أعلنت «إدارة حماية البيئة» الأميركية في منتصف شهر أبريل (نيسان) الحالي عن مشروع قانون لتقليص الانبعاثات الكربونية بمنع بيع سيارات محرك الاحتراق الداخلي (التي تستعمل البنزين والديزل) المصنوعة خلال الفترة ما بين 2027 و2032. وللتأكيد على أهمية المشروع لإدارة بايدن، أعلن البيت الأبيض بدوره عن مشروع القانون الذي يهدف إلى «حماية الصحة العامة» بتقليص انبعاثات ثاني أكسيد الكربون نحو 10 مليارات طن بحلول عام 2055، وإجبار المستهلك الأميركي على شراء السيارة الكهربائية، ومن ثم توفير شراء الوقود لكي يوفر نحو 12 ألف دولار خلال عمر السيارة.
وكما هو متوقع، انتقد الجمهوريون في مجلس النواب الأميركي مشروع القرار، متهمين الإدارة الديمقراطية بأنها تحاول أن تفرض قسراً على المستهلك الأميركي شراء سيارة من نوعية محددة، مما يعني أن الإدارة تخرق «إعلان حقوق الإنسان والمواطن الأميركي». فهذه السابقة، حسب بعض النواب الجمهوريين، ستضع المواطن أمام خيارين، إما شراء سيارة كهربائية أو لن يكون بإمكانه شراء سيارة بتاتاً. كما احتج نواب جمهوريون آخرون بأن مشروع القانون هو بمثابة خلق سابقة «تسمح للحكومة بأن تفرض على المواطن السلعة التي تختارها وتمنعه من شراء غيرها، بحيث إنها ستستطيع مستقبلاً، مثلاً، إجبار المواطن على شراء أنواع من الأطعمة ومنع غيرها».
من ثم، حسب النواب الجمهوريين، يشكل مشروع القانون هذا الذي لا يزال يحتاج إلى موافقة السلطة التشريعية، وحيث هناك أغلبية للحزب الجمهوري في مجلس النواب، «التفافاً على القوانين الفيدرالية بالضغط على السكان لشراء السيارة الكهربائية إجبارياً».
وانتقد النائب الجمهوري دان نيوهاوس التوجه، مصرحاً: «لقد حان الوقت لكي تتوقف الحكومة عن التدخل المتزايد في حياتنا، وحماية استقلالنا الطاقوي». وأضاف النائب الجمهوري من تكساس تشيب روي، أن «سياسة إدارة بايدن الراديكالية لحماية البيئة تحاول طي ماكينة الاحتراق الداخلي إلى عالم النسيان، ويكفي هذه التخيلات الطاقوية». وأضاف أنه سيصبح من الضروري على مجلس النواب الجمهوري استعمال الموازنة لإنهاء سلاح البيروقراطية الفيدرالية هذا، ابتداء بمراجعة موازنة «إدارة حماية البيئة».
من الجدير بالذكر، كان الرئيس بايدن قد وقَّع قراراً إدارياً في شهر أغسطس (آب) 2021 يطلب فيه من «إدارة حماية البيئة» اقتراح مشروع قانون لترشيد استهلاك الوقود وتقليص معدلات الانبعاثات لأجل «معالجة أزمة المناخ». وبالفعل أوصت «إدارة حماية البيئة» باتخاذ سياسة جديدة تقضي بتغيير قرارات سابقة كان قد تم تشريعها في عهد إدارة الرئيس ترمب. ونصت القرارات عندئذ على تحديد انبعاثات الاحتباس الحراري الصادرة عن سيارات الاحتراق الداخلي، التي يتم إنتاجها خلال الفترة ما بين عامي 2023 و2026. ووصفت الإدارة هذه القوانين في حينه بأنها «الأكثر طموحاً».
يكمن التحدي الأهم لضعف مبيعات السيارة الكهربائية في الوقت الحاضر، في سعرها العالي مقارنة بسعر سيارة محرك الاحتراق الداخلي. إذ يزيد في بعض الحالات سعر السيارة الكهربائية عن مثيلتها لسيارة الاحتراق الداخلي نحو 10 آلاف دولار.
وإلى جانب الفرق في الأسعار، أشار استفتاء لوكالة «أسوشييتد برس» مؤخراً إلى أن المستهلك الأميركي يتردد في شراء السيارة الكهربائية لسببين: أولاً، ارتفاع السعر بالنسبة لسيارة الاحتراق الداخلي. وثانياً، العدد الضئيل لمحطات الشحن للسيارة الكهربائية وابتعاد المسافات فيما بينها.
وبحسب «أسوشييتد برس»، فإن نحو 60 في المائة من الذين تم استفتاؤهم قرروا تأجيل شراء السيارة الكهربائية لارتفاع سعرها، ونحو 50 في المائة أجلوا قرارهم بشراء السيارة الكهربائية لعدم توفر محطات شحن كهربائي كافية أو لعدم قرب الواحدة من الأخرى. وأجاب 19 في المائة بأنه من المحتمل جداً عدم شرائهم لسيارة كهربائية في المستقبل المنظور.
ويتضح أن أسباب التردد في شراء السيارة الكهربائية يعود إلى الوقت اللازم لشحنها بالكهرباء، الذي يزيد 5- 10 مرات عن وقت تزويد الوقود لسيارة الاحتراق الذاتي. كما يتخوف البعض الذين يقطنون في مناطق بعيدة عن سكنهم من نفاد الطاقة المتوفرة في سيارتهم، حتى لو كانت مشحونة بنحو 20 في المائة من طاقتها، وذلك خشية نفاد الطاقة في الطرق السريعة الطويلة، وعدم تمكنهم من الوصول إلى محطة قريبة للشحن، أو الحصول على المساعدة الممكنة خارج طرق المدن.
من جهتها، تتوقع «إدارة حماية البيئة» الأميركية أن نحو 54 في المائة من السيارات الجديدة في الولايات المتحدة ستكون كهربائية بحلول 2030. وستمثل نحو 67 في المائة بحلول 2032.
الأرشيف الشهري: أبريل 2023
مزايا وعيوب الدولرة الكاملة
كبار قادة الصين: الاقتصاد ليس لديه ما يكفي من الدوافع “الداخلية” !
دعونا نحارب في سلام!
في حديثه السنوي الموجه لـ«الجمعية العامة» عن أولويات العمل في العام الجديد، استند أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، إلى مؤشر طوّرته مجموعة من العلماء، من بينهم ألبرت أينشتاين، في عام 1947، لقياس مدى اقتراب العالم من نهايته بفعل البشر. ويتم تحديث هذا المؤشر دورياً من قبل مجموعة من الخبراء والعلماء، كان من بينهم على مدار السنين أربعون من الحاصلين على جائزة نوبل في فروع العلم المختلفة، ويتم إصداره في نشرة بعد تحليل العوامل المهددة لاستقرار العالم، ومنها التهديدات النووية وتغيرات المناخ وغيرها من أزمات كبرى.
ووفقاً لآخر تحديث لهذه الساعة الرمزية لنهاية العالم، فعقاربها الآن تشير إلى 90 ثانية قبل منتصف الليل، وعلى سبيل المقارنة ففي عام 1991 مع نهاية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة وتوقيع معاهدة تخفيض الأسلحة الاستراتيجية والترسانة النووية للبلدين أرجعت عقارب ساعة النهاية إلى 17 دقيقة قبل منتصف الليل، وعندما اندلعت جائحة «كورونا» توقف المؤشر في عام 2021 عند 100 ثانية قبل منتصف ليل العالم.
وفي عالم يعاني من أزمات وصفت مؤخراً بالمتعددة والمستمرة والمعقدة، تشمل قائمتها التي لخصها الأمين العام حروباً وتدهوراً في المناخ وتداعيات للجوائح والأوبئة وزيادة في انتشار الفقر المدقع وتفاوتاً حاداً في الدخول بين الدول وداخلها، فضلاً عن صراعات جيوسياسية مقوضة لجهود التعاون الدولي ومهدرة لمقومات الثقة بين الدول. وفي حين أن لدى العالم الحلول الفنية الناجعة لهذه الأزمات المتواترة وما تتطلبه من موارد مالية وتكنولوجية وتقنية فلا توجد أي أزمة من الأزمات الراهنة من دون حلول عملية أو اقتراحات متكاملة للتعامل معها والقضاء عليها، ولكن يعوقها غياب الإرادة وانحيازات بائسة قصيرة المدى تسهم في دمار العالم وبؤس البشر. وقد حدد الأمين العام 7 أولويات كحقوق ثابتة للإنسان لإخراج العالم من ظلمات وضعه البائس، وتحول دون تحرك عقارب الساعة نحو النهاية…
1 – إرساء السلام في أوكرانيا وفلسطين وأفغانستان وميانمار وهايتي، وغيرها من بلدان تعاني من صراعات وأزمات إنسانية، يعاني منها ملياران من البشر بشكل مباشر وغير مباشر.
2 – تفعيل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والحق في التنمية. ويتطلب هذا التصدي لزيادة الفقر المدقع، في الوقت الذي تستحوذ فيه نسبة 1 في المائة من أثرياء العالم على 50 في المائة من الثروات الجديدة المتولدة في العقد الماضي، كما يستدعي التعامل الشامل مع تداعيات ارتفاع المديونية الدولية وتكاليف الاقتراض الباهظة التي تتكبدها البلدان النامية، بما يستوجبه هذا من إصلاح عاجل للنظام الاقتصادي الدولي الذي يعاني من تحيز وعوار، ومراجعة قواعد البنية المالية العالمية المتصدعة، بما في ذلك المؤسسات المالية الدولية. ومن دون هذه الإجراءات الشاملة والعاجلة، سيستحيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي تم تدشينها في عام 2015. فمن دون التصدي لأزمة المديونية الدولية الراهنة التي تعاني منها بدرجات متفاوتة 100 من البلدان النامية والأسواق الناشئة، فالقاعدة المنطقية تحتم أن منع مفاسد الديون يقدم على ما قد يجلبه أي تمويل جديد للتنمية من منافع، فما عساها تحقق وعود التمويل ومبادراتها وما قد يصحبها من تدفقات مالية محدودة مقارنة بهذا الهدر لإمكانات الدول التي تصارع ويلات سداد ديونها الخارجية وتكاليفها المجحفة بعد ارتفاعات متوالية لأسعار الفائدة المصاحبة بانخفاضات وانهيارات لأسعار الصرف، سواء بفعل صدمات دولية أو قلة حيلة الإدارات النقدية والاقتصادية المحلية وعدم اعتبارها لإجراءات التحوط. حسناً تفعل مجموعة العشرين إذا ما تبنت دعوة الأمم المتحدة بتمويل «معدل التنمية المستدامة» المقترح لمساندة بلدان الجنوب لتحقيق التنمية. لكن الأولى في تقديري أن يأتي متزامناً معه تفعيل إطار متكامل لعلاج الديون واستنقاذ البلدان النامية من التعثر في فخاخ الديون والسقوط في هواتها السحيقة.
3 – الالتزام بتحقيق أهداف اتفاق باريس لتغيرات المناخ، وما تبعه من تعهدات ومقررات في قمم المناخ المتعاقبة، ومنها ما صدر عن قمة شرم الشيخ التي نجحت في التوصل لاتفاق حول الخسائر والأضرار المترتبة على تغير المناخ، وما يتطلبه من تمويل من صندوق مخصص للتعامل معها. كما نجحت قمة شرم الشيخ في تحديد أولويات العمل الدولي في مجالات التكيف وفقاً لأجندة شرم الشيخ ومحاورها الخمسة في هذا الصدد. كما بلورت هذه القمة آليات التمويل المطلوب للعمل المناخي والاستثمار في مشروعاته، بتعاون غير مسبوق بين مؤسسات القطاع الخاص واللجان الإقليمية الاقتصادية للأمم المتحدة وبنوك الاستثمار، وتحديد قائمة لمشروعات ذات جدوى جديرة بالاستثمار والتمويل الميسر طويل الأجل، ولا أقول بالإقراض. فهناك إفراط في الاعتماد على الاقتراض لمشروعات الأولى بها أن تمول بالاستثمار وبما اقترحته من قبل تحت عنوان «1 في المائة من أجل 1.5 درجة مئوية»، ونشرته هذه الصحيفة الغراء في عدد سابق. ويبقى علاج أزمة المناخ كامناً في حل ثلاثي المكونات، من التمويل والتكنولوجيا وإرادة التغيير. فإما أن تأتي معاً متكاملة أو ستستمر الأزمة الراهنة.
4 – احترام التنوع والاختلافات الثقافية بين المجتمعات المختلفة، وما وجدناه مؤخراً من إهدار بالغ في هذا الحق ولّد احتقاناً وأجّج صراعات وأشعل نيران النزاعات والإرهاب، ووقعت ضحية له أقليات شتى ومهاجرون ولاجئون، ورفع من تكاليف الأمن، وأعاق التوصل لتسوية النزاعات بين الدول، وتخفيف حدة التوترات داخلها، خصماً من فرص التقدم والتنمية.
5 – حقوق المرأة وتحقيق الهدف الخامس للمساواة والعدالة بين الجنسين من أهداف التنمية المستدامة. فقد تراجع تحقيق هذا الهدف في كثير من البلدان النامية، فكلما زادت الصدمات وارتفعت حدة التراجع الاقتصادي، تجد المرأة والفتيات في صدارة الضحايا. وما زاد مؤخراً هو حرمان المرأة من التعلم والرعاية الصحية والعمل والأجر العادل. ويشير الأمين العام لرقم مفزع، أنه وفقاً للمعدلات الحالية يحتاج العالم 286 عاماً حتى تتحصل المرأة على ذات الوضع القانوني للرجل.
6 – تراجع الحقوق السياسية والمدنية والحرية في التعبير. فقد تزايدت صور القمع، كما اتخذ الوباء ستاراً لانتهاكات الحقوق السياسية والمدنية، بما في ذلك تصاعد أعداد من تم قتلهم من الصحافيين والإعلاميين بمقدار 50 في المائة. وهناك دعوة من الأمم المتحدة للعمل من أجل إشراك المجتمع المدني وحماية الحقوق المدنية في المبادرات والأعمال الأممية، مع استعداد لتقديم العون للدول لتطوير قوانينها وممارساتها في هذا الشأن.
7 – حماية حقوق الأجيال القادمة. ما نراه اليوم من تدهور في الأمور الستة المذكورة، وما يرتبط بها من حقوق تنتقص عملياً من فرص الأجيال القادمة في حياة أفضل، وما نراه من حالة احتقان في كثير من المجتمعات، هو ما يدركه الشباب من تراجع لاحتمالات تمتعهم بمستوى معيشة وحياة تعادل في مقوماتها ما حظي به آباؤهم، وهو ما يحبط جيل الآباء أيضاً بعجزهم عن توفير الحد المطلوب لحياة كريمة لأبنائهم. وهذا يشكل محاور العمل لقمة المستقبل التي ستعقد العام المقبل، والتي ستحدد أولويات العمل مع الطبيعة ومتطلبات العصر الرقمي ومنع أسلحة الدمار الشامل وإصلاح نظم الحوكمة. وتأتي هذه القمة لتبني على نتائج أعمال القمم الثلاث التي ستعقد في شهر سبتمبر هذا العام، وتتناول التنمية المستدامة، وتغيرات المناخ، والتمويل.
هذه الجهود لكي تثمر بما ينفع الناس ينبغي أن يتوفر لها إطار من التعاون الدولي، لا يتوافق مع أجواء الحروب والصراعات القائمة. وقد لفت نظري عند الحوار مع طرفي الحرب المشتعلة في أوكرانيا انطلاق كل طرف بإعفاء نفسه من التكاليف الباهظة والآثار السلبية للحرب على أوضاع الفقر والديون والغلاء في البلدان النامية، ومسارعته بالقول إن أسعار الحبوب والأسمدة المستوردة من طرفي الحرب قد تراجعت، وإن كمياتها تستعيد مستوياتها السابقة على الحرب. وكأن لسان حالهم يقول لا تشغلونا بمشكلات البلدان وتحملونا أعباءها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واتركونا وشأننا و«دعونا نحارب في سلام».
وتذكرنا المؤرخة باربارا توكمان، في كتاب بعنوان «بنادق أغسطس» عن الحرب العالمية الأولى بتلك الحرب التي لم يردها أحد، ولم يتوقع حدوثها أحد، لكنها رغم ذلك اندلعت واقتتل فيها 70 مليون جندي، مات منهم 9 ملايين، فضلاً عن 7 ملايين من المدنيين، وأصيب عشرات الملايين بعاهات لازمتهم حتى موتهم. كما أسفرت هذه الحرب الكبرى عن مذابح تلتها، كما تفشت الأوبئة، فقتل بسببها أضعاف هذه الأرقام من الأبرياء. وكان من الممكن إنهاء هذه الحرب العالمية الأولي، التي لولاها ما كانت الثانية، إذا ما توافق قادة القوى الكبرى على حسم نزاعاتهم سلماً. ولكن الحروب من هذا النوع تحدث لأن من يدخلها يظن ببساطة أنه سينتصر، ثم تنتهي بخسائر لكافة أطرافها، وبخسائر كبرى أيضاً لمن لا ناقة له فيها ولا جمل.
إذا كانت هناك رغبة في الحرب حقاً فلتكن حرباً ضد الفقر المدقع الذي استشرى بعد عهد من تراجعه، فلتكن هذه الحرب ضد تغيرات المناخ المهددة لحياة الناس ومعيشتهم، فلتكن هذه الحرب ضد تفشي الأمراض المعدية وتهافت الاستعدادات لوباء قادم، فلتكن هذه الحرب ضد مديونية مستعرة التكاليف وغلاء ينهش في قوت المعدومين وأرزاق أبناء الطبقة الوسطى المهددين بالانحدار إلى ما لا يطيقونه، فلتكن حرباً ضد الحرمان من فرص التعلم والعمل اللائق والعيش الكريم باسترجاع الحقوق المهدرة. مثل هذه الحروب المشروعة هي التي تستنجد حقاً بالنداء «دعونا نحارب في سلام».
د. محمود محي الدين.
البريكس… محور اقتصاديّ متجدّد
يشهد العالم عادةً ظهور أنظمة اقتصاديّة واندثار أخرى بحسب التغييرات السياسيّة، وقد يكون خصوم الأمس حلفاء الغد إذا ما وجدت الأطراف المصالح المشتركة. وهذا ما نشهده اليوم مع ارتفاع شأن مجموعة «البريكس» في الآونة الأخيرة، وخصوصًا «إعلاميًّا» في موازاة الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيّة، وما يمثّله كِلا البلدين لقطبَي العالم الاقتصاديّ (الشرق-الغرب).
لذلك، أضحَت دول عدّة تبحث عن مكامن القوّة في التجمّع وإيجاد محور اقتصاديّ يحقّق لها توازنًا جديدًا، لا سيّما أنّ موسكو تفتّش عن طرائق لتخطّي العقوبات الاقتصاديّة الغربيّة مع دولٍ تشاركها الاهتمام عينه، ومراعاة لإبقاء العلاقات الديبلوماسيّة والاقتصاديّة المتينة معها.
إتّسَعت رقعة الأزمة الاقتصاديّة مع جائحة كوفيد-١٩، ومن بعدها الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، وكان لبنان «سبّاقًا» لعدد من الدول في دخول دوّامة الأزمات مع انهيار منظومته الاقتصاديّة التي صمدت بعد الحرب اللبنانيّة، واستقرار ليرته نحو ربع قرن. لكن، لا نرى اليوم لبنان سبّاقًا ولا رائدًا في البحث عن تحالفاتٍ اقتصاديّة ذات أسس متينة ومستدامة، لاختلاف الظروف الديبلوماسيّة والداخليّة وتعقيدها بالمقارنة مع غيره من البلدان.
يشير اختصار «بريكس» إلى الحروف الأولى من أسماء خمس دول، هي: البرازيل، روسيا، الهند، والصين، وانضَمّت إليها جنوب إفريقيا لاحقًا في العام ٢٠١١. وقد اتّخذت مجموعة الـ «بريكس» شكّل مؤتمر ديبلوماسيّ متكامل، يَعقد قمّته مرّة واحدة سنويًّا، وتستضيفه إحدى الدول المؤسِّسة بالتناوب. ويهدف هذا المؤتمر أساساً الى تأكيد المكانة الرئيسيّة التي تتمتّع بها هذه البلدان على الساحة الدوليّة، وخصوصًا إبراز وزنها الاقتصاديّ والسياسيّ، وخاصة بالنسبة الى ما يتعلّق بالدول أو التكتّلات الأخرى مثل الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو الاتّحاد الأوروبيّ.
صاغَ هذا المصطلح أو الاختصار الاقتصاديّ البريطانيّ جيم أونيل للمرّة الأولى في العام ٢٠٠١. وتأتي أهميّة هذه البلدان في الاقتصاد العالميّ بسبب أسواقها المحلّية الكبيرة، التي توقّع لها أونيل علو شأنها وازدياد نموّها الاقتصاديّ السنويّ المُتسارع. وغَدا هذا التنبؤ أمرًا واقعًا، عندما أصبحت البريكس حقيقة اقتصاديّة وسياسيّة ملموسة في الساحة العالميّة.
لم يُقصد في بادئ الأمر من هذا المصطلح إضفاء أي صيغة مؤسّساتيّة، أو محاولة لأيّ تقارب اقتصاديّ كلّي، بل كان الهدف في المقام الأوّل، لفتَ انتباه المستثمرين إلى هذه الاقتصادات سريعة التحوّل والنموّ. لكن في العام ٢٠٠٩، ارتأت هذه الدول نفسها إلى تبنّي هذه التسميّة المختصرة، ومَنحتها شكلًا مؤسّساتيًّا للتنسيق بين الدول، مختلفًا تمامًا عن هيئات بريتون وودز (البنك الدوليّ، وصندوق النقد الدوليّ)، وكذلك الهيئات الاقتصاديّة التابعة للأمّم المتّحدة.
هكذا، ومنذ العام ٢٠١١، أصبحت مجموعة البريكس ذات صفة رسميّة دوليّة، وعلى الصعيد الاقتصاديّ، أنشأت مصرفًا للتنمية في العام ٢٠١٤، سُمّي بنك التنمية الجديد، ومقرّه في شنغهاي ـ الصين. وقد كانت أهمّ الموضوعات التي وضعت على سلّم أولويّاتها، مكافحة نظام الحماية الذي يفرضه بعض شركائها في مجموعة العشرين «G20»، أو إصلاح حوكمة صندوق النقد الدوليّ، ونظام النقد الدوليّ بوجهٍ عموماً، وجَعل أدوات الحوكمة العالميّة أوسع شمولًا وتشاركيّة، وأقوى نشاطًا وفعاليّة في عمليات صنع القرار العالميّة وهيكليّاتها بمساهمة أكبر من البلدان النامية. وقد تمكّنت هذه المجموعة من تشكيل جبهة مشتركة ضدّ بعض القيود البيئيّة التي قد تضرّ باقتصاداتها المستدامة على المدى البعيد.
كما أضحت دول البريكس عموماً واحدة من الهيئات التي تحمل قضيّة الاعتراف بتعدّد الأقطاب في التوازنات الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة الموروثة إلى زمننا الحاضر بعد الحرب العالميّة الثانية واتّفاقيّاتها. وإذا كانت السنين العشر الأوائل من القرن الحادي والعشرين هي فترة ظهور البريكس، فإنّ العقد الذي تلاها (٢٠١٠-٢٠١٩) كان عقد إضفاء الطابع المؤسّساتيّ عليها. إذ تعتزم هذه المجموعة غير المتجانسة فيما بينها التأثير على المصير الجيو- اقتصاديّ والجيو- سياسيّ للعالم.
إذا نظرنا إلى بعض الأرقام والاحصائيّات، سنجد أنّ هذه الدول الخمس يبلغ عدد سكانها الإجمالي ٣,٢ مليارات نسمة، أي ما يعادل ٤٢ ٪ من سكّان العالم. كما نجد أنّ مجموع ما أنتجته قد بلغ ثلث الثروة العالميّة في العام ٢٠١٨، ونحو ٢٥ ٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ. علاوة على ما ذُكِر، تشكّل اقتصادات البريكس ٢٣ ٪ من الاقتصاد العالميّ، و١٨ ٪ من تجارة السلع، و٢٥ ٪ من الاستثمار الأجنبيّ. ومع ذلك، فإنّ أعضائها لا يملكون سوى ١٥ ٪ من حقّ التصويت في البنك الدوليّ، وصندوق النقد الدوليّ. لذلك، يمكن للتوسّع المحتمل لهذه الكتلة الاقتصاديّة الناشئة أن يزيد من نفوذها ووزنها الدوليّ في هيئات الحوكمة العالميّة.
ولا نجد أيّ تعتيم من قبل مجموعة البريكس على عملها، فمشروعها واضح، وهو تحدّي الهيمنة الغربيّة، وجعل مصالح هذه الاقتصادات الخمس أولويّاتها على حساب الاقتصادات الكبرى. وقد بدأ هذا الرهان بنجاح قبل تفشّي جائحة كوفيد-١٩، ويزداد استقطاب النظر إلى المجموعة في كلّ لقاء للدول العشرين في المنتديات العالميّة.
تتمتّع دول البريكس بمسارات اقتصاديّة مختلفة إلى حدٍّ بعيد فيما بينها، على سبيل المثال: لا يواجه الاقتصاد الريعيّ في روسيا التحديات نفسها التي يواجهها اقتصاد الصين الصناعيّ، أو الاقتصاد القائم على الخدمات في الهند. مع ذلك، تشترك بلدان البريكس الأربع الأولى في بعض الأمور، من بينها: العدد الكبير من السكان، والمساحات الشاسعة من الأراضي، إذ تمّ تصنيفها من بين أكبر عشرة بلدان وأكثرها اكتظاظًا بالسكان في العالم، والغِنى بالموارد الطبيعيّة المهمّة (المعادن، والطاقة، والغابات، والزراعة، ومصايد السمك…)، وظهور الطبقة الوسطى، ومعدّلات النموّ المرتفعة، والاندماج السريع في الاقتصاد العالميّ.
كما أنّ الاختلافات بين هذه البلدان لا تقلّ أهميّة عن نقاط التوافق. فهي تتأرجح بين الأنظمة السياسيّة الديمقراطيّة أو الاستبداديّة، كذلك تعرف بعضها تركيبة سكانيّة ديناميكيّة، في حين تواجه روسيا تدهورًا ديموغرافيًّا حادًّا. كذلك، فإنّ الأوضاع الاقتصاديّة شديدة الاختلاف من حيث قدرات البحث والابتكار، والثقل الصناعيّ غير المتكافئ بين هذه الدول.
لبعض الوقت، كانت دول البريكس، بما في ذلك روسيا والصين، تُناوِر لتحرير نفسها من الدولار الأميركيّ. ففي الآونة الأخيرة، قامت الصين بإضفاء الطابع الرسميّ على اتفاقيّتها مع البرازيل للتجارة بين الدولتين من دون استعمال الدولار الأميركيّ، ويمكن أن تتبلور هذه الرغبة في الاستقلال الماليّ عن طريق اعتماد عملة رقميّة على سبيل المثال.
في الفترة الأخيرة، أعربَت أكثر من اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة، وإيران، عن رغبتها الفعليّة بالانضمام إلى كتلة الاقتصادات الناشئة المكوّنة من هذه الدول الخمس، وتقدّمت بطلب رسميّ للانتساب إليها. كما أعربت دولًا أخرى عن اهتمامها بالانضمام، بما في ذلك الأرجنتين، والإمارات العربيّة المتّحدة، والجزائر، ومصر، والبحرين، وإندونيسيا.
ستحدّد مجموعة البريكس معايير جديدة للانتساب إليها، وستُقرر قبول الأعضاء المؤهّلين الجدد بحلول نهاية العام ٢٠٢٣. إذ يشهد نهج مجموعة بريكس في تقديم بديل لعالم أحادي القطب أهميّة متزايدة في ظلّ عالم متغيّر بطريقة تُقلِق كثيرين، ممّا يدفع بعض الدول إلى البحث عمّن يوافقها في النظرة والمصلحة الاقتصاديّة حول العالم.
يُعتقد أنّ توسيع تحالف الاقتصادات الناشئة أحد الأولويّات الرئيسيّة لتكتّل البريكس في هذه الأيّام، وأنّ عمليّة توسيع المجموعة جارية على قدمٍ وساق. وفي هذا السياق، شاركَ قادة من دول نامية عدّة، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة، ومصر، وإندونيسيا، والأرجنتين، ونيجيريا، والجزائر، وتايلاند، في مؤتمر افتراضي سُمّي «بريكس بلَس» في صيف العام ٢٠٢٢.
مؤخّرًا، توصّل أعضاء البريكس إلى توافق في الآراء بشأن عمليّة توسيع المجموعة، وقد تكون المملكة العربّية السعوديّة أوّل المنضَمّين، وخصوصًا مع إعطائها صفة «شريك حوار» في منظّمة شانغهاي للتعاون، وتلويحها بعدم استخدام الدولار الأميركيّ في بعض تعاملاتها، واعتراضها على أسعار النفط العالميّ، ودعم الرئيس الروسيّ لانضمام المملكة إلى البريكس، ويمكن تفسير هذه التفاصيل، على أنّها خطوات تمهيديّة لانضمامها الكامل إلى المجموعة.
إنّ مثل هذه الخطوة للرياض ستكون مُتّسقة مع طموحها لتعزيز مكانتها الدوليّة عندما تُصبح إلى حدٍّ ما «اللاعب المستقلّ» على المسرح العالميّ السياسيّ والاقتصاديّ. وهذا لا يعني بالطبع التخلّي عن شراكتها الاستراتيجيّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو تأدية دور «عدم الانحياز»، بل زيادة استقلاليّتها عن واشنطن، وبالتالي قدرتها التفاوضيّة بتنويع شركائها الدوليّين. خصوصًا أنّ معظم الدول المهتمّة بالانضمام إلى مجموعة البريكس، هي بالفعل شريكة مميّزة لدى المملكة السعوديّة ويمكن اعتبار الدول الأخرى دولًا «مُعتدلة»، متوافقة مع تحالف الرياض الغربيّ. كما أنّه سيعزّز علاقاتها الاقتصاديّة مع دول الجنوب، التي أصبحت حلفاء للمملكة العربية السعوديّة بنحوٍ متزايد.
سيكون لصيغة بريكس «بلَاس» أيضًا ميزة إضافيّة، كونها أقل «مُعاداة للغرب» من منظمة شنغهاي للتعاون، التي تبدو وكأنها امتداد لمحور موسكو وبكين، ولها أبعاد سياسيّة أشدّ وضوحًا، حيث تتمتع إيران بالفعل بصفة «مراقب». لذلك، قد يتأجّل قرار المملكة في الانضمام استنادًا إلى الموقف من طهران، سواء العالميّ، أو المحلّي حيث تشهد العلاقات السعوديّة ـ الإيرانيّة تطوّرات جديدة بعد طول جفاء.
بالنسبة الى الصين وروسيا، تجدان في تَذبذب أداء الدولار الأميركيّ فرصة يمكن اقتناصها لتأكيد طموحهما في ظهور عالم ما بعد الغرب، حيث تضعف الولايات المتحدة الأميركيّة بشكل دائم، وينقسم الأوروبيّون في قراراتهم. سيقود هذا الطموح الصين وروسيا إلى إثبات أنّ اللعبة الاقتصاديّة ليست احتكارًا على الغرب وحده، ويمكنهم تأدية دورهم بالكامل كقوّة محوريّة منافسة لاقتصاد الدولار الأميركيّ في المقام الأوّل، واليورو في المقام الثاني، وذلك عن طريق توطيد العلاقات السياسيّة الاقتصاديّة الجديدة.
يبقى السؤال، أين لبنان في الساحة الاقتصاديّة العالميّة والإقليميّة؟ ألم يفكّر المسؤولون في ابتكار منظومات اقتصاديّة جديدة يخرج بها من أزمته؟ هل من خطّة واضحة مع دول الجوار للعمل معًا، بعيدًا عن التهريب والقفز فوق الأنظمة؟ واقعيًّا، نجد أنّ حتّى الدول التي تمتلك إمكانات اقتصاديّة كبيرة، وموقعًا استراتيجيًّا مهمًّا، تُعاني في إقناع الأطراف الاقتصاديّة الأكبر في البريكس بالانضمام إلى محورها، فكلٌّ يفكّر بما يعود عليه من نفع أوّلًا.
بعيدًا عن حلم الانضمام إلى المجموعات الاقتصاديّة الكبيرة، ما الذي يمكن أن يقدّمه لبنان ويشكّل إضافة لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنها في الاقتصادات الإقليميّة والعالميّة؟ قد تكون خبرة اللبنانيّين أنفسهم، وكفايتهم العلميّة في إدارة المشاريع وريادتها؟ لكن يجب أن تكون هذه القوى متجذّرة في البلد نفسه، وتستطيع تحسين قدرة لبنان على الاندماج في اقتصادات إقليميّة أوسع، لكي يكون لبنان لاعبًا اقتصاديًّا حاذقًا، ويتمكّن من الخروج من دوّامة الانهيار الاقتصاديّ.
ب. ندى ملاح البستاني