لم تكتف التقارير العلمية الأخيرة الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيرات المناخ بالتحذير من خطورة استمرار انحراف العالم عن المسار المرسوم لتخفيض الانبعاثات المسؤولة عن رفع درجة حرارة الأرض فوق معدلاتها الحرجة، ولكنها قدّرت فجوات التمويل التي تواجه الدول النامية للتعامل مع تحديات المناخ. ولم تكن هذه التقارير العلمية هي الأولى لهذه الهيئة الدولية المشكّلة منذ عام 1988 من الهيئة العالمية للأرصاد الجوية وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، وتضم في عضويتها 195 دولة، فقد توالت تقاريرها السنوية منذِرة ومحذّرة من خطورة تغيرات المناخ.
وقد تبارى المتحدثون في مؤتمرات وندوات بكلمات عصماء، وغير عصماء، عن ضرورة احترام كلمة العلم واتخاذ إجراءات حاسمة تنقذ الأرض من مصير بائس لاحت نذره بشدة الأعاصير وانتشار الجفاف والتصحر وحدة الفيضانات وحرائق الغابات وتهديد المدن الساحلية بالغرق، رغم أن العالم لم تزد فيه سخونة الأرض بعد على 1.1 درجة مئوية فوق متوسطاتها قبل الثورة الصناعية، فما المصير إذا ما توالت ارتفاعات درجة حرارة الأرض فيما يتجاوز 1.5 درجة مئوية التي جعلها العلماء حداً فاصلاً لا يمكن تجاوزه حتى لا تزيد مهددات البقاء سوءاً؟ ورغم ذلك تستمر الانبعاثات الضارة بأنواعها وتزداد اطراداً، فبدلاً من تخفيض الانبعاثات الضارة وفقاً للتعهدات المبرمة بما لا يقل عن 45 في المائة حتى عام 2030 ترى الانبعاثات في ازدياد بنحو 14 في المائة بانحراف مزعج عن الهدف بمقدار 60 في المائة تقريباً.
وقد يذكر البعض الأزمة الأوكرانية وأن الحرب الضارية هناك قد جعلت العالم ينصرف عن تعهداته بما في ذلك اتفاق باريس لتغير المناخ المبرم في عام 2015؛ وفي هذا تضليل كبير؛ فالانحراف عن نهج التصدي لتغيرات المناخ والتقارير المشار إليها الصادرة في شهري فبراير (شباط) ومارس (آذار) الماضيين ترصد كوارث محدقة بالمناخ سابقة على الكارثة الإنسانية التي تسببها الحرب التعسة في أوكرانيا. ولطالما علّقت خيبات كثيرة على مشاجب أزمات عالمية تلومها على تدهور الأحوال وكأن الأوضاع قبلها كانت على ما يرجى من عمل، وفي هذا تضليل كبير.
لا يمكن تجاهل الأثر السلبي للحرب في أوكرانيا على العمل المناخي. وفي تقديري، أن الحرب قد ولدت موجتين متعارضتين؛ الأولى، أحسب أنها قصيرة الأجل أو متزامنة مع تداعيات الحرب وآثارها على أسعار الطاقة والغذاء، وكان رد الفعل التلقائي هو السعي لتدبير الموارد من السلع الأساسية، وخاصة الوقود من أي مصدر وبأي سعر، وبهذا لجأت دول أوروبية مضارة لإعادة تشغيل محطات الكهرباء المعتمدة على الفحم، واعتبر الاتحاد الأوروبي الغاز الطبيعي مصدراً انتقالياً للطاقة بعدما كان منبوذاً، ورحب الاتحاد أيضاً بالطاقة النووية بعد عهد من التحذير من مخاطرها الأمنية، خاصة بعد كارثة فوكيشيما في اليابان في مارس 2011، ما دفع دولاً أوروبية مثل ألمانيا إلى إيقاف محطاتها النووية؛ مما زادها اعتماداً على الطاقة ذات المصادر الأحفورية المستوردة من الاتحاد الروسي.
أما الموجة الأخرى، المتولدة من الأزمة الأوكرانية، فهي السعي لتنويع مصادر الطاقة من حيث النوع والمصدر الجغرافي. وهو ما يعني مزيداً من الاستثمارات الأوروبية تحديداً في مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة. وقد تواترت الزيارات رفيعة المستوى من مسؤولي الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء وشركاتها، خاصة إلى الدول الأفريقية جنوب المتوسط موقّعة لمذكرات تفاهم وتمهد لتعاقدات في مجالات الهيدروجين الأخطر والطاقة الشمسية وطاقة الرياح ومد شبكات وكابلات نقل الكهرباء عبر البحر الأبيض المتوسط.
من دون تمويل كافٍ لن تجد أزمة المناخ حلاً وسيستمر الدوران في حلقات مفرغة. تظهر التقارير العلمية لعام 2022 المشار إليها في صدر هذا المقال إلى أن الدول النامية تحتاج إلى زيادة تمويل برامج التخفيف من الانبعاثات الضارة بالمناخ والتكيف مع تغيراته بما يقدر بنحو أربع إلى ثماني مرات عما كان عليه مستوى التمويل في عام 2019؛ أي أن عليها تدبير نحو 1.8 تريليون دولار و3.4 تريليون دولار سنوياً، أي بمتوسط 2.6 تريليون دولار بافتراض سلامة التقديرات للحد الأدنى والحد الأعلى. فمن أين سيأتي التمويل المجسِر لهذه الفجوات الهائلة؟ أفجوات بآلاف المليارات تكفيها المائة مليار الموعودة منذ كوبنهاغن في عام 2009 والتي لم تتدفق بالكامل من الدول المتقدمة إلى الدول النامية أبداً؟ وأفضل ما كان هو ما أُعلن في العام الماضي مقترباً من 80 مليار دولار بعلامات استفهام كبرى حول المنهج والتدفق الفعلي والأثر. وهذا مثال من أمثلة الدوران في الحلقات المفرغة: يُعلَن رقم من دون تدقيق للاحتياجات الفعلية المستقبلية، ويتصدر الرقم المشهد باعتباره إنجازاً غير مسبوق كما حدث في عام 2009، ويتبادل المؤتمرون التهاني كما كان أمرهم في كوبنهاغن، ثم تمر السنة تلو الأخرى في انتظار ما لا يأتي وإن أتى لا يأتي كاملاً، ثم تعدّ التقارير بمنهجيات متضاربة متسائلة ومستفسرة عما جرى، علماً بأن عشرة أمثال هذا الرقم لن تكفي لملء نصف فجوة التمويل السنوية للدول النامية.
ستة سبل متكاملة لإيقاف الدوران في حلقات مفرغة:
1- التزام الدول الواعدة بالمائة مليار الدولار بالوفاء بها: الالتزام بالمائة مليار الموعودة هو شرط لبناء الثقة قبل التبرع بوعود أخرى. فهذه المبالغ ليست هبة من أسخياء، ولكنها تأتي أولاً لاعتبارات العدالة والإنصاف لدول نامية لم تتسبب في أزمة المناخ، بل كانت وما زالت الأقل إضراراً والأكثر تضرراً، كما أنها تأتي ثانياً لتحفيز الدول النامية على استخدام تكنولوجيا أكثر توافقاً مع اعتبارات البيئة والمناخ والتي ستعود بالنفع أيضاً على دول متقدمة تحوز حقوق ملكية هذه التكنولوجيا، كما أنها تأتي ثالثاً لمنع ضرر محتمل على الدول الأكثر تقدماً إذا ما استخدمت الدول النامية تكنولوجيا أكثر ضرراً بالمناخ، أو لاعتبارات الآثار العكسية للتحول الأخضر في الدول النامية التي قد يترتب عليها مزيد من طلبات الهجرة أو النزوح اضطراراً لتداعيات المناخ.
2- استثمارات لا ديون: أمن العدل أن يُطلب من الجار الأفقر أن يقترض ليصلح داره لضرر أصابه عندما كان الجار الأغنى يشيّد قصره المنيف؟ فما بالنا والجار الأفقر مكبل بالديون قبل الجائحة وأكثر تكبيلاً بها بعدها، فازدادت خدمة الديون إرهاقاً له بعد ارتفاع معدلات التضخم واضطراب أسعار الصرف وزيادة أسعار الفائدة؟ لا سبيل إلا زيادة المنح والاستثمار وإن قصرت فقروض طويلة الأمد بفترات سماح ممتدة وتكلفة اقتراض زهيدة على أن تأتي مدعمة بمساعدات فنية وإمكانية تحفيز للقطاع الخاص بأن تستخدم هذه القروض الميسرة كرافعة للاستثمارات الخاصة ومحجمة لمخاطر التمويل.
3- دور القطاع الخاص: أُعلن في غلاسكو في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 عن تجمع من 450 مؤسسة من كبرى المؤسسات التي تدير أصولاً مالية تقدر بنحو 130 تريليون دولار عن استعداده لتمويل مشروعات تحقق أهداف اتفاق باريس. وستعقد رئاسة القمة المصرية بالتعاون مع الأمم المتحدة ورواد المناخ خمسة ملتقيات إقليمية لبحث تمويل مشروعات المناخ والتعريف بفرص الاستثمار المتاحة في الدول النامية وتحفيز الإقبال عليها، خاصة في مجالات الطاقة وتخفيف الانبعاثات الكربونية وتطوير نظم التكيف مع تغيرات المناخ بالتركيز على قطاعات الزراعة والتصنيع الزراعي والمنتجات الغذائية. وستدعى هذه المؤسسات المالية وبنوك التنمية والشركات إلى هذه الملتقيات الخمسة وعرض نتائجها في قمة شرم الشيخ للمناخ.
4- تخفيض الديون: إذا أرادت مجموعتا الدول السبع والدول العشرين تحقيق فائدة مباشرة لاجتماعاتها هذا العام، فعليهما النظر في تبني آليات لتخفيض الديون المستحقة على الدول النامية بربطها ومبادلتها باستثمار في تخفيض الانبعاثات الضارة من خلال الإسهام في مشروعات التخفيف ونزع الكربون والاستثمار في الطاقة المتجددة، وكذلك في مشروعات التكيف وحماية التنوع البيئي. وقد قامت مؤخراً جزيرتا سيشيلز وبليز بعمليات لمبادلة الديون يمكن الاستفادة منها بزيادة حجم المعاملات وتخفيض تكلفة المعاملات بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية.
5- سوق الكربون: هناك ضرورة للدول النامية وأفريقيا خصوصاً في تأسيس سوق متكاملة للكربون تتوافق مع متطلباتها ويمنع استغلالها. فقد بلغ حجم سوق الكربون العالمية ما يتجاوز 850 مليار دولار في عام 2021، وفقاً لخبيري البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أهونا إزياكونوا وماكسويل جوميرا بزيادة 164 في المائة عن العام السابق. ولكن السوق شديدة التقلب وتتراوح أسعارها بين 10 دولارات و100 دولار للطن الواحد، وهناك ضرورة للتعاون الدولي في هذا الشأن بدايةً من البناء المؤسسي والتنظيمي وتدريب المهارات المطلوبة؛ مثلما فعلت أوروبا التي أسست نظامها في عام 2005 ثم تعاونت لاحقاً مع الصين ودول جنوب شرقي آسيا في تأسيس نظم تجارة الانبعاثات، مع السعي إلى تخفيضها وليس مجرد نقل حمل الانبعاثات من دولة إلى أخرى.
6- قبل هذا كله، هناك نقطة بداية للدول النامية للخروج من الدوران في هذه الحلقات المفرغة، وذلك بأن تحدد كل دولة أولوياتها بشأن إجراءات التصدي لتغيرات المناخ وتحقيق التنمية المستدامة في بنود موازناتها العامة، فترصد لها من الإنفاق العام ما يمكنها من إيراداتها العامة، وتعطي الإشارات من خلالها للاستثمارات الخاصة لمجالات المشروعات وتحفيزها، وتستقبل بكفاءة التدفقات المالية الدولية وتوظفها بفاعلية، وتخضع هذا كله لآليات الإفصاح والحوكمة والمحاسبة.
محمود محي الدين