مفاوضات شاقة… والصندوق مُصرٌّ على شطب الودائع

بعيداً من الأضواء، شهدت العاصمة الأميركية في الاسبوع المنصرم، مفاوضات حثيثة بين جهات لبنانية ومسؤولين في صندوق النقد الدولي، من اجل التوافق على خطة تُنقذ الاقتصاد، من دون أن تقضي على المودعين. وحتى الآن، المفاوضات متعثّرة، والصندوق متمسّك بسياسة شطب الودائع.

بصرف النظر عن تقييم مضمون المؤتمر الصحافي الذي عقده وزير المالية يوسف الخليل، وبدا أشبه بخطاب وداعي، ما هو لافت في هذا المؤتمر، انّ الكلام الذي قيل لم يكن محصوراً بتعداد الإنجازات، أو تبرير الإخفاقات، بل الأهم انّه تضمّن نوعاً من التوصيات، التي تصلح كخارطة طريق في مرحلة إعداد خطط التعافي، وتوزيع الخسائر، وتقرير مصير الناس.

 

هناك ملف يستحق التمحيص لأنّ مقاربته وُضعت على نار ساخنة، والطريقة التي ستُعتمد في معالجته سوف تطبع المرحلة المقبلة لعقدين أو ثلاثة الى الامام. إذ أصبح معروفاً، انّ خطة الإنقاذ تُناقش حالياً مع صندوق النقد الدولي، وهي مرتبطة بطبيعة الحال بقانون اعادة هيكلة المصارف، وصار معروفاً ايضاً، انّ مصير المودعين، الصغار والكبار منهم، سيتقرّر وفقاً لفلسفة توزيع الخسائر، أو تقاسُّم التعويضات.

 

ما قاله وزير المالية، وهو بطبيعة الحال، مُطّلع تماماً على سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ويعرف الوضع في مصرف لبنان، والوضع الحقيقي للقطاع المصرفي ايضاً. والأهم انّه يعرف كيف تبدّدت الاموال في المركزي، ومن هي الجهة المسؤولة عن ذلك. وقد سمّاها الخليل بلا مواربة: انّها الدولة أولاً، أو «ما تبقّى منها»، وفق تعبيره. وهو بذلك، أراد إعادة تسليط الضوء على تحديد المسؤوليات، للانطلاق منها في عملية إعادة الودائع. الدولة، المركزي، المصارف، والمودعون الكبار…

 

عندما طالب الخليل بأن يرتّب لبنان الرسمي أوراقه في المفاوضات مع صندوق النقد، انما كان واضحاً لجهة القول، إذا «قمنا بواجباتنا كما يجب، ستكون خطتنا هي مادة التفاوض مع صندوق النقد. وإلّا، أخشى ان تقتصر مساهمتنا على مناقشة افكاره وعلى انتظار اهتمامه بنا كلبنانيين».

 

هذا الموقف يأتي بالتزامن مع المفاوضات التي تُخاض مع صندوق النقد، ويبدو انّها مفاوضات صعبة وقاسية، لأنّ الصندوق، وفي إطار سياسته الكلاسيكية، يفضّل سياسة شطب الديون، او تقليصها إلى الحدّ الأدنى، لضمان نجاح خطط التعافي، بصرف النظر عن الأضرار الجانبية التي قد يتسبّب بها هذا الأمر. والصندوق بات يعتبر الودائع بمثابة ديون ينبغي التخلّص منها.

 

ويبدو الرئيس نجيب ميقاتي محشوراً في موقف لا يُحسد عليه، إذ أنّه مرّر الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد بطريقة سريعة إرضاءً للفرنسيين الذين ضغطوا عليه من اجل توقيع الاتفاق قبل الانتخابات النيابية في ايار. وكان يعتقد، في عقله الباطني، انّه يشتري الوقت بانتظار الظروف المناسبة لتغيير الخطة، والتي أشرف عليها نائبه سعادة الشامي. ولاحقاً، أطلق ميقاتي الوعود بتغيير الخطة للحفاظ على اموال المودعين، ونفّذ وعوده جزئياً من خلال الافكار الجديدة التي بقيت غامضة، وكأنّها تخشى مقاربة الحقائق. وبما أنّ الشامي، بات عاجزاً عن إقناع صندوق النقد بضرورة تغيير الخطة، وبما أنّ البعض بات مقتنعاً بأنّ الشامي أقرب إلى الصندوق منه إلى الموقف اللبناني، قرّر ميقاتي اللجوء الى حاكم مصرف لبنان علّ وعسى. وهكذا أُسندت مهمة محاولة إقناع الصندوق إلى مصرف لبنان، الذي أرسل موفديه للاجتماع مع مسؤولي الصندوق في واشنطن.

 

حتى الآن، ورغم الجهود التي يبذلها المفاوضون من قِبل البنك المركزي، والذين زاروا واشنطن لإقناع مسؤولي صندوق النقد باعتماد نهج يتيح إعادة الودائع تدريجياً إلى أصحابها، من خلال مساهمة الدولة في التعويض، من دون ان تتأثر ايراداتها، ومن دون بيع أيٍ من أصولها، إلّا أنّ المفاوضات لم تصل إلى نتيجة بعد. ويبدو انّ المسؤولين في الصندوق لا يزالون متعنتين، ويريدون الإبقاء على الخطة السابقة، التي تعتمد مبدأ شطب الودائع، والاكتفاء بإعادة جزئية مُقسّطة للودائع الصغيرة (مئة الف دولار وما دون). وهم يرفضون مبدأ إنشاء صندوق سيادي أو استثماري يتيح إشراك القطاع الخاص في ادارة أصول الدولة، بهدف تجويد الأداء وزيادة الإيرادات.

 

هذا التعنّت، وإذا لم يتبدّل، سيؤدّي الى ضياع الودائع، ولن يكون مضموناً انّ المودعين الصغار سيحصلون على أموالهم، لأنّ مسألة المصارف التي ستتوقف بسبب الإفلاس، لم تتمّ معالجتها بعد، ولم يتمّ الاتفاق على الطريقة التي ستُعتمد لدفع ودائع زبائن هذه المصارف. والأخطر، انّ النهج الذي يريده صندوق النقد، سيؤدّي إلى افلاس عدد كبير من المصارف. ولمن يقول انّ افلاس المصرف لا يؤدّي بالضرورة إلى خسارة المودع لأمواله، يُطلق وزير المالية المعادلة التالية: «الاكتفاء بإفلاس المصارف، لن يعني أكثر من إفلاس المودعين، كبارهم وصغارهم».

 

المفاوضات مع صندوق النقد لا تزال قائمة، ويمكن كسب الجولة من خلال توحيد المواقف والاتفاق على خطة واضحة لإعادة الودائع، من دون تحميل المواطن وزر هذا الحل، لأنّ الجميع يتفق على أنّ أصول الدولة ليست للبيع، وإيرادات الدولة هي للجميع، وينبغي العمل على زيادتها، لتحسين المالية العامة. ولكن ذلك لا يمنع اتخاذ قرار صون حقوق المودعين، على أمل ان يساعد من يدّعي النطق باسم المودعين، في إنجاز المهمة، من خلال الابتعاد عن الشعبوية في متابعة قضيتهم المحقة.

أنطوان فرح

الاقتصاديات الملونة!

لكل زمن مقام ومقال، المقام يشير إلى حركة الكون وتوازناته المحسوسة والملموسة، وأحداثه العنيفة والسعيدة؛ أما المقال فهو: كيف يوصف الزمن كله بما فيه من تفاعلات فيها الكثير من الكلمة والسلاح؟
المقام كثيراً ما يأخذنا بعيداً حتى نستغرق فيه، وفي أوقات يبدو أمراً مثل الحرب الأوكرانية مستبداً بساعاتنا، ومن عجب أننا نصف كل شيء فيها في غدوِّه ورواحه، وفي دمه ومائه، بأنه يعبر عن حالة من «عدم اليقين» الذي بات عنواناً شائعاً في دوريات غربية. ولكنَّ المقال هو الآخر يزخر بالأوصاف الذي يفتننا كاملها إذا حدث، أما نقصها وقصورها فهو ذنب ومعصية. هذه المرة سوف أحاول أن أكون عادلاً في القول، وهو على أي الأحوال يقع في مجال لا أعرف فيه إلا القليل جاء قبل أكثر من نصف قرن في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة؛ ومن أحاديث مع اقتصاديين من الأصدقاء ومن أتاح لهم الزمن إدارة اقتصاد دولة. وحتى لا تزيغ الأقوال بعيداً عن المساحة المعهودة، فإن الأمر يتعلق بأوصاف الاقتصاد؛ وفي وقت من الأوقات كانت للمحاصيل الاقتصادية ألوان ذهبية. وفي مصر فإن قيمة القطن زادت في الخيال عندما أُطلق عليه «الذهب الأبيض»؛ وفي السعودية ربما كان الأمر صحيحاً عندما قام اقتصادها على النفط الذي صار «الذهب الأسود». وكان الظن أن الألوان سوف تنتهي ما بين الأبيض والأسود، وكلاهما فيه سحر، ومن الليل والفجر سهد ورجاء؛ ولكن ما حدث أنه خلال الأعوام الأخيرة تعددت الألوان والاقتصاد واحد: عرض وطلب.
لم يعد لون الاقتصاد قرين ندرة محصول أو سلعة، وإنما قرين شبكة من العلاقات والأنشطة الاقتصادية وشكل من أشكال الطاقة. أنظر لما بات يسمى الاقتصاد «الأخضر»، ومرادفاته «النظيف»، والصديق للبيئة؛ وأصله في الحقيقة ذهبي يعود إلى الطاقة الشمسية أو «السولار» التي يمكن تجميعها بحيث تدير نفسها إلى ما لا نهاية. وفي عام 2010 زرتُ اليابان، وكان من ضمن العجب الذي رأيته زيارة إلى المخترعات الجديدة لشركة «باناسونيك» فوجدت من بينها اختفاء شاشة التلفزيون التي باتت حائط المنزل، وتستطيع عن طريق يديك أن تتحكم في حجم الشاشة التي تريدها طولاً وعرضاً وبنفس الدرجة من وضوح وتركيز الصورة. وحينما سألت: كيف تم ذلك؟ قيل لي: لأننا –أي العلماء- أصبحنا أكثر بساطة الآن. ولكن الفكرة المغرقة في بساطتها كانت المنزل الذي يغذي نفسه بالطاقة، فهو يأخذ قدراً صغيراً من الطاقة الشمسية التي تمر فوق سطحه، ولكنه في النهاية يعيد تدوير الطاقة طوال الوقت عن طريق تحويل الضوء الذي يخرج من المصابيح والطاقة التي تخرج من الثلاجات والمواقد وأجهزة الكومبيوتر وشاشات التلفزيون لكي يتم استخدامها مرة أخرى في نفس البيت. «الاقتصاد الأخضر» لا يأتي فقط من الشمس وإنما يمكن أن يكون صنواً للهيدروجين كمصدر للطاقة التي تحرك السفن وربما تنير مدناً بأكملها.
«الاقتصاد الأزرق» تعلق دائماً بالبحار حيث تدور السفن العملاقة حاملة السلع والبضائع فيما يشبه مدناً عائمة؛ هو اكتشاف جديد نسبياً بعدما حلت العولمة بالكون كله، وأصبح للبحر ثرواته الخفية التي تكتشف نفطاً وغازاً وسياحة، والأخرى المعلنة في شكل نقل. شركة «ميرسك» العالمية الدنماركية تشكل جزءاً مهماً من الناتج المحلي لدولة الدنمارك، وفي الزمن القديم عندما تحركت الإمبراطوريات الكبرى للبرتغال وإسبانيا لاقتسام العالم قام ذلك على أساس محطات اقتصادية ينتقل بينها التجار ناقلين الحنطة والتوابل ومعها الأفيون أيضاً.
حديثاً في شرق البحر الأبيض المتوسط تَشكَّل منتدى شرق البحر المتوسط وضم سبع دول هي: مصر وفلسطين والأردن وإسرائيل واليونان وقبرص وإيطاليا. ورغم أن الغاز وتوليده وتصنيعه وتسييله هو الأساس الاقتصادي للمنتدى، فإن شرق البحر المتوسط هو الذي جعل الاقتصاد قائماً، فالجوار البحري الأزرق خلق الإمكانيات والتفاعلات التي باتت مؤثرة ليس فقط على اقتصاديات الدول المعنية، وإنما على دول أخرى توصلت هي الأخرى إلى اتفاق بين لبنان وإسرائيل، قد تكون سبباً في إنقاذ دولة تنهار مقوماتها، وخلق فرص «إبراهيمية» أخرى للاستقرار في المنطقة إذا ما جرى استخراج غاز غزة. الاقتصاد «الأزرق» هو إطار تعاوني في البحر، وكما حدث في شرق المتوسط يمكن أن يحدث في شمال البحر الأحمر، حيث السياحة والعمار هما مصدر اقتصادي مهم.
ألوان الاقتصاد تخلق فرصاً كثيرة بحكم ما تجمع من علاقات لا ترتبط بالضرورة بإقليم معين؛ «أوبك بلس» تجمع بين دول كثيرة جميعها تُنتج الذهب «الأسود».
هي علاقة اقتصادية حاولت الولايات المتحدة تجاوزها بلوم الجماعة لأنها عزمت على خفض الإنتاج النفطي الذي كان ضرورياً لإعادة التوازن لسوقٍ زعزعتْها حربٌ لم يردها أحد، ولم يصوِّت عليها أحد. وتداخل معها ليس فقط النفط، وإنما الغذاء أيضاً فبات هناك اقتصاد «ذهبي» للقمح الذي بات سلعة نادرة. لم تعد الحرب حرباً «جيوسياسية» خافت فيها روسيا من تمدد حلف الأطلنطي؛ ولا حرباً «جيواقتصادية» جرت فيها المقاطعة وقطع علاقات الغاز والنفط والطاقة، وإنما هي حرب على الغذاء، على الحياة. ظهر أن أوكرانيا مصدر أساسي للسلعة «الذهبية» التي تعتمد عليها دول كثيرة في الشرق الأوسط. الألوان صارت صورة أخرى من صور التعقيد الذي تتداخل فيه أو تتعارض المصالح فقط؛ وإنما الألوان أيضاً.
الموت والحياة ظهر مؤخراً أنهما يدخلان نوعاً من «الاقتصاد البنّي» الذي نبع من المومياوات المصرية القديمة التي عند طحنها يخرج منها لون متميز دخل في أعمال فنية كثيرة. في دورية «الأصول القديمة أو Ancient Origins» التي صدرت في 15 أكتوبر (تشرين الأول) الجاري، عددٌ كامل عن هذه الثروة القادمة من الموت. لم تعد المومياوات مجرد أجساد محنطة يطل عليها البشر في متحف الحضارات بقاهرة الفسطاط، حيث ترقد آثار قادة عظام يزورهم سائحون من أركان المعمورة؛ أو تُستخدم للتسلية في أفلام مرعبة تعكس ما هو شائع عن لعنة الفراعنة. الآن أصبحت المومياوات نوعاً آخر من الاقتصاد غير السياحي أو حتى التاريخي، وإنما باتت مصدراً للدواء والأهم لنوع نادر من اللوحات الفنية «البُنية» التي قُدر الغِرام منها بمقدار الذهب. وحينما حلت البعثات الغربية على مصر في القرن التاسع عشر لم يكن كل القصد اكتشاف حضارات قديمة، أو حتى سرقتها من المسلات إلى المومياوات؛ وإنما كان فيها للفنانين نصيب وحظ عندما وجدوا أن طحن المومياوات يؤدي إلى استخراجٍ «بنّي» نادر ليس كمثله في «البنّيات» شيء.
ما حدث أنه بات يُستخدم في رسم لوحات عظمى لرجالات عظماء ونساء عظيمات، وبات معلوماً أن اللوحة التي يُستخدم فيها طحين المومياء سوف تكون الأعلى سعراً. أصبحت المومياوات صناعة فوق قيمتها السياحية والتاريخية، وقيمتها العظمى جاءت من لون طحينها الذي بات الغرام منه يساوي ثقله ذهباً. أصبح اكتشاف المومياوات صناعة في معظمها سرِّي، ولكنها باتت علنية في المتاحف الكبرى والدوريات الفنية.

عبد المنعم سعيد