من مفارقات الحياة الكبرى أن صناع الشيء هم أول من يكتوي بناره. الشركات العملاقة في مجال الذكاء الصناعي آخذة في تسريح عمالها في حدود 10 في المائة أو أعلى قليلاً. الأرقام المعلنة من شركات مثل «أمازون» و«غوغل» و«مايكروسوفت» وغيرها، تشير إلى أزمة كبرى في مجالات عمل تلك الشركات، وهي التي تصنع الكثير من تطبيقات الذكاء الصناعي بدرجاته المختلفة، والتي كثيراً ما بشّرت بأن نشر تلك التطبيقات في مجالات الحياة المختلفة سيؤدي إلى تغيير نمط الحياة البشرية من جانب، وتحسين أوضاعها من جانب آخر، عبر تيسير إنجاز الأعمال القائمة أساساً على التعامل مع البيانات المفرطة، ويصعب على البشر أن يتعاملوا معها بسرعة وكفاءة، بينما تطبيقات الذكاء الصناعي تفعل ذلك في أسرع وقت وبكفاءة عالية. والأهم من ذلك كله هو أن بعض تلك التطبيقات يمكنها أن تتنبأ أو تتوقع في ظروف معينة بسيناريوهات أو تطورات محددة، تمثّل تنبيهاً لأصحابها لاتخاذ خطوات استباقية منعاً للخسارة أو احتوائها.
شركات التكنولوجيا الكبرى تمتلك مثل هذه التطبيقات الذكية القادرة على التوقع بناءً على تحليل إحصائي معقَّد لكمٍّ هائل من البيانات المتراكمة عبر سنوات طويلة، فلماذا لم تتوقع تلك التطبيقات حدوث أزمة قد تسبب لها خسائر بشكل أو بآخر؟ يمتد هذا التساؤل إلى أن تلك الأزمات ليست مرتبطة بقدرات الشركة وحسب، بل أيضاً بقدرات المنافسين القادرين على ابتكار برامج ذكية تفوق ما لدى الشركات العملاقة، والأمران معاً يفسران إلى حد ما قرارات تسريح نسبة لا بأس بها من العاملين المخضرمين من المبرمجين والمخترعين والمنظمين والإداريين في تلك الشركات العملاقة.
كل البيانات الصادرة عن تلك الشركات العملاقة تؤكد أن تراجع الاقتصاد هو السبب الرئيسي، وتلك إجابة منطقية إلى حدٍّ ما، ولكنها ليست إجابة كاملة الأركان، والسبب في اعتقادي أن ثمة خللاً كبيراً بات يصيب تلك الشركات من حيث اعتمادها على تطبيقات ذكية من صنعها، قدم لها تطمينات مستقبلية بأن عملها سيظل في صعود أياً كانت البيئة الكلية التي تعمل فيها تلك الشركات، ومن ثم أخذت في التوسع وفي الإسراع بإبداع برامج وتطبيقات أكثر ذكاءً تقترب من مستوى التعلم الذاتي الأولي، في حين أن البيئة الكلّية من مجتمع وقيم وأنماط حياة مختلفة ومتناقضة أحياناً، ومنافسات قاسية مع الفاعلين الآخرين، تبدو ليست مؤهلة لكل تلك التطبيقات الذكية التي يتم العمل عليها بهدف نشرها وجعلها نمط حياة جديداً للبشرية كلها، وليس فقط لمجتمعات الدول الصناعية.
يُذكر هنا أن مستوى التعلم الذاتي لبعض البرامج وتطبيقات الذكاء الصناعي قائمة أساساً على فكرتين رئيسيتين؛ الأولى أن الآلة من خلال خوارزمية معقدة ومتشابكة ومعادلات إحصائية تتوالد ذاتياً، يمكنها أن تكتسب معارف جديدة توجه عملها دون تدخُّل بشري، وهو ما يدخل في نطاق الآلات المستقلة، وأبرز استخداماتها المستقبلية يُخطط لها أن تكون عسكرية بالأساس كالروبوت المقاتل، وهناك نماذج أولية منه لدى الصين وروسيا والولايات المتحدة. أما الثانية فهي الآلات والتطبيقات التي تعتمد معادلاتها الخوارزمية أساساً على كمِّ البيانات التي تتوفر لها، سواء من خلال ما تجمعه وفقاً للتصميم الأساسي الذي أنشأ عملها، أو من خلال قاعدة بيانات خاصة تمتد لمسافة زمنية معينة ولا تتجاوز تلك المدة الزمنية، ويتم توفيرها مسبقاً بتدخل بشري. وكلا النوعين يقوم بما تُعرف بالتغذية الارتجاعية الذاتية، وهو ما يوفر مساحات من الاستجابة تختلف وفقاً لطبيعة البيانات التي تعتمد عليها. وبالتالي فإن حجم البيانات وطريقة الوصول إليها والمدى الزمني يجعل النتائج مختلفة. ففي أحد التطبيقات الذكية التي يمكنها تحرير النصوص بدقة ويُدعى «أبوت»، وهو امتداد لتطبيق «شات جي بي 2»، والذي أظهر قدرة على تقديم إجابات منطقية لمدى واسع جداً من الأسئلة البشرية، اعتمد على قاعدة بيانات تقف عند عام 2021، ولم يستطع أن يجيب عن أسئلة حدثت بعد هذا التاريخ. مما يؤكد أن التطبيق الذكي، حتى وإن تعلم ذاتياً، فهو رهْنٌ بما يتاح له من بيانات يتعامل معها بقدر من الحرفية الإحصائية التي تمكّنه من استنساخ إجابات سبق أن توصل إليها البشر في حياتهم الطبيعية.
النوع الأول الذاتي يثير بدوره مشكلات أخلاقية وفكرية وفلسفية كبرى، من قبيل: هل يعاقَب الروبوت المقاتل إن أتى بفعل مُجرَّم وفق القوانين والمعاهدات الدولية التي تنظم الحرب مثلاً؟ وما هذا العقاب لآلة صماء؟ وهل يخضع مبرمجو هذه الآلة للعقاب؟ وما حجمه؟ وقِسْ على ذلك الكثير من الجدل بين العلماء في غيبة عن الرأي العام إلا فيما ندر.
القاعدة الرئيسية هنا تتعلق بحجم البيانات، ومَن يجمعها، وكيف يصل إليها، وقواعد تنظيمها، ومَن يستغلها، ولماذا؟ البيانات هي بذور المعلومات المتناهية الصغر، وعبر تراكمها تتحول إلى غنيمة كبرى، ووفقاً لعالم ذكاء صناعي صيني، فهي نفط العالم الجديد؛ تُمكِّن مالكها من تحقيق السبق في القيادة والهيمنة مع منافسيه. ومن جانب آخر فإن تلك البيانات عند معالجتها بتطبيقات الذكاء الصناعي ليس بالضرورة أن تنتج النتائج نفسها، فحجم التحيز والشفافية والشمول والهدف الضمني الذي صيغت على أساسه الخوارزمية الذكية في التطبيق المعنيّ، تلعب الدور الأكبر في تحديد النتائج المرجوّة. ولعل التطبيق الأكثر حضوراً في هذا المجال المتعلق بالتعرف على الوجوه، الذي طوّرته شركات صينية للتحكم في انتشار وباء «كوفيد» مطلع 2020 واستهدف أساساً مراقبة الجموع في كل تحركاتهم، ووفّر ذلك كماً هائلاً من البيانات للحكومة الصينية عن كل مواطن صيني تقريباً. مما يدعم الشمولية بمعناها الواسع. إيران من جانبها، بدأت تطبيق هذا البرنامج للتعرف على المحتجين والوصول إليهم واعتقالهم، مما يدعم بقاء النظام وشموليته من جانب، ويسرع إجراءات الاعتقال للمحتجين من جانب آخر، ومن ثم يُنهي أي تمرد على المدى القريب. لكنه لا يفيد في إصلاح النظام على المدى المتوسط.
بهذا المعنى يمكننا أن نفهم القلق الذي يجب أن يعتري البشر كلهم، ويدفعهم إلى البحث الجماعي لصياغة اتفاقية أو معاهدة دولية لحماية البشرية من التحيزات المقصودة في تطبيقات وبرامج الذكاء الصناعي. وبالقطع فإن الدور الأكبر الذي ستلعبه الدول الصناعية الكبرى في صياغة مثل هذه المعاهدة سيكون مشفوعاً بمصالحها ومصالح شركاتها العملاقة المدنية والعسكرية بالدرجة الأولى. أما الدول والمجتمعات الأضعف في صناعة الذكاء الصناعي فسيقلّ، إن لم ينعدم، دورها تماماً. وهنا تبدو معضلة الأطراف الأخرى، لأن أي معاهدة دولية لمجالات لا تختبرها الغالبية العظمى من الدول والمجتمعات لن تكون ذات معنى، ومن ثم ستقل فاعلية هذه الوثيقة الدولية إن تم التوصل إليها، وغالباً ستكون مجالاً لابتزاز تلك الدول لاحقاً من قِبَل الدول المحتكرة للذكاء الصناعي.
د. حسن أبو طالب