انشغل العالم في الأيام الأخيرة بقرار منظمة الدول المنتجة للنفط وحلفائها (OPEC+) تخفيض إنتاجها بمقدار مليوني برميل يوميا، حيث صوَّر الكثير من الساسة الأمريكيين والمحللين الغربيين الأمر وكأنه عمل عدائي تجاه أمريكا، أمريكا التي تسعى إدارتها الرئاسية الديمقراطية لتخفيض سعر المحروقات قبيل الإنتخابات النصفية في الشهر القادم، مما يعزز فرص نجاح الحزب في إستمرارية سيطرته على مجلسي النواب والشيوخ.
ذلك يبين أن رد الفعل الأمريكي ليس مدفوعا بمصلحة المستهلكين أساسا كما يُروج له، إنما هو قائم على مصلحة حزب لا تأخذ في الإعتبار ما هو أبعد من الأفق الزمني لانتخابات الشهر القادم، لذا لا نسمع أصواتا بنفس الحدة من الساسة الجمهوريين، أو من المتضرر الأكبر : الأوروبيون.. بإستثناء بريطانيا التي من المعلوم للمطلعين أنها لا تخرج عموما عن الخط الأمريكي الحاكم.
بالعودة لقرار خفض الإنتاج فأثره سيكون أقل من المعلن، إذ تسبب عزوف المؤسسات المالية والمستثمرين في السنوات الأخيرة عن توفير التمويل اللازم لزيادة إنتاج الوقود الأحفوري بدعوى محاربة التغيير المناخي في عدم قدرة الدول والشركات المنتجة المحافظة على مستويات إنتاجها، يضاف إلى ذلك العمليات التخريبية التي طالت بعض الدول المنتجة كالعراق وليبيا، مما نتج عنه تعطيل إنتاج OPEC+ بمقدار مليون برميل يوميا تقريبا، بمعنى أنه وإن جاء القرار بخفض مليوني برميل إلا أن مليون برميل كانت غير متاحة أصلا، وعليه فالقرار لن يخفض الإنتاج سوى بأقل من مليون برميل يوميا فعليا.
كما أن OPEC هي منظمة غير سياسية معنية بشؤون النفط، ففي حين أنه قد ينظر الآخرون إلى النفط كسلاح فهي تنظر إليه كسلعة عالمية أساسية تشكل جزءًا كبيرا من الموارد المالية للدول المنتجة له، وهدفها الأول هو إستقرار أسواق النفط في مستويات سعرية مريحة للمنتجين والمستهلكين، وتجنب التقلبات التي قد تنتج عن أحداث طبيعية أو إقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو غيرها، ذلك عبر السعي لإحداث التوازن بين الطلب والعرض من خلال زيادة أو تخفيض الإنتاج الكلي كيفما تطلب الأمر.
وإن نظرنا للمناخ الاقتصادي العالمي فهو متجه نحو مرحلة ركود، إذ مع خروج معدلات التضخم عن السيطرة ووصولها لنسب مكونة من رقمين لم تجد المصارف المركزية بقيادة الفيدرالي الأمريكي بدًا من رفع مستوى الفوائد بشراسة غير مسبوقة، وهذا نتاجه إستقرار معدل التضخم قبل أن يبدأ بالنزول، إلا أن أثره المؤكد أيضا هو إدخال الاقتصاد في الركود وهذا ما بدأ فعلا في الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية، ومع الركود والإغلاقات الكبرى الذي يشهدها الإقتصاد الصيني يأتي التراجع في الطلب على كل شيء.. ومن ضمن ذلك الطلب على النفط.
ويتجلى استشعار OPEC+ بمسؤوليتها تجاه الإقتصاد العالمي في رفعها للإنتاج بعد أن صعدت أسعار سلة خامها لتبلغ 128$ للبرميل في مارس 2022 بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، مما ساهم في إنخفاض سعر البرميل ليصل إلى 84$ للبرميل في سبتمبر 2022، وهو ما يقل عن سعر البرميل قبل اندلاع الحرب الذي كان عند مستوى 90$ في أواخر يناير 2022، لكن ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي حاليا والتنبؤ بركود يجمع معظم الدول الصناعية الكبرى يحتمان على المجموعة القيام بإجراءات وقائية إستباقية لإبقاء الأسعار في مستويات مقبولة، خصوصا عندما نعلم أنه بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي فدولة كالسعودية التي مثلت 37٪ من إجمالي إنتاج OPEC في يوليو 2022 بحاجة لأن يكون سعر البرميل 79$ من أجل ألا تدخل موازنتها العامة في عجز مالي.
وهنا نخلص لأن سعر البرميل المريح لمنتجي النفط هو في بحور من 80$ إلى 90$، فهذا مستوى يجنب الدول المنتجة العجز المالي ويمنحها السيولة اللازمة لتنفيذ خططها التنموية الوطنية التي تتوقعها منها شعوبها، كما أنه يمكنها من إجراء الصيانة اللازمة لمنشآتها النفطية التي تضمن استدامة إنتاجها بنفس القدرة والكفاءة مستقبلا.
أما عن إلقاء البعض بمسؤولية إرتفاع إسعار الوقود للمستهلكين في الدول الكبرى على OPEC+ فذلك لا يتعدى كونه ضربا من ضروب الخيال، إذ بيّن مسح أجرته OPEC في هذا العام أن كل دولار يدفعه المستهلك لليتر في محطة البنزين كمتوسط في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) يتوزع كالتالي: 30٪ للمنتج و21٪ للناقل والمكرر والموزع و49٪ للحكومة المحلية في شكل ضرائب، مما مفاده أن تلك الحكومات لها هامش 49٪ من سعر الليتر يمكنها أن تخفضه بكل يسر من دون أن تستجدي معونة أي طرف آخر، قرارها بيدها وحدها!
الصورة بسيطة وواضحة وليس بها التعقيد الذي يحاول أن يسبغه عليها البعض، الدول المنتجة للنفط تراعي مصالحها وهي بهذا تراعي مصالح العالم الأجمع، أي مصاعب تواجهها ستترجم في نقص مستقبلي في الإنتاج مما سيشكل مصاعب للعالم أجمع، حصافتها في قراراتها يجب أن تكون مشكورة.. لا مذمومة لأسباب خاصة بدولة بعينها أو حزب في أرض ما، هي لا تتدخل لتمكين حزب على آخر، فعل كذلك مخالف لعقيدتها غير السياسية.. بل إنه تدخل مؤثم قانونا في شأن محلي بحت.
ناصر بن حسن الشيخ، إقتصادي إماراتي