الصين وأزمة الدين العالمي

عندما أطلقت الصين مبادرة طريق الحرير أو ما يسمى بـ(الحزام والطريق) عام 2013 كانت أهدافها واضحة، وهي الارتقاء بالبنى التحتية لعدد كبير من الدول، بما يخدم أهداف هذه الدول، دون إغفال أهداف ومصالح الصين. وهذا المشروع هو أكبر مشروع أطلقته الصين على الإطلاق، وهو أكبر مشروع تطلقه دولة واحدة للارتقاء بالبنى التحتية على مستوى العالم. ولا تستغرب زيادة المخاطر في هذا النوع من المشاريع العملاقة، خاصة مع مشاركة العديد من الدول النامية التي لا تملك تصنيفا ائتمانيا عاليا، ولكي تدعم الصين هذه المبادرة، توجب عليها توفير الأدوات لهذه الدول، مدركة أن أي احتمالية بعدم سداد القروض ترتفع فيها مقارنة بغيرها من الدول. ولكن الصين مولت هذه الدول بقروض مختلفة، بهدف المضي قدما في هذه المشاريع، ولم تشتك هذه الدول ولا غيرها آنذاك، ولكن الآن ومع أزمة الديون العالمية، بدأت أصابع الاتهام تتوجه إلى الصين، بما يسمى بـ(توريطها) للدول النامية والفقيرة بديون لا تستطيع سدادها.
بداية يجب توضيح مصالح الصين في تمويلها للدول النامية في مبادرة طريق الحرير، وهي مصالح متعددة وتختلف باختلاف الدول والقروض ولم يسبق للصين أو لأي دولة أخرى إنكارها. أولى هذه المصالح هي نجاح مبادرة طريق الحرير، وهو الذي يهدف إلى ربط الصين بدول العالم، سواء كانت هذه الدول سوقا للمنتجات الصينية، أو مصدرا للمواد الخام للصناعات الصينية. الفائدة الثانية هي أن العديد من المشاريع الممولة قامت بها شركات صينية، في وقت تشبعت فيه السوق الصينية ولم تجد هذه الشركات مشاريع تمكنها من العمل، فأوجدت الحكومة الصينية بهذه المبادرة مشاريع شغلت شركاتها وأضافت لاقتصادها بطريق غير مباشر. الثالثة هي الفوائد من القروض التي تعطيها الحكومة الصينية لهذه الدول، والصين متضررة بلا شك من تعثر الدول في السداد. هذه النقطة مهمة جدا، لأن البعض يروج إلى أن الصين ورطت الدول في قروض لا تستطيع سدادها، وذلك لكي تتمكن من الاستحواذ على منشآتها كالمطارات والموانئ وغيرها، والواقع أن فائدة الصين أكبر في حال سددت هذه الدول قروضها، بدلا من الاستحواذ على أصول قد تكلف الكثير لإدارتها بشكل فعال.
والمشكلة التي حدثت مؤخرا، هي عدم قدرة العديد من هذه الدول على سداد قروضها، لأسباب لا تخفى على الجميع، ومنها الجائحة وارتفاع مستوى التضخم مؤخرا. وهناك أسباب أخرى تتعلق بارتفاع معدل الفساد في بعض الدول، وغياب الحكمة في اتخاذ القرارات حول بعض الاستثمارات، والمثل المتداول في هذا حاليا هو سريلانكا التي مولتها الصين بـ12 مليار دولار في العقدين الأخيرين، وحيث بُنيت أبراج وملاعب دون وجود عوائد ذات قيمة مضافة للبلد. هذه المشكلة لا تنفي وجود مشاريع ذات جدوى في مبادرة طريق الحرير، لعل أبرزها هو خط سكة الحديد بين إثيوبيا وجيبوتي، والذي يمتد لـ750 كيلومترا، مختصرا الوقت المستغرق بين المحطتين من 3 أيام إلى 12 ساعة.
ويتضح من بعض الحالات، أن المشكلة تكمن في عدم تأكد الصين من جودة المشاريع أو جدواها قبل منح القروض، بل قامت بإعطاء قروض دون التأكد بشكل كامل من إمكانية السداد أو العوائد التي تساهم في السداد. ولذلك فإن العديد من الدول اليوم تواجه مشاكل في الإيفاء بديونها، مما قد يتسبب في أزمة ديون في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية. ووصلت قيمة القروض التي يتم التفاوض فيها لعامي 2020 و2021 إلى 52 مليار دولار، وهو ثلاثة أضعاف الرقم في العامين اللذين سبقاهما (16 مليار دولار). وهذا مثال على التدهور في القروض الصينية الخارجية التي وصلت إلى 118 مليار دولار في القروض الصينية منذ عام 2001.
لقد استخدمت الصين قوتها الاقتصادية في تمويل العديد من الدول، بالنظر إلى مصلحتها الشخصية أولا، وتوجهت إلى دول في حاجة لهذا التمويل وإلى مشاريع البنى التحتية، ولكنها الآن في مأزق قد يؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي. فهي تطالب هذه الدول بسداد ديونها، ولكنها قد تواجه مصاعب تماما كما حدث مع سريلانكا. والمثال الأقرب والذي سيتابع عن كثب في الأيام القادمة هو زامبيا، حيث تزيد القروض الصينية على ثلث الديون الخارجية للبلد. وسوف تتابع الدول النامية كيف ستتعامل الصين مع زامبيا لأنها قد تكون مثالا لما قد تفعله مع بقية الدول النامية. فهل ستتمكن الصين من معالجة هذه الأزمة بنفس الأسلوب الذي اتبعته حين قدمت هذه القروض؟ أم ستتمسك بحقها في السداد، معرضة العالم بأسره لأزمة ديون لم يواجهها منذ الثمانينات الميلادية؟

 

د. عبد الله الردادي

باحث سعودي متخصص في الإدارة المالية

مثل كل شيء في لبنان… Haircut مُبطّن

موضوع الـ Haircut ليس جديداً على لبنان، ونحن نسمع صدى هذه الكلمة والمشروع المخيف، منذ مؤتمرات «باريس 1 و2 و3». وقد ورد هذا الإقتراح في السابق من قبل المنظمات الدولية والبلدان المانحة لإعادة الهيكلية المالية والنقدية. هذا الكابوس أصبح اليوم حقيقة، لكن مثل كل شيء في لبنان، ليس رسمياً، إنما يُطبّق عملياً بطريقة مُبطّنة.

بالأرقام، نشهد اليوم بالنسبة الى ما يتعلق بالودائع، أكانت بالدولار الأميركي أو بالليرة اللبنانية، تطبيق الـ Haircut المبطّن، على كل الودائع منذ العام 2019 وحتى تاريخه. وقد بدأ تطبيق هذا المشروع المبطّن غير الرسمي من خلال التعميم 151 الذي سَعّر الصرف بحسب الدولار بـ 3900 ليرة، فيما كان سعر السوق السوداء حينئذ يزيد عن الـ 8 آلاف ليرة. فكان في هذا الوقت الـ Haircut المبطّن يبلغ نحو 50 % أو 60 % من الودائع بالدولار المصرفي. لكن وفق قيَم محددة. ثم تواصل ارتفاع سعر صرف السوق السوداء إلى قيَم مخيفة: بنحو 30 ألف ليرة اليوم، والتعميم 151 حُدّد بـ 8 آلاف ليرة. هذا يعني أن الـ Haircut أصبح حسب هذا التعميم 73 % من الخسائر المصرفية المباشرة على الأموال المسموح تحويلها.

 

ثم صدر التعميم 161 الذي يسمح بشراء الدولار بالليرة اللبنانية نقداً بحسب سوق منصة «صيرفة»، وبمبالغ محددة أيضاً. فهنا أيضاً يُطبّق الـ Haircut المبطّن بنحو 70 % من الخسائر. أما التعميم 158 فهنا أيضاً يُعطي مبالغ محددة بالكاش (بالدولار والليرة)، وبخسائر تُراوح بالنسَب المباشرة عينها (بين 70 % و75 %).

 

أما الـ Haircut الثاني الذي حصل على الودائع بالليرة اللبنانية، فهنا الخسارة الأولى تبدأ بقيمة الودائع بالعملة الوطنية التي خسرت أكثر من 95 % من قيمتها ومن قوة شرائها، وهذه الحقيقة المُرّة التي علينا أن نواجهها ونقبلها، فيما الخسارة الثانية من هذه الودائع بالليرة اللبنانية تحصل بصَرف هذه الودائع المصرفية بالكاش. هنا أيضاً يخسر المودع من جديد بقيمة 35 % ما تبقّى من هذه الودائع المتهالكة.

 

أما الـ Haircut الثالث فيتعلق ببيع الشيكات، وهنا الخسارة المباشرة والتي تقارب الـ 87 % من قيمة الشيك والوديعة. والسؤال الكبير هو: مَن يشتري هذه الشيكات المفقودة قيمتها واستعمالها؟ ولأيّ غاية؟

 

لا شك في أنه ما قبل الأزمة، ثمّة 50 مليار دولار من الديون في السوق في المصارف التجارية، لذا فإنّ حاملي هذه الديون لهم مصلحة بشراء بعض هذه الشيكات لإقفال ديونهم بأقل من 87 % من قيمتها الأساسية. لكن هناك أيضاً جهات عدة ومجموعات منظمة مجهولة وغامضة تشتري هذه الشيكات بطريقة هائلة، بهدف مبطّن وهو وضع اليد على القطاع المصرفي والمصارف بعد إعادة هيكلتها، لأنه برأيهم سيتملّكون أسهماً ضخمة ووازِنة للقطاع المصرفي الجديد من خلال مشروع الـ Bail-in أو استبدالها بحصص وازنة.

 

في النهاية، نذكّر بحزن أنّ الـ Haircut المبطّن يُطبق يومياً على كل الودائع والمودعين. فالخسائر تُراوح بين 70 % و95 %. أما الكلفة المعيشية فقد ازدادتبأكثر من 20 ضعفاً، حيث سُرقت وهُدرت أموال وجنى عمر اللبنانيين، واستفادت الأيادي السود مرة أخرى والإقتصاد الأسود.

د. فؤاد زمكحل