الإضرابات الأوروبية

موجة من الإضرابات تشهدها الدول الأوروبية اليوم، من خطوط الطيران، إلى النقل العام، إلى السكك الحديدية. هذه الإضرابات جاءت في وقت تزدحم فيه أوروبا بالسياح القاصدين إليها من جميع أنحاء العالم، للاستمتاع بصيفها ومزاراتها السياحية. ولكن لا يبدو أن السياح سيجدون أوروبا التي اعتادوا عليها قبل سنوات. فمطاراتها اليوم ملأى بطوابير المسافرين الحانقين من التأخير، والرحلات الملغاة، والحقائب الضائعة. فلماذا وصلت أوروبا إلى هذه الحالة؟ وماذا يحمل المستقبل لها؟
قد يكون مصطلح «التضخم غير المتكافئ» أحد أهم أسباب هذه الإضرابات. ويشير هذا المصطلح إلى زيادة التضخم في الأسعار، والذي لا تصاحبه زيادة مماثلة في الأجور. وعلى الرغم من أن قطاع النقل استبشر خيراً بانتهاء الجائحة، بعد أن عانى كما لم يعانِ من قبل، فإن التضخم هاجم أوروبا بضراوة، مدعوماً بالحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة أسعار النفط وغيرها من العوامل. ووجد الموظفون أنفسهم أمام تضخم لم يشهدوه خلال حياتهم المهنية، فآخر تضخم شبيه كان قبل نحو 40 عاماً. وتحججت شركات الطيران والنقل بالآثار السلبية للجائحة، والتي تمكن بعضها بالنجاة منها بأعجوبة، بينما أعلن البعض الآخر إفلاسه خلال الجائحة، وخروجه من السوق.
هذه الإضرابات لن تكون مجرد أخبار عابرة لدى عامة الناس؛ بل سيرونها بأعينهم، وقد تؤثر عليهم بشكل مباشر.
فعلى سبيل المثال، قام الموظفون في كل من طيران بروكسل و«راين إير» بإضراب تسبب في إلغاء نحو 315 رحلة، شمل إسبانيا والبرتغال وبلجيكا، وهو في الطريق لكل من إيطاليا وفرنسا. كان السبب الرئيس لهذا الإضراب هو نقص الرواتب، وسوء حالة العمل الذي تسبب فيه نقص العاملين في هذا القطاع. فبسبب الجائحة، قلصت العديد من شركات الطيران والمطارات موظفيها، وعندما عاد القطاع للعمل لرتمه المعتاد، اضطر الموظفون للعمل برتم أكبر من المعتاد؛ خصوصاً أثناء الصيف حين تزدحم المطارات. ولم تستطع العديد من شركات الطيران والمطارات التوظيف بشكل سريع، بسبب إجراءات الفحص الأمني التي قد تستغرق حتى شهرين. وأدى ذلك إلى استياء عام بين العاملين في هذا القطاع، امتد من الطيارين حتى العاملين في نقل الحقائب، مروراً بموظفي أمن المطارات. والنتيجة لذلك مباشرة وسريعة، وهي مطارات مكتظة بمسافرين ألغيت رحلاتهم، وآخرين في طوابير طويلة في التفاتيش الأمنية، وغيرهم ممن فقدوا حقائبهم بسبب هذه الفوضى.
مثال آخر على ما يحدث في أوروبا، هو إضراب العاملين في السكك الحديدية في بريطانيا، هذا الإضراب هو الأكبر منذ ثلاثين عاماً، وسببه أن العاملين لم يحصلوا على أي علاوة منذ 3 سنوات، وحينما تقرر منحهم هذه العلاوة، جاءت أقل بكثير من التضخم الحالي. فالعلاوة تراوحت بين 2 و3 في المائة، بينما وصل التضخم في بريطانيا هذا الشهر إلى 9.1 في المائة، ويتوقع أن يصل إلى 11 في المائة في الشهور القليلة القادمة. وبقيادة من نقابة السكك الحديدية والنقل البحري والعام، قام نحو 40 ألف موظف بالإضراب عن العمل، فتوقفت القطارات عن العمل لثلاثة أيام، وتسبب ذلك في ازدحام الطرق وتعطل الأعمال. وحتى الآن تبدو هذه المشكلة بلا حل، بعد فشل المفاوضات بين النقابة وشركات السكك الحديدية.
اختيار توقيت هذه الاضطرابات لم يكن عبثاً، فالسياحة أحد أهم الروافد لأوروبا وبريطانيا، وعند تعطل المطارات ووسائل النقل فسوف يلغي العديد من السياح رحلاتهم للابتعاد عن هذه الاضطرابات، والبحث عن بلدان أكثر استقراراً وأقل مشكلات. وبينما كان العاملون في قطاع السياحة يأملون أن يعوّض هذا الصيف سنوات الجائحة التي انعدمت فيها السياحة تماماً، لا يبدو أن هذا الصيف سيكون مثالياً لهم في هذه الظروف، وتحت الضغوطات الاقتصادية التي يعاني منها العالم بأسره.
وما يزيد الطين بلة، أن هذه الإضرابات قد تكون مجرد بداية لسلسلة من الإضرابات التي قد تشهدها دول أوروبا في قطاعات أخرى، فالجميع يعاني من التضخم، والنقابات الأخرى بدأت في التصريح بأنها أحق بزيادة الرواتب، لكونها ساهمت بفعالية خلال الجائحة، ولم تجد التقدير الكافي بعدها، ومنها نقابات المعلمين والقطاعات الصحية. وفي حال لم تتمكن الحكومات الأوروبية من احتواء هذه الأزمة، فقد تتعرض لما تعرضت له في السبعينات الميلادية من تعطيل كامل للمنشآت والخدمات، وهي بكل تأكيد لن تستطيع تحمل ذلك؛ لا سيما في هذا التوقيت.

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

خطة جديدة لإعادة الودائع… «هلا بالخميس»

ما هي الخطة الجديدة التي يريد رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي مفاجأة المودعين بها؟ وهل صحيح انّ هناك مفاجأة في الاساس يرغب ميقاتي في مناقشتها مع المجلس النيابي الذي يباشر في دراسة الخطة الاقتصادية الانقاذية التي أقرّتها الحكومة بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي؟

تابع المودعون باهتمام شديد ما قاله كبير مستشاري رئيس حكومة تصريف الاعمال نقولا نحاس في إطلالته في برنامج «صار الوقت»، في شأن خطة سوف يعرضها ميقاتي على المجلس النيابي تتعلّق بموضوع اعادة الودائع الى أصحابها. والمقصود هنا الودائع التي تتجاوز قيمتها المئة الف دولار، على اعتبار انّ خطة التعافي تتعهد بإعادة كل الودائع التي تبلغ 100 الف دولار، وما دون. ما هي الخطوط العريضة لهذه الخطة الجديدة الموعودة؟ ولماذا برزت اليوم ولم تكن مُتاحة عندما تمّ التوافق على الخطة مع صندوق النقد الدولي؟ وهل هي جدية ام انها تهدف فقط الى ذرّ الرماد في العيون؟

 

لا شك في انّ ميقاتي الذي كان مستعجلاً عقد اتفاق أولي مع صندوق النقد، تساهَل الى أقصى الحدود في صياغة الخطة الاقتصادية، وفَوّض نائبه سعادة الشامي صلاحيات استثنائية لإنجاز اي خطة تحوز على موافقة صندوق النقد وتسمح بتوقيع الاتفاق الاولي معه. ومن البديهي ان ميقاتي لا يرغب في أي شكل من الاشكال، في تقويض أسس الاتفاق مع الصندوق، كما انه ليس في مصلحة لبنان ولا اللبنانيين المجازفة بهذا الأمر. لكن يبدو ان رئيس الحكومة المكلّف شعر بحجم المعارضة التي تلقاها الخطة، ليس على مستوى المودعين والمصارف والمؤسسات وارباب العمل فحسب، بل ايضا على مستوى الكتل النيابية التي تبدو بدورها غير مقتنعة بطريقة توزيع الخسائر، وشطبها عشوائياً، وحرمان المودعين من حقوقهم في سابقة قد تجعل لبنان نموذجاً للفشل على مستوى معالجة الأزمات المالية والاقتصادية، وطرق الخروج منها.

 

لكنّ السؤال المطروح اليوم، هل انّ ميقاتي قادر على تقديم اقتراحات جديدة تنسف أسس الخطة التي اتفق من خلالها مع صندوق النقد، وتعطي المودعين الامل في استعادة حقوقهم، ولو بعد حين؟

 

ما هو مؤكّد انّ نهج التعاطي مع موضوع المودعين قد تبدّل، وصار ميقاتي مقتنعاً بخطورة شطب الودائع. وبالتالي، أثمرت الاتصالات الدؤوبة التي جرت طوال الفترة الماضية، سواء في الداخل او مع صندوق النقد الدولي، نوعاً من التفاهم على تعديلات جذرية في عملية توزيع الخسائر تتيح الحفاظ على حقوق كل المودعين، أو على الأقل تسمح بتعويض هؤلاء، بحيث تصبح الخسائر محدودة، مع إلغاء مبدأ الشطب الذي اعتُمد في الخطة الحالية. وفي الوقت نفسه، سيتمّ تحاشي استخدام املاك الدولة أو مؤسساتها لضمان هذه التعويضات، وهذا الأمر يُريح صندوق النقد ويجعله جاهزاً للموافقة على التعديلات المطلوبة ضمن الخطة.

 

لقد تمّ تأجيل اعلان الطرح الجديد، من قبل ميقاتي اليوم الاثنين في المجلس النيابي، كما كان مقرراً، بسبب تعديلات اضافية جرى إدخالها على الخطة الجديدة، بحيث لم تصبح المسودة النهائية جاهزة بعد، لكن الموعد الجديد هو مبدئياً يوم الخميس المقبل. ويبدو انّ صندوق النقد الذي أخذ علماً بالاقتراحات الجديدة أعطى موافقته المبدئية عليها بعدما تأكد أنها لن تؤثّر سلباً على مسار تَعافي الاقتصاد بسرعة معقولة.

 

تستند الخطة الجديدة الى مبدأ توزيع الخسائر وفق توزيع المسؤوليات، وهي تتعاطى مع الملف على أساس انّ مصرف لبنان والدولة لديهما مسؤولية مشتركة في ضمان حقوق المودعين، وبالتالي، لن يكون المودع مسؤولاً عن ضياع الاموال بين المركزي والحكومة، خصوصاً ان القسم الاساسي من اموال المودعين موجود دفترياً في مصرف لبنان، والذي تشير ميزانيته المنشورة كل 15 يوما، الى مبلغ 87 مليار دولار كتوظيفات للمصارف لدى مصرف لبنان. وبالتالي، هذا المبلغ غير الموجود فعلياً اليوم، هو نقطة الارتكاز التي تفسّر حجم الخسائر القائمة حالياً، والتي جرى تقديرها بحوالى 73 مليار دولار. والجدل الذي دار بين حاكم مصرف لبنان والمصارف قبل فترة، كان في شأن كمية الدولارات الفريش التي دخلت في السنوات الأخيرة، وكمية الدولارات التي عادت وخرجت من المصارف امّا لتسديد التزامات في الخارج، او لتمويل السوق المحلي. أمّا التوظيفات الدولارية القديمة فلا علاقة لها بهذا الأمر، لأنّ الميزانية المنشورة توضحها بما لا يحتمل أي جدل حولها.

 

في النتيجة، المواطن والمودع يريد أن يأكل العنب، وما سيقترحه ميقاتي الخميس المقبل قد يوصل الى هذه النتيجة، اذا لم تحصل مفاجآت غير متوقعة.

انطوان فرح