئ إلى البحث عن المصداقية النقدية

تنشأ مشكلة مصداقية السياسة النقدية عندما يعتمد سلوك الأفرقاء المؤتمنين علىها استراتيجية مُباغتة الجمهور والتسبّب بالتضخم المفاجئ، خاصة عبر طباعة النقد، وغالباً وفق حاجات وطلب السلطات المالية والسياسية للالتفاف على توقّعات السوق، فيشعر الناس، ولو لفترة وجيزة، أنّ ثمة تحسّناً بالسيولة وبقدرتهم الشرائية وبالنشاط الاقتصادي في البلاد فيكافئون من هم في موقع القرار بتجديد الثقة بهم عند أول استحقاق انتخابي… هذا طبعاً يحصل في غياب استقلالية السلطة النقدية (المصرف المركزي) عن السلطة المالية (وزارة المال والحكومة مجتمعة)… إلّا أن «إيجابيات» التضخّم المفاجئ على المدى القصير ما تلبث أن تتبخّر على المدى المتوسّط، فيضمحلّ أثر فائض السيولة على الحركة الاقتصادية وفرص العمل ولا يبقى سوى سلبيات التضخّم… فيَعي الناس فداحة هذه الخيار ولكن بعد فوات الأوان، أي بعد تجديد الثقة لمَن اتخذوه وتسببوا بتكلفته… لذا، غالباً ما نصادف أسلوب زيادة السيولة والالتفاف على توقعات الجمهور قبَيل الفترات الانتخابية… ولكن بعد تكرار هذه العملية وزيادة وعي الناس تسقط مفاعيل التضخم المفاجئ حتى على المدى المنظور، وتضطر السلطات النقدية للبحث الجدي في استعادة ثقة الجمهورية وتعزيز مصداقية سياساتها… من هنا أهمية التعريف العلمي بمفهوم مصداقية السياسة النقدية، مشاكل وتكاليف افتقادها، والوسائل الممكنة لاستعادتها…

علمياً، من المعروف انه حتى لو تبنّت المصارف المركزية أهدافاً متجددة ومتجانسة مع المعطيات الاقتصادية، فإنّ هذا لا يستبعد بالضرورة مشكلة مصداقية السياسة النقدية. في الواقع، اتخذ كيدلاند وبريسكوت منظوراً أوسع من منظور بارو جوردون [1983]، فبالنسبة لهما، ينشأ التناقض الزمني للخطط المُثلى بمجرد أن تضطر السلطات النقدية إلى اتخاذ قراراتها اليومية على أساس ما يتوقع أن يكون سياسة اقتصادية في المستقبل. وبالتالي، فإنّ السياسة النقدية التي يتم تحديدها في لحظة معينة قد لا تكون مثالية عند تحقيق توقعات العملاء الاقتصاديين، نظراً لإمكانية تغيّر المعطيات في الوقت الفاصل بين لحظة اتخاذ الخيارات ومرحلة تَلمّس نتائجها…

 

والمعروف أنّ الهدف الرئيسي لكل سياسة نقدية للمصرف المركزي يكمن في تأمين استقرار قيمة العملة الوطنية (داخلياً عبر ضبط التضخم الذي يرتبط الى حد كبير بزيادة طباعة النقد ونمو الكتلة النقدية لا سيما فائض السيولة، وخارجياً عبر ضبط استقرار سعر صرف العملة الوطنية إزاء العملاء الأجنبية).

 

يعود الجزء الأول من مشكلة مصداقية السياسة النقدية إلى وجود سلوك استشرافي، وبشكل أكثر دقة إلى وجود جمود في الاقتصاد يتطلّب من الأفرقاء الاقتصاديين اتخاذ قراراتهم الحالية على أساس الظروف الاقتصادية المستقبلية المتوقعة. في هذه الحالة، يكمن الحل المقترح في سياسة المشاركة للبنك المركزي التي تؤمّن الشفافية وتعزز الثقة. إذا بَدت مصداقية النوايا السياسية المستقبلية عنصراً حاسماً في تكوين التضخم الحالي، فإنّ الأمثل هو التزام البنك المركزي بسير سياسته المستقبلية من دون أي انحراف عن مسارها المُعلَن، بحيث يتمكن من استعادة ثقة الجمهور.

 

ومع ذلك، فإنّ صعوبة اعتماد سياسة طارئة لجميع الاحتمالات الممكنة أو حتى عدم اليقين النسبي في ما يتعلق بتمثيل أداء الاقتصاد، يفسّر لجوء المصارف المركزية إلى ممارسة السياسات التقديرية بدلاً من الالتزام الصارم.

 

الجانب الثاني للمشكلة يكمن في مصداقية الهدف المعلن من قبل البنك المركزي. يجب تصديق وفهم الإعلان عن السعي لتحقيق هدف مساو محدد من التضخم أو حتى مستوى سعر أكبر من قبل الوكلاء الاقتصاديين. ويلاحَظ أنّ إحدى الطرق لضمان أنّ البنك المركزي يتبع الهدف المعلَن بالفعل، يكمن في اعتماد استقلالية المصرف المركزي فعلياً وليس فقط في النصوص، وفقاً لنهج روجوف [1985] الذي تعكس نظرياته الاقتصادية أفضلية هذا الاختيار تماماً.

 

من هنا، تندرج المناقشة الخاصة باختيار هدف للبنك المركزي في إطار البحث عن وسيلة يمكن أن تكون بديلاً عن الالتزام، وبالتالي الاقتراب من الطريقة المثلى لمعرفة السياسة المناسبة مع الالتزام التام بالهدف المعلن لمستوى التضخم المرتقب. وبالتالي، من المتوقع أن يثير الجمود وصعوبة تنفيذ التوقعات العقلانية مشكلة مصداقية السياسة النقدية التي يمكن إدارتها في ظل أهداف ووسائل وتكاليف مدروسة.

 

في ظل مستوى التضخّم المستهدف، يجب أن تتبع تقلبات الأسعار غير المتوقعة تقلبات أسعار متوقعة هذه المرة تؤدي إلى تقلبات متوقعة في الإنتاج. لذلك، يبدو أن معدّل التضخّم المستهدف الأكثر تطلّباً للبنك المركزي يجعل من الممكن حل مشكلة مصداقية السياسة النقدية جزئياً. كما تؤدي الاستجابات المختلفة للسياسة النقدية في ظل هذين النوعين من الأهداف إلى مسارات تنمية متميزة للتضخم والناتج.

 

وقد ثبت أنّ تحديد هدف مستوى االتضخّم يمكنه تحسين مصداقية السياسة النقدية، ويُظهِر الاقتصادي روجوف [1995] أنّ تمكين المصرف المركزي من استهداف مستوى التضخّم يتطلّب اختيار حاكم “محافظ” للمصرف المركزي، يكون لديه “استشعار” و”رفض” لتقلب مستوى الأسعار ومَيل لتثبيت مستوى تضخّم أقل من الذي يتطلّع إليه معظم الجمهور. ما ينبغي أن يكون لهدف مستوى التضخّم الذي يؤدي إلى تجانس أكثر وضوحاً لردود فعل السياسة النقدية وتأثير إيجابي في تقلب أسعار الفائدة، بغضّ النظر عن عواقب ذلك على المفاضلة بين استقرار التضخم والإنتاج.

 

وإذا افترضنا، وفق النظرة الكلاسيكية، أن العملاء الاقتصاديين لديهم توقعات عقلانية، يصبح من الصعب على السلطة النقدية أن تأخذهم “على حين غرّة” وتفاجئهم بمستوى تضخّم أعلى ممّا يمكن توقّعه وفق المعطيات الاقتصادية العامة. ومع ذلك، يبدو أنه بسبب وجود التوقعات العقلانية، تواجِه السلطات النقدية قيوداً على المصداقية تدفعها إلى ممارسة سياسة نقدية توسعية. ولا يمكن رفع هذا القيد في حد ذاته إلا من خلال استحواذ البنك المركزي على توقعات حسن السلوك.

 

إذا أدخل الوكلاء الاقتصاديون رغبة السلطات النقدية في اكتساب سمعة معينة في توقعاتهم ، فإن النتائج السلبية (من حيث التوظيف) لسياسة إزالة التضخم تقلّ أيضاً. نتيجة لذلك، يرتبط الاستقرار النقدي بسمعة السلطة النقدية. يبقى أن نرى كيف يمكن للسلطة النقدية أن تقنع الوكلاء الاقتصاديين برغبتها في الدفاع عن سمعتها بشكل مستدام؟ هنا، نلاحظ أن عاملين يمكن أن يساعدا في استعادة مصداقية السياسة النقدية: نظام سعر الصرف الثابت واستقلالية البنك المركزي.

 

البحث عن المصداقية من خلال استقلالية البنك المركزي

 

تمثّل استقلالية المصرف المركزي وسيلة أساسية لتعزيز مصداقية السياسة النقدية إزاء السلطة السياسية، والتأكد من أنه يعطي الأولوية للحفاظ على الاستقرار النقدي، بشرط الحفاظ على الحوار المستمر بين البنك المركزي والسلطة المالية، وتجنّب تناقض الأهداف بين السياستين النقدية والمالية، كما حصل في حالة لبنان في مرحلة الثمانينات وبداية التسعينات.

 

وقد اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن المصدر الرئيسي لمشاكل المصداقية يكمن في وجود تشوّهات في سوق العمل تُشجّع الحكومة على تَبنّي سياسة تحفيز الإنتاج فوق مستواه الطبيعي باللجوء إلى التضخم المفاجئ. ومن هنا، لا يمكن معالجة مصداقية السياسة النقدية وعلاقتها باستقلالية البنك المركزي من دون دراسة الروابط المعقدة بين البنك المركزي والحكومة من جهة، وكذلك الروابط بين البنك المركزي والقطاع الخاص من ناحية أخرى.

 

تقليدياً، اعتبرت الأدبيات الاقتصادية أن هناك ثلاثة مكونات لاستقلالية السلطات النقدية:

 

– الاستقلالية “العضوية” المتعلقة بشروط تعيين حاكم البنك المركزي ومجلس إدارته.

– الاستقلالية “الوظيفية” التي تشير إلى المشاركة الفعالة للبنك المركزي في تحديد الأهداف واختيار الأدوات وتطبيق السياسة النقدية.

– الاستقلالية “المالية” التي تجعل من الممكن تقييم مجال المناورة المُتاح للبنك المركزي من وجهة نظر الموارد اللازمة لعمله.

 

وبالتالي، إنّ بعض مكونات استقلالية السلطة النقدية ناتجة عن مجموعة من الأحكام القانونية (الاستقلالية بحكم القانون، قانون النقد والتسليف في لبنان)؛ والبعض الآخر ينبع من الممارسة والقدرة على تطبيق صلاحيات البنك المركزي التي تحدد الاستقلالية العملية (الاستقلالية الفعلية)… ولقد أشارت هذه الأعمال إلى “استبيان بودارت” [1990] الذي يتضمن 15 سؤالاً تتعلق بالعلاقات بين السلطة التنفيذية والبنك المركزي فيما يتعلق بتعيين الحاكم ونوابه، ومدة ولايته… الجواب يحصل على قيمة “صفر” عندما “يشير إلى غياب الاستقلالية عن البنك المركزي ويتلقى قيمة “1” عندما تتأكد الاستقلالية.

 

من ناحية أخرى، يفضّل كل من V. Grilli و D.Masciandaro و G و Tabellini [1991] الفصل الواضح بين المكونات المختلفة لاستقلالية المصرف المركزي، مع إعطاء وزن أكبر قليلاً لمعايير الاستقلالية الوظيفية.

 

الجيل الثاني من أعمال أ. Cukierman، S .. Webb and B. Neyapti [1992] أدركَ استقلالية البنك المركزي بما يتجاوز المعايير الرسمية الوحيدة. بالنسبة لهؤلاء الاقتصاديين، إنّ الوضع القانوني للبنك المركزي هو عنصر واحد فقط من بين عدة عناصر تحدد استقلاليته الفعالة، وحتى عندما تكون النصوص شديدة الوضوح يمكن أن يكون الواقع مختلفاً تماماً عما يتوقعونه.

 

وفي الوقت نفسه، إن بعض المقترحات لحلول بديلة لمشكلة عدم تناسق الوقت incoherence temporelle، مثل نهج البنك المركزي المحافظ ونهج العقود الأمثل، يسلّط الضوء على التمييز بين استقلالية الأهداف واستقلالية الأدوات. ففي نموذج روجوف (1985)، يتمتع البنك المركزي بنوعين من الاستقلالية: فهو يحدد الأهداف ويتحكم في أدوات السياسة النقدية. وإذا أثار روغوف [1985] معضلة المصداقية والمرونة في السياسة النقدية، فإنّ والش [1995] يسعى إلى حلها من خلال قصر استقلالية حاكم البنك المركزي ودورها في الاستقلالية الفعلية. في هذا النهج، يتم التركيز على مهام وحوافز حاكم البنك المركزي لإكمال المهام الموكلة إليه. وبالتالي، فإنّ الاستنتاج الأساسي لهذا التحليل هو أنه يجب أن يتمتع البنك المركزي باستقلالية فعالة، من دون تحديد أهدافه بشكل مستقل.

 

بطبيعة الحال، تصبح مشكلة المصداقية النقدية وتحديات الاستقرار النقدي أكثر صعوبة عندما يكون التضخم مزمناً، ويفضّل لجوء العملاء الاقتصاديين إلى استبدال العملة الوطنية بالعملة الأجنبية للهروب من مشاكل عدم الاستقرار وتقلّب القدرة الشرائية و”التضخم المستورد”، اي اللجوء الى الدولرة…

 

البحث عن المصداقية من خلال المساعدات الخارجية:

 

قد تستخدم البلدان المشاركة في برامج الحد من التضخم برامج إنفاذ خارجية (مثل صندوق النقد الدولي)، من خلال التزامها بتضخم منخفض من أجل تحسين مصداقيتها وفعالية برامجها واستعادة ثقة الجمهور. يلاحظ أن هذه البرامج تقدم أيضا مساعدة مشروطة لتحقيق أهداف محددة لسياسة الاقتصاد الكلّي (مثل الإصلاحات الاقتصادية التي أوصى بها صندوق النقد الدولي في لبنان).

 

ومع ذلك، قد تقف العديد من الصعوبات في طريق هذا البرنامج، ولا سيما:

 

– الإحجام الذي قد يشعر به الجمهور في ما يتعلق بتطبيق برنامج خارجي، كإشارة على التزام صانعي السياسات الاقتصادية بخفض التضخم (مثل التردّد الذي أظهَره لبنان في ما يتعلق بتطبيق الإصلاحات التي التزمت بها الحكومة اللبنانية منذ مؤتمر باريس -2 للدول المانحة عام 2002).

 

مشروطية المساعدات الخارجية سيف ذو حدين: إذا اعتبرت درجة المشروطية المرتبطة بالمساعدات الخارجية مفرطة، فإنّ عدم اليقين بشأن توافر الدعم الخارجي قد يزيد من تدهور المصداقية ويؤدي إلى تأخير في الاستقرار.

 

ونتيجة لذلك، ترتبط الفعالية والحاجة إلى سياسة استقرار بالتحفيز على الترشيد المالي المُستدام وضبط اللجوء الى التمويل النقدي للعجز المالي… وقد تفتقر الإجراءات المالية غير المستدامة (مثل ضبط إنفاق القطاع العام) إلى المصداقية وتخاطر بإثارة التوقعات بالتوسع المالي المستقبلي والتحويل النقدي الذي يمكن أن يطلق عملية تضخمية جديدة.. إلا انّ بناء المصداقية لا يتحقق بغفلة من الزمن، بل يحتاج سنوات وخطوات عديدة تثبت استعادة الثقة وتؤكدها، لا سيما بعد تجربة افتقادها وازدياد الحاجة لطمأنة الجمهور.

د. سهام روق الله