متابعة قراءة زعماء مجموعة العشرين يختتمون قمتهم دون جديد يذكر في ملف المناخ
الأرشيف اليومي: 31/10/2021
أرجوك لا تقل إنه «ركود تضخمي»!
مع متابعة التطورات الاقتصادية العالمية الأخيرة، وصدور التقارير السنوية للمؤسسات الدولية بشأنها، وما يدور من نقاش محتدم عن المسار الذي يأخذه الاقتصاد، تكررت الإشارة إلى ما يسمى بالركود التضخمي.
ظهر هذا المصطلح لأول مرة على لسان السياسي البريطاني المفوّه إيان ماكلاود في عام 1965 عندما كان وزير خزانة الظل لحزب المحافظين المعارض وقتها، وكان ذلك في معرض وصفه لتردي الأوضاع الاقتصادية بقوله: «نعيش اليوم في أسوأ الأوضاع فنحن لا نعاني من حالة تضخم في الأسعار فقط أو حالة ركود فحسب، ولكننا نعاني من تزامن الحالتين معاً بما يمكن اعتباره نوعاً من أنواع الركود التضخمي».
نلاحظ أن ماكلاود، رغم انتمائه للمعارضة، لم يستعمل مصطلح الكساد بدلاً من الركود. ربما يرجع هذا إلى عدم رغبته كرجل دولة في استدعاء مرحلة اقتصادية بائسة سابقة على الحرب العالمية الثانية، وكانت مع معاهدة فرساي سيئة الصياغة وشديدة الانحياز، من مسببات هذه الحرب المدمرة. ومواجهة الركود التضخمي تكتنفها صعوبات معقدة، إذ قد تسبب إجراءات مواجهة مكون الركود في اشتعال التضخم، كما قد يؤدي التعامل مع مكون التضخم إلى استفحال الركود. ولما كان التعامل مع الركود التضخمي بهذه الصعوبة، لم أستغرب ردّ فعل أحد المسؤولين في دولة متقدمة اقتصادياً أثناء اجتماع لمناقشة تقرير عن تطورات الاقتصاد العالمي، كان فيه تفنيد لإشارات محتملة لركود تضخمي بمقولته التي جعلتها عنواناً لهذا المقال، برجائه للحاضرين عدم ذكر مصطلح «الركود التضخمي» وتفضيله وصف الوضع الراهن باختناقات في الأسواق مع ارتفاعات مؤقتة في الأسعار، في محاولة لترشيد التوقعات.
وقبل انتشار هذا المصطلح كان التحليل الاقتصادي يتَّجه إلى تعارض ظاهرتي تضخم الأسعار والركود المصاحب ببطالة وعدم تزامنهما، فإما أن ينخفض التضخم على حساب معدل بطالة أكثر ارتفاعاً أو العكس.
وفي أوقات الرواج الاقتصادي، كالذي شهدته اقتصادات الدول المتقدمة منذ الثمانينات حتى الأزمة المالية العالمية في عام 2008، اتضح أنه يمكن للنمو الاقتصادي الاستمرار بفضل ارتفاع في الإنتاجية مع انخفاض مطرد في معدلات البطالة والتضخم وتحجيم للتقلبات الاقتصادية. وفسّر الاقتصادي بن بيرنانكي، الذي رأس البنك الفيدرالي الأميركي، ما حدث في هذه الفترة التي يطلق عليها فترة «الاعتدال الكبير» بـ3 أسباب، تمثلت في تغيرات هيكلية إيجابية في الاقتصاد، وتحسن في السياسات الاقتصادية المتبعة، وحسن الحظ! ولكن لم يمر من الزمن أكثر من 4 سنوات حتى واجه الاقتصاد العالمي أكبر أزمة مالية؛ والتي لا يمكن إرجاعها بحال إلى سوء الحظ وحده. فلقد أظهرت الدراسات التي أجريت عن مسببات الأزمة، فضلاً عن تقارير التحقيقات البرلمانية، إلى سوء في الرقابة وتلاعب وتدليس وفشل في الأسواق المالية في القيام بدورها المفترض.
مثلما شهد العالم هذه الحالة من الاعتدال الكبير الذي انخفضت عنده معدلات البطالة ووصلت تغيرات الأسعار السنوية إلى أدناها، فقد شهد أيضاً فترة عصيبة للركود التضخمي في عقد السبعينات من القرن الماضي بارتفاع متوسط معدلات التضخم للأسعار لما يزيد على 7.5 في المائة بسبب زيادة أسعار النفط مع زيادة في معدلات البطالة بما لا يقل عن 6 في المائة، وهذه معدلات شديدة الارتفاع بمعايير أداء الاقتصادات المتقدمة.
وكان لهذه الأزمة، وكذلك ما تم اتخاذه حيالها من إجراءات، تداعيات شديدة الوطأة على اقتصادات الدول النامية التي كانت قد توسعت في الاقتراض الخارجي ثم جاءتها ارتفاعات أسعار الفائدة العالمية بغتة، بما أحدث اضطراباً في أسعار الصرف وتقلبات في التدفقات المالية وعجزاً عن سداد الديون. وقد ترتب على ذلك اتباع إجراءات وسياسات اضطرت دول نامية لاتباعها للخروج من أزمة الديون على النحو الذي شهدته نهايات ما يعرف بالموجة العالمية الأولى للديون.
وقد شهدت الشهور الماضية ارتفاعات متوالية في معدلات زيادة أسعار لسلع متنوعة ومدخلات إنتاج، مثل القطن والأخشاب وأشباه الموصلات، والملابس الجاهزة. ويشير مقال صدر هذا الشهر لفرانسيسكا كاسيلس وبراتشي ميشرا إلى قفزات في أسعار الغذاء بنحو 40 في المائة أثناء انتشار وباء كورونا، بما سبب ضغوطاً على الدول منخفضة الدخل، التي يشكل استهلاك الطعام نسبة كبيرة من الإنفاق العائلي فيها. ومع استمرار ارتفاع أسعار الغذاء، طالبت أنجوزي أوكونجو أيويلا، المديرة العامة لمنظمة التجارة العالمية بالتزام الدول بقواعد التجارة الدولية عموماً، وبتجارة السلع الغذائية خصوصاً، وكذلك التخلي عن الإجراءات المشوهة لتيسير حركة التجارة الدولية في السلع الزراعية والغذائية.
ورصدت مجلة الإكونوميست البريطانية في موضوع الغلاف لعددين متتاليين ظاهرة شحّ المنتجات في الأسواق وما يعتريها من ارتباك لعدم ملاحقة سلاسل الإمداد لزيادة في طلب المنتجين والمستهلكين بعد الجائحة، وكذلك ارتفاع سلة أسعار النفط والفحم والغاز الطبيعي بمقدار 95 في المائة منذ مايو (أيار) الماضي. من السهل إلقاء اللوم فيما يحدث على الجائحة وما سبّبته من مربكات في خطوط الإنتاج ولوجيستيات النقل، لكن لا يمكن تجاهل ما كان متبعاً قبل الجائحة واستمر بعدها من إجراءات حمائية معوقة لحركة التجارة رفعت من الأسعار وخفضت المعروض من السلع. كما أن الإجراءات المرتجلة المتعجلة بضغوط ومزايدات سياسية شوّهت سياسات إدارة التحول نحو تخفيض الانبعاثات الكربونية. فما زالت الاستثمارات في الطاقة الجديدة والمتجددة أقل من مستواها المطلوب بما لا يقل عن النصف، كما تعاني سياسات التخارج من قطاعات الطاقة التقليدية من سوء إدارة لتخارج منضبط للوصول إلى الأهداف الصفرية للانبعاث الكربونية مع حلول عام 2050 أو 2060. وفقاً لتعهدات الدول في اتفاقية باريس للمناخ.
وأحدث هذا الارتباك المتزامن مع تخوف من الإجراءات الرقابية والقانونية انخفاضاً في الاستثمار في الوقود الأحفوري، الذي ما زال المصدر الرئيسي لما يزيد على 80 في المائة من احتياجات الطاقة الأولية بمقدار 40 في المائة منذ عام 2015، وفقاً لمجلة الإكونوميست. ومع تعقد المخاطر الجيوسياسية وارتفاع أسعار الغاز في أوروبا، وفي الوقت الذي تستعد فيه مدينة غلاسكو لاستضافة قمة المناخ ومفاوضاتها، اضطرت دول أوروبية إلى إعادة تشغيل محطات طاقة كهربية تدار بالفحم بعد سنوات من إغلاقها وتعهدات بعدم العودة إليها.
لم تكن في تصاعد الضغوط التضخمية أو زيادة احتمالات ارتفاع الركود مفاجآت تذكر. فقد نشرت صحيفة «الشرق الأوسط» الغراء مقالاً لكاتب هذه السطور في شهر مارس (آذار) من هذا العام عن تزايد إرهاصات عودة التضخم، أشرت فيه إلى أنه مع تخفيف القيود التي فرضت مع الجائحة سترتفع أسعار السلع والخدمات بسبب ضعف قدرة العرض على ملاحقة الطلب بعد فترة من الإغلاق الكلي والجزئي. وأشرت فيه إلى أنه على الدول الواقعة في تصنيف الوسط التحوط المبكر من أثر تغيرات مباغتة في أسعار الفائدة العالمية، تستهدف الأوراق المالية قصيرة الأجل لاحتواء توقعات التضخم، وما قد يصحب ذلك من تغيرات في أسعار الصرف وارتفاعات في التكلفة الفعلية للديون، خاصة إذا ما خُفضت تصنيفاتها الائتمانية.
وكنت قد أشرت في مقال سابق، نشر في شهر فبراير (شباط) من العام الماضي، عن هواجس الركود واحتمال دخول بعض الدول النامية في فترة قد تطول من انخفاض معدلات النمو عن المتوسط العالمي، وأن ما ذكر حينئذ عن تعافٍ سريع يأخذ مساراً في شكل حرفV أو U يرتبط بالقدرة على زيادة الإنفاق العام والتمكن من الاقتراض منخفض التكلفة، وهو ما لا يتيسر لأغلب الدول النامية.
وفي كل الأحوال، من الممكن التعامل السريع مع هواجس الركود أو إرهاصات للتضخم. ورغم صعوبة هذا، عبّر عنها الاقتصادي ماركوس برونماير، في كتابه الصادر مؤخراً عن المجتمع المرن ذي القدرة السريعة على التعامل مع الأزمات. وهو يُشبّه صانع القرار في زمن الأزمة كمن يقود دراجة هوائية تسير في ممر أعلى هُوّتين على جانبيه، يقودها بحذر، فلا يسقط يميناً حيث هوة الركود، أو يساراً حيث ينتظره فخ التضخم، ولكل من التضخم والركود أدواته المالية والنقدية وإجراءاته الهيكلية في التعامل معه. ولما كنا ما زلنا بعيدين عن هوة الركود التضخمي، وما نجده اليوم ما هو إلا إشارات مبكرة محذرة منه، فما زالت هناك فرص سانحة للتوقي منه. ولا يكون ذلك بتجاهله، أو بافتراضات سخية عن قدرات السوق لتصحيح نفسها، أو عن ميل سلوك الأشخاص لضبط توقعاتهم تلقائياً بما يبعد بهم عن الأذى. فما نعتبره اليوم مؤقتاً في ارتفاع الأسعار قد يطول مداه ما لم تتخذ في مواجهته الإجراءات النقدية المناسبة، وما نفترض أنه من العوارض المؤقتة في سلاسل الإمداد المسببة لنقص السلع والمنتجات قد يتحول إلى مشكلات هيكلية مزمنة، ما لم يتم توجيه الاستثمار في زيادة القدرات الإنتاجية وتطوير البنى الأساسية. فالوقاية المبكرة خير من العلاج المتأخر. إذ يظل كل هذا يسير التكلفة مقارنة بتكاليف علاج الركود التضخمي، الذي لن يتلاشى بمجرد تجنب ذكر اسمه إذا كان موجوداً بالفعل.
د. محمود محيي الدين
الإصلاح ومصير الودائع: خطة إنقاذ ذاتية
من أهم مخلّفات الأزمة الحالية هي الخسارات التي سجّلها القطاع العام وانعكست في استهلاك الجهاز المصرفي لمعظم ودائع المواطنين. لقد استثمرت المصارف معظم ودائع الزبائن في القطاع العام، وأغلبها من خلال مصرف لبنان، والذي بدوره استخدمها لتغطية نفقات الدولة ومؤسساتها. فالسلطة أساءت الأمانة ولم تستطع إدارة الاقتصاد بفعالية وشفافية. واستمر المواطن بتحمّل التكلفة الباهظة من مُخلّفات الأزمة وتمثلت بالأخص بارتفاع البطالة، وانتشار الفقر، والتضخم وقضم ودائعه. ومن الواضح انّ سياسات خفض هذه الأعباء من خلال الدعم جاءت مغايرة لتطلعات المواطن ورغبة السلطة. يجب إعطاء الاولوية في الحل لتعويض الودائع بالدولار في مصرف لبنان، كونها تمثل ما يفوق الـ60% من مجمل الودائع وتفتقد لأية ضمانات.
يعتبر المواطن انّ تحرير ودائعه من أهم همومه، وقد استجاب البيان الوزاري بالإشارة الى انّ خطة الإصلاح للقطاع المصرفي التزمت ان تلحظ “إعطاء الاولوية لضمان حقوق وأموال المودعين”. فهدر اموال المواطن نفّذها القطاع العام ويجب ان يتحمّله. لقد تكبّد القطاع الخاص بما فيه الكفاية، والتفكير بتطبيق “هيركات” على الودائع او توزيع الخسائر، هو من ابسط الحلول، ولكنه الأسوأ، وقد يواجه دستورياً وقضائياً. كما انّ “الهيركات” تُمارس حالياً على السحوبات وكلّفت المواطن خسارات توازي 5 مليارات دولار. انّ الإجراءات التي مُورست منذ بدء الأزمة أدّت الى تسارع تدهور الوضع الاقتصادي والمالي، بدلاً من إصلاحه، ولم تبد السلطة اهتماماً لمعالجته. فهل تستطيع الدولة الالتزام بإعادة مدخّرات المواطن وثقته؟
اولاً: الإصلاح
انّ الخطوة الاولى لإعادة الثقة تتمثل باتخاذ إصلاحات نقدية ومالية وهيكلية، ومن أهمها تحرير وتوحيد سعر الصرف حالاً لجميع المعاملات، لما لتعدد اسعار سعر الصرف من مضار جسيمة على الاقتصاد. وإذا كان الاعتقاد بأنّ الضرر من السيولة يشكّل عبئاً على الاقتصاد، فلا بدّ من الإدراك انّ ضرر تعدّد الاسعار وحجز الودائع هو أعمق من أثر السيولة. انّ تحرير سعر الصرف والسحب من الودائع على السعر الحرّ بحدّ ذاته، يوفّر حلاً هاماً لمعضلة الودائع والوصول اليها، وسيكون المودع راضياً بأن يعُوّض عن ودائعه بالدولار بالليرة على أساس سعر السوق الحر. وحينها سيتخلّى عن المعاملات النقدية التي أغرقت الاقتصاد بالسيولة وسارعت في انهيار الليرة. انّ تحرير سعر الصرف آتٍ ولا مفرّ منه، فالأجدى اعتماده حالاً لتفادي تكلفة التأجيل التي ستكون أكثر خسارة.
ثانياً: تطبيق خطة إنقاذ ذاتية لمصرف لبنان للتعويض عن خسارة 65 مليار دولار “self- bailout”
في المرحلة الثانية او تزامناً، يتوجب معالجة الودائع لدى مصرف لبنان بالدولار التي لا تقابلها أية ضمانات وتشكّل نحو 65 مليار دولار من مجمل الودائع البالغة 106 مليارات دولار في نهاية حزيران. اما الودائع الاخرى فهي مستثمرة في القطاع الخاص والسندات وتقابلها ضمانات.
واستُخدمت الـ 106 مليارات من الودائع بالدولار كالآتي:
* ودائع لدى مصرف لبنان من المصارف بلغت نحو 65 مليار دولار (مقدّرة، كون مصرف لبنان لا يصرّح عن هذا الرقم).
* استثمارات المصارف في اليوروبوند للدولة اللبنانية (8 مليار دولار).
* قروض للقطاع الخاص المقيم وغير المقيم بالدولار (23 مليار دولار).
* أصول اخرى للمصارف بعملات اجنبية ومن ضمنها حيازات في الفروع بالخارج (10 مليار دولار).
لا بدّ من اللجوء الى موجودات القطاع العام النقدية والحقيقية، للتعويض عن الودائع في مصرف لبنان التي استُهلكت والتي يُفترض غير متوفرة ومعظمها خسارات (في الكهرباء وغيرها)، ولا تقابلها أية ضمانات. فالقطاع العام ككل هو من أهدر هذه الودائع، وساهم في ذلك عدم الإكتراث او القدرة للجهاز الرقابي والسلطتين التنفيذية والتشريعية الإشراف الفعّال على أداء القطاع على الرغم من التحذير من مخاطر تخطّي الملاءة اللازمة خلال عقود.
انّ الاسلوب الأبسط والأكثر فعالية يتمثل باستخدام، اولاً، ما تبقّى من اصول مصرف لبنان النقدية بالعملات الاجنبية لإعادة اموال المستثمرين (المودعين)، كما يحدث حين يتعثر القطاع الخاص عن التزاماته. فمن الممكن إعادة نقداً 14 مليار دولار الى المصارف من الاحتياطي الإلزامي المتبقي. وقد تعيد السلطة النظر، إضافة، في تسييل جزء من الذهب وإيداعه في المصارف للتعويض عن الودائع. انّ الاعتقاد بأنّ الذهب هو سند للثقة هو اعتقاد خاطئ، ويعطي ثقة زائفة لأداء الاقتصاد. وكما هو معلوم، فانّه يُعتبر في كل دول العالم، كجزء من الاحتياطي النقدي ويُستعمل على هذا الأساس. بعد تحرير سعر الصرف وتوقف مصرف لبنان عن تزويد النقد الأجنبي للسوق، تصبح إدارته اكثر فعالية وتركّز على إدارة السيولة للعملة الوطنية.
ثانياً، استخدام أصول حقيقية للدولة من خلال الخصخصة، للتعويض عن المبلغ المتبقي البالغ 51 مليار دولار. ويُقدّر مجموع قيمة مؤسسات الدولة القابلة للخصخصة في المرحلة الاولى (الهاتف -اوجيرو، الطيران – الميدل ايست، الكهرباء، عقود استئجار المرفأ وشركات عقارية والمطار وبلوكات المياه البحرية- الغاز والنفط، الخ….) بما لا يقل عن 50 مليار دولار، بالإستناد الى تقييمها على أساس الأرباح المتوقعة بإدارة خاصة. والسؤال هو كيف ستأتي الـ51 مليار دولار؟ من خلال التالي:
– إنشاء شركات مساهمة منفردة لكل مؤسسة أساسية من مؤسسات القطاع العام بإدارات خاصة في أسرع وقت، وتصدر مقابلها أسهماً سوقية مقيمة بالدولار على غرار أسهم الشركات المدرجة حالياً في بورصة بيروت
(كسوليدير وغيرها). ويُستعان بالخبرات المحلية والدولية المتخصصة لتشكيل لجنة خاصة مهمتها تنفيذ هذا الهدف ولإصدار اكتتابات جديدة. وتُعرض هذه الأسهم تدريجياً من خلال بورصة بيروت، وتتاح لمن يرغب، بمن فيهم المودعون المقيمون وغير المقيمين. ومن الطبيعي ان يتمّ شراء جزء هام من هذه الأسهم من قِبل شريحة واسعة من المودعين من حساباتهم المصرفية، فتكون الحصيلة استبدال الودائع بأصول حقيقية وتنخفض بالنتيجة ميزانيات المصارف بالمبلغ المقابل. وللتذكير، انّ خطة الحكومة الإصلاحية للكهرباء في 2003 استندت الى خصخصة مؤسسة كهرباء لبنان.
– أما الاسهم التي يتم شراؤها من حسابات جديدة وتحويلات من الخارج، ستوفر دخلاً بالدولار لتغذية المقابل للودائع المتبقية بالدولار في المصارف. انّ من لا يرغب بشراء الأسهم الجديدة فتبقى ودائعه في المصارف، ولكن سيكون مقابلها الآن أصول نقدية بالعملة الصعبة، إنما على اساس نسبي بقدر ما يتمّ المشاركة من المستثمرين المقيمين وغير المقيمين بهذه الأسهم الجديدة.
هذا يعني انّ الدولة لا تفرط بموارد القطاع العام، وانما تنتقل ملكيته الى المواطن، مع الحفاظ على توزيع عادل لهذه الموارد، من خلال الحدّ من الملكية الفردية لكي تستفيد منها شريحة واسعة من المواطنين. أي انّ الودائع غير السائلة المتبقية ستُستبدل بأسهم حقيقية مصدرها اصول للدولة.
النتيجة، هي إعادة القيمة الحقيقية والنقدية للودائع التي كانت هالكة في مصرف لبنان، فتُصبح مُكوّنة من النقد الاجنبي الجاري، ولأجل وما تبقّى، سيتكون من الاصول الحقيقية. أما من ليس له ودائع فسيستفيد من الإصلاح وتحسين ادارة الاقتصاد واستعادة نموه وفرص العمل. ومن يعارض الخصخصة كالشركات الاستشارية الأجنبية، تستهدف الاستمرار في الاعتماد على التمويل الخارجي وحذف الودائع على الرغم من مخاطرهما.
وتُقدّم الحجة ضدّ الخصخصة انّ القطاع العام هو ملك للجميع وليس لأصحاب الودائع فقط. لكن الردّ انّ إدارة القطاع العام أدّت الى إفلاس الجميع الغني والفقير ومن يملك ودائع او يفتقدها. انّ الحلول البديلة المقترحة هي ان تستمر الدولة بالإدارة الفاشلة لمؤسسات القطاع العام او سلب ودائع المواطن. انّ الخصخصة وتعويض الودائع هما الأمثل. كما انّ الخصخصة تؤدي الى تحسين أداء الاقتصاد ورفع مستوى معيشة جميع فئات الشعب اللبناني. ومن يعتقد انّ بيع مؤسسات الدولة في الوضع الحالي سينتج منها دخل زهيد، فهذا تحليل خاطئ، لأنّ الاصول الحقيقية تُقيّم على أساس امكانية الأداء المستقبلية.
انّ حسابات المصارف ومصرف لبنان سوف تتعدل لتعكس هذه المعاملات: فستنخفض الودائع في المصارف وما تقابلها من أصول المصارف في مصرف لبنان، بقدر ما يتم شراء الشركات الحديثة من الودائع المجمّدة. اما ميزانية مصرف لبنان فستنخفض بمقدار 14 مليار دولار الموازية، إضافة الى مدى التعويض عن الودائع بالدولار المتبقية في المصارف من خلال الخصخصة. ولكي لا تتعرض المصارف لضغوط السحب النقدي من الودائع المتبقية لديها، تقوم في البداية بجدولة الودائع على أساس روزنامة متعددة الآجال.
اما الاقتراحات السابقة التي دعت الى إنشاء صندوق سيادي ليحوي مؤسسات الدولة لكي يعوّض من أرباحه عن الودائع، فهو اقتراح عقيم، لأنّ ادارته تبقى بيد الدولة غير المؤهلة، والتعويض سيستغرق اجيالاً.
وختاماً، وفي ما يخصّ الودائع بالليرة وتقابلها ضمانات من خلال القروض المضمونة وسندات الدولة، ولا بدّ من إخضاعها لجدولة واضحة. انّ حل مشكلة الودائع وتوفر السيولة (اضافة الى الإصلاحات الاخرى) أصبحا ضروريين لإعادة الثقة ودعم النمو الاقتصادي. ومن المتوقع انّ حل أزمة مجمل الودائع ستكون العمود الفقري للإصلاح وإعادة الثقة.
الدكتور منير راشد