أي «إقتصاد سلام» في «منطقة غليان»؟ خيارات لبنان قبل المفاوضات مع صندوق النقد

صحيح أنّ لزعزعة الاستقرار أثراً مباشراً على ما يُعرف بعلم الاقتصاد بـ«عامل المخاطرة» الذي له ثقله في التصنيف السيادي للبلدان، وفي معدّلات الفائدة الرئيسية لديها، وفي المناخ الاستثماري وثقة العملاء الاقتصاديين.. إلّا أنّ ثمة بلداناً يتعايش إقتصادها حتى مع الحروب ويشهد نمواً، أو أقلّه يتفادى الانهيارات الكبرى… أما أبرز اشكاليات الاقتصاد اللبناني بالذات، فتكمن في تخلّيه عن التوازن في نمو قطاعاته ومصادر مداخيله، كما كانت الحال قبل حرب 1975- 1990، وحصر خياراته بما يُعرف بـ»إقتصاد السلام» (سياحة، خدمات…)، في حين يعيش في أفضل الحالات «هدنة متقطعة»، وسط «منطقة غليان» مستمر…

اليوم، وقبل البدء بالمفاوضات الرسمية مع صندوق النقد الدولي، أي خيارات اتخذها لبنان وأوصلته الى انفجار الأزمة؟ أي دروس اتخذها منها؟ وكيف أصبحت اليوم عناوين الإصلاح المطلوب في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟

بداية، من المفيد معرفة أنّ لبنان منذ استقلاله عام 1943 عرف نموذجاً اقتصادياً رائداً، ولم تعرف المالية العامة عجزاً مالياً ولا حاجة الى الاستدانة، حتى بعد السنوات الأولى من بدء حرب 1975-1990، وكان قبلها إنتاج الكهرباء يكفي حاجات لبنان ويسمح بتصدير الفائض إلى سوريا.

وبفضل الخيارات الاقتصادية الرؤيوية للبنان في الستينيات، يملك اليوم لبنان، وفق بيانات «مجلس الذهب العالمي»، احتياطياً من الذهب يبلغ نحو 287 طناً، أي نحو 10 ملايين أونصة، ما يضع البلاد ضمن قائمة أكبر 20 بلداً في العالم، تحوز على احتياطيات الذهب.

ويعود الفضل في تكوين هذا الاحتياطي إلى رئيس الجمهورية الراحل الياس سركيس، الذي بادر الى شراء 5 ملايين أونصة حين كان حاكماً لمصرف لبنان في الستينيات. لاحقاً عمدت الحكومات المتعاقبة إلى شراء المزيد لزيادة احتياطي الذهب لدى مصرف لبنان المركزي، ليتوقف هذا المسار في أوائل السبعينيات مع قرار الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الذهب بالدولار، نتيجة ضغط الدول المتزايد على شرائه.

علماً أنّ الليرة اللبنانية اعتُمدت عام 1948 بعد الانفصال النقدي بين سوريا ولبنان. وقتها كان القانون اللبناني يفرض تغطية 50% من النقد المُصدَر عن بنك الإصدار: «بنك سوريا ولبنان»، بالذهب والعملات الأجنبية. كما فرض «قانون النقد والتسليف» الذي صدر عام 1963 نسباً للتغطية. إلّا أنّ هذه النصوص لم تعد مطبّقة، إذ إنّ الليرة اللبنانية باتت عائمة كلّياً ككل العملات في النظم الاقتصادية الحرّة…

أرخت حرب 1975-1990 بظلالها على الاقتصاد اللبناني، وشهدنا تضخماً صاروخياً بلغ 487% عام 1987، وارتفع سعر الدولار من 2,25 ليرة قبل حرب 1975 الى 2500 ليرة عام 1992. وتوجّه القطاع الخاص اختيارياً نحو الدولرة، وبدأت الاستدانة في منتصف الثمانينات قبل تضاعفها مع إعادة الإعمار بدءاً من عام 1992، بالتزامن مع اعتماد سياسة ربط سعر صرف الليرة إزاء الدولار وتثبيته على 1507,5 منذ 1997…

وبقي لبنان متمسكاً بسياسة ربط الليرة اللبنانية بالدولار الأميركي بنحو صارم، على أساس 1507.5 ليرة للدولار الواحد، أياً يكن وضع ميزان المدفوعات… فبقي الوضع مضبوطاً، طالما كان ميزان المدفوعات يسجّل فائضاً حتى العام 2010، إلى أن انقلب الوضع منذ اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، وافتقاد الاستقرار السياسي والحكومي في لبنان، وتراجع في الاستثمارات العقارية والتوظيفات المالية الخارجية والإنفاق السياحي، لا سيما من بلدان الخليج، فسجّل ميزان المدفوعات عجزاً في نهاية 2019 بقيمة 4351 مليون دولار، ليصبح العجز التراكمي منذ 2011 إلى اليوم ما قيمته 14515.9 مليون دولار (باستثناء عام 2016، الذي لم يسجّل عجزاً بسبب هندسات مصرف لبنان المالية التي استقطبت من خلالها المصارف اللبنانية المشاركة، رساميل من الخارج بالعملات الأجنبية لشراء اليوروبوند…)… الى أن انفجرت الأزمة مغرقة المالية العامة ومصرف لبنان والمصارف اللبنانية معها.. فظهرت السوق الموازية وأسعار الدعم متعددة في معدلات الصرف، وبات اليوم توحيدها وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي أيضاً أولوية تجاه صندوق النقد الدولي…

أما الدور الاقتصادي للبنان فتغيّر، والقطاعات الإنتاجية الصناعية، كما الزراعية، تدهورت ولم تعد تساهم إلّا في شكل طفيف في الناتج المحلي، وتمّ تشريع أبواب الاستيراد مع اتفاقات تحرير التجارة والمنافسة غير المتكافئة وتعريض أسواقنا للإغراق، وبقي التعويل محصوراً بالمغتربين ونفقات السياح والاقتصاد الريعي والاستثمار العقاري على أهميته، فلم يتمّ السعي حتى الى تأمين الحدّ الأدنى من «الأمن الغذائي» وكان الرهان على «اقتصاد سلام» في منطقة تعيش غلياناً..

وفيما استمر إهمال الاستثمارات المنتجة الثابتة والابتكار التكنولوجي ومحاكاة لغة العصر وحاجات توفير فرص العمل للشباب، وقع لبنان في تجاذبات سياسية ونزاعات داخلية وخارجية، أدّت بعد أحداث أيار 2007 إلى اتفاق الدوحة الذي تبعه بعض الاستقرار، وارتفع النمو ليتخطّى 8% عام 2010، ما لبث أن انخفض الى أقل من 1% منذ العام 2011، وبات البحث عن إعادة التوازن بين القطاعات واستعادة الثقة والمناخ الاستثماري للنمو المستدام، أولوية خيارات لبنان الاقتصادية، للتفاوض على أساسها مع صندوق النقد الدولي…

ومع سلسلة المؤتمرات الدولية الداعمة للبنان، تزايدت دولرة الدين العام حتى بلغت ثلث الدين العام، إذ أنّ الفائدة على سند الدين بالعملة الأجنبية أقل من الفائدة على السند بالليرة، كما أنّه يسهّل تسويق اليوروبوند عالمياً، لكن بقيت الحصة الكبرى منه لدى المصرف المركزي والمصارف التجارية.

وما خفتت مفاعيل المؤتمرات الداعمة وتوقّفت البلدان المشاركة عن المساهمة، في غياب التزام لبنان بالورقة الإصلاحية التي كان أعلن فيها عن مشاريع خصخصة وتسنيد ومشاركة القطاع الخاص، لا سيما في الخدمات الأساسية مثل الاتصالات والكهرباء، التي تسببت وحدها بثلث الدين العام، وسُحبت لها تسهيلات خزينة بالدولار الأميركي لسدّ عجزها السنوي الذي قارب الملياري دولار أميركي سنوياً، فتخطّى مجموعه وفوائده الـ43 مليار دولار دون إمكانية إعادة الدولارات ولا تأمين التيار الكهربائي بنحو مستدام…واليوم يتغطّى مجدداً هذا الملف ضمن أولويات الاصلاحات المطلوبة في التفاوض مع صندوق النقد الدولي…

وبعدما انخفض الدين العام الى الناتج المحلي الى أقل من 130% عام 2010 عاود الارتفاع تباعاً منذ العام 2011 ليتخطّى 180% قبل انفجار الأزمة عام 2019، وتراجع التصنيف السيادي للبنان لدى الوكالات الدولية «فيتش»، «موديز» و «ستاندرد بورز»، الى أن أعلن لبنان التوقّف عن سداد ديونه في آذار 2020 من دون أي مفاوضات مع الدائنين حاملي السندات، لا سيما بالدولار الأميركي على الدولة اللبنانية.. وهذا الملف هو في رأس الأولويات اليوم لإعادة هيكلة الدين العام في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي…

وقد أظهرت تقارير البنك الدولي الانعكاسات المباشرة وغير المباشرة للأزمة في سوريا على اقتصاد لبنان، وصولاً إلى الجمود الكلّي للمؤسسات السياسية اللبنانية في ظلّ الفراغ الرئاسي بين أيّار 2014 وتشرين الأول 2016، وغياب إقرار الموازنات من عام 2005 حتى عام 2017، مع إعادة انطلاق العمل المؤسساتي بعد التسوية الرئاسية عام 2016، وإذا بلبنان يشهد الاهتزاز الحكومي الكبير في تشرين الثاني 2017 ليعيد الى الواجهة مجدداً شدّ الحبال على المشهد السياسي.

وطغت مجدداً التحضيرات لانتخابات نيابية عام 2018 على كلّ المواضيع، وإذ بعد إقرار قانون وقف التوظيف في القطاع العام قبل الانتخابات، يسقط أمام توظيف أكثر من 5300 موظف جديد في الفترة عينها وفق تقرير التفتيش المركزي، كما تمّ إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون أي إصلاح وترشيد التوظيف وإعادة النظر في القطاع العام، الذي بات يستحوذ على أكثر من ثلث الموازنة (في حين لا يتخطّى حجمه في بلدان العالم أكثر من 10 الى 15% كحدّ أقصى من الموازنة).. على أمل انطلاق العمل التنموي بعدها… فيما اليوم تعود إعادة النظر في حجم القطاع العام الى الواجهة، في أولويات الاصلاحات المرجوة من صندوق النقد الدولي…

ولكن تضافرت عوامل الضغط قبل وخلال وبعد تشكيل الحكومة، التي ما أن تسلّمت مهماتها مطلع عام 2019، تأخّر مؤتمر «سيدر» لدعم لبنان، وتفاعلت الضغوط وتظهّرت تراكمات الاختلالات الاقتصادية وانفجرت أزمة تطايرت شظاياها، وأصبحت لملمتها مرهونة بحسن تشخيصها والفصل بين أسسها ومختلف أنواع اشتراكاتها…

أما اليوم، وبعد القراءة المتأنية لتسلسل الأحداث، يتبيّن مدى ارتباط وحساسية المؤشرات الاقتصادية إزاء الاستقرار السياسي من جهة والتكاليف الباهظة للثبات في بعض الخيارات الاقتصادية، دون التنبّه الى المتغيّرات حولها من جهة أخرى… فالخيارات الاقتصادية التي تبدو مثالية في لحظة زمنية ما، قد تصبح غير فعاّلة،لا بل مكلفة ومرهقة للاقتصاد في فترات أخرى. من هنا أهمية المرونة والديناميكية في التعامل مع المتغيّرات، وتحديد أي لينان نريد لأي دور إقتصادي، وفق أي خيارات مالية ونقدية وقطاعية ككل، حتى نحسن تقديم وتبنّي أوراق إصلاحية للتعامل مع صندوق النقد الدولي، يكون لبنان متمكناً من تنفيذها وفق رؤيا اقتصادية وليس مجرد «ضربات تكتيكية»..

د. سهام نصرالله

شهر صعب..

احتفلت الحكومة الميقاتية ببلوغها الشهر. وهذه فترة ليست كافية للحكم على الأداء والنتائج المتوقعة. لكن، ويوماً بعد يوم، تبرز مؤشرات وحقائق تؤكّد انّ مهمّة الحكومة الإنقاذية، هي من أصعب المهمّات التي واجهها البلد في العقود الثلاثة الأخيرة، ليس بسبب طبيعتها المعقّدة فحسب، بل بسبب التوقيت غير المناسب.

منذ انطلاقتها، أعلنت الحكومة على لسان رئيسها، انّ اولويتها ستكون معالجة القضايا المعيشية الساخنة التي يعاني منها الناس. وكان شعارها، «مبارح قبل اليوم»، في إشارة الى صفة الاستعجال القصوى التي ستتحرّك بها للتصدّي للأزمات التي تحاصر المواطن. لكن، الأيام الثلاثين الاولى مضت، ولا تبدو صفة الاستعجال هي السمة التي تتحرّك بموجبها الحكومة الميقاتية، استناداً الى الامور التالية:

اولاً- ملف رفع الدعم عن البنزين الذي كان يُفترض ان يُستكمل في نهاية ايلول، لا يزال عالقاً على سعر منصّة «صيرفة». ومع ارتفاع اسعار النفط عالمياً، وارتفاع سعر صرف الدولار في السوق المحلية الى عتبة الـ20 الف ليرة، اصبحت الخطوة الأخيرة المنتظرة صعبة، لأنّ البنزين سيرتفع بنسبة كبيرة، وسيصبح سعر الصفيحة اكثرمن 300 الف ليرة.

ثانياً- البطاقة التمويلية التي كان يُفترض ان تكون أقلعت منذ فترة، لا تزال عالقة، ولو انّها نظرياً تحرّكت في اتجاه التنفيذ. والمشكلة هنا، إلى جانب كل الملاحظات التقنية، انّ الحكومة لا تريد ان تتصرّف بوضوح في إنفاق الاموال التي تأمّنت من حقوق السحب الخاصة (SDRs) من صندوق النقد الدولي. (1,139 مليون دولار).

ثالثاً- المعالجات المؤقتة التي تهدف الى تخفيف معاناة المواطن، متعثرة، ذلك انّ النظرة التي قد يحكم بها الناس على الامور، هي انّ فاتورة المولّد كانت 200 الف ليرة في الشهر، اصبحت اليوم حوالى 800 الف ليرة، مع تقنين إضافي في التغذية. ثمن صفيحة البنزين كان 70 الف ليرة، اصبح اليوم حوالى 241 الف ليرة، بوليصة التأمين كانت باللولار، اصبحت بالدولار، بما يعني عجز الغالبية المضمونة عن الاستمرار، تحت مظلة الضمان الخاص. المستشفيات لم تعد تقبل سوى قسم من الفاتورة بالدولار، بما يعني انّ المؤمّن في الضمان الاجتماعي لم يعد مؤمّناً فعلياً. سعر الدجاج والبيض الذي كان لا يزال يشكّل البديل للحمة الحمراء بالنسبة الى المواطن بسبب الفارق في الاسعار، ارتفع بسرعة قياسية وتضاعف سعره وصار شبيهاً بسعر اللحمة الحمراء. سعر سحب الدولار العالق في المصارف والذي كان يُفترض ان يرتفع قليلاً لمساعدة الناس في تحسين قدراتهم الشرائية، بقي كما هو، وتمّ التمديد للتعميم 151 حتى آخر السنة، وأخيراً سعر الصرف الذي حيكت حوله الأساطير وتنافس الكثيرون في تقدير السعر الذي سيستقر عليه الدولار بعد الانخفاض، عاد الى طبيعته، وارتفع أكثر مما كان سعره قبل تشكيل الحكومة. ولا تزال هناك تطورات من هذا النوع، سيشهدها اللبناني في الايام القليلة المقبلة.

كل هذه المصائب قد لا تكون الحكومة مسؤولة عنها، لكنها حقائق حصلت في خلال الايام الثلاثين الاولى من عمر الحكومة، وكل ما يهمّ المواطن هي النتائج.

في موازاة هذه الملفات المعيشية التي انفجرت في خلال شهر، لا تبدو مهمة الحكومة اسهل في عملية الإنقاذ الشامل، من خلال التوصّل الى خطة يرعاها ويموّلها صندوق النقد الدولي. العائق الأساس في هذا الموضوع، يرتبط بالتوقيت. اذ كيف يستطيع رئيس الحكومة التوفيق بين متطلبات صندوق النقد، ومصلحته السياسية في صندوق الاقتراع؟ اذ يبدو الرجل عالقاً بين صندوقين، في لعبة تضارب مصالح (conflict of interest) يصعب الخروج منها بلا خدوش وأضرار قد تكون جسيمة. وهذا الامر ينطبق على تيار رئيس الجمهورية، الشريك الاساسي في الحكومة. وكذلك، على بقية القوى السياسية المشاركة في الحكومة، ولو بنسب أقل. انّها حكومة القوى السياسية التي تعتبر انّ الانتخابات المقبلة ستحدّد مصيرها ومستقبلها، فكيف ستجازف بمستقبلها، لتلبية متطلبات الإنقاذ، والتي تبدأ عادة بإجراءات تمهيدية يطلبها صندوق النقد، منها على سبيل المثال:

اولاً- توحيد سعر الصرف، بما يعني اختفاء دولار الـ1507 ليرات. هذا الاختفاء يؤدّي الى رفع فاتورة الخدمات، وفي مقدّمها الاتصالات والانترنت الى مستويات قياسية. ورفع الدولار الجمركي، بحيث سترتفع اسعار السلع بنسب ضخمة.

ثانياً- وقف الضغط على المالية العامة، وبالتالي عدم القيام بأي خطوة قد تزيد العجز، ومنها على سبيل المثال رفع الاجور…

ثالثاً- رفع كل انواع الدعم، وفي مقدّمها الكهرباء بما سيرفع الفاتورة بنسب كبيرة ايضاً.

هذه نماذج من متطلبات تسبق الاتفاق على أي خطة إنقاذية، فهل يمكن ان نصدّق انّ المرشحين الى الانتخابات النيابية، وعلى رأسهم ميقاتي، يستطيعون اتخاذ هذه الإجراءات قبيل التوجّه الى صناديق الاقتراع؟

الشهر الاول من عمر الحكومة كان صعباً، والشهر الثاني قد يكون أصعب. انّها مشكلة توقيت خاطئ، والتوقيت أهم عنصر للنجاح او الفشل في أي مشروع.