أكبر عملة بالليرة أقل من أصغر عملة بالدولار

 

نعيش اليوم تاريخاً أسود من تاريخ لبنان، سيُسجّل في الكتب الداخلية وأيضاً في كل كتب تاريخ الإقتصاد العالمي، ويُعرف بأكبر عملية نهب وتدمير ذاتي، وأكبر أزمة إقتصادية، مالية ونقدية ستُحفر في التاريخ الدولي. وقد أصبحت أكبر عملة ورقية لبنانية (ورقة المئة ألف ليرة) تُوازي أقل من أصغر عملة ورقية بالدولار الأميركي. وتتواصل هذه الخطة من التدمير الشامل والمعتمد يوماً بعد يوم.

لقد خسرت العملة الوطنية حتى اليوم أكثر من 98% من قيمتها، وانهار سعر الصرف من 1500 ألف ليرة إلى 120 الفاً، أي 80 مرة أكثر، في ظل غياب أي خطط لأي نيّة للإصلاح، لا بل ثمة نيات لمتابعة التدمير الذاتي والشامل.

نذكّر بحزن وأسف، أنّه خلال سنوات الحرب الأهلية، كان الدولار الأميركي يُوازي 3 ليرات لبنانية ثم تدهور وانهار حتى وصل إلى 3300 ليرة للدولار، يعني 1100 مرة أكثر.

أما اليوم، بعد نحو 40 عاماً، ها هو التاريخ يعيد نفسه، حيث بلغ تدهور الليرة نحو 80 مرة حتى اليوم، وليس له أي آفاق ولا حدود، ويُمكن أن يصل إلى زيادة أصفار وعشرات ومئات الآلاف في خلال أيام قصيرة.

فالتدهور النقدي مستمر، من دون خطط واستراتيجيات ونيات لوقف النزف، والخسائر التي يتكبّدها الشعب الكادح والاقتصاد الأبيض.

في وجه هذه الخسائر الفادحة والضخمة، من قِبل الرياديين والمبتكرين والمستثمرين، هناك أرباح فادحة من قِبل المروّجين والمهرّبين والمبيّضين، الذين لهم مصلحة مباشرة ومستمرة جراء هذا الانهيار والتهديم.

لوكان هناك نية حقيقية لوقف الإنهيار، كان أولاً قد بدأوا وأجبروا الاقتصاد على متابعة سوق صرف موحّدة ورسمية، وليست منصّات هاتفية غامضة، لا نعرف مَن يديرها وبأي طريقة تعمل؟

لو كان هناك نية حقيقية جدّية، لكانت الأولوية لإعادة تنشيط الدورة الاقتصادية والنمو والاستقرار للقطاعين العام والخاص. شئنا أم أبينا، مهما كان التمويل والمساعدات والمؤتمرات من دون إعادة النمو والدورة الاقتصادية، ولا سيما الثقة، لا يُمكن إعادة سنت واحد للمودعين.

لا يمكن أن نحلم بإعادة نمو وثقة، من دون إعادة تمكين وعمل مؤسسات الدولة، والمؤسسات الخاصة والمالية، لتمويل النمو والاقتصاد الجديدين.

عندما اختلفت دول المنطقة، اختلفنا في لبنان، بعد أكثر، ورفعنا سقف الخلاف، والتشنجات، أما حين اتفقوا فكان تغييبنا سيّد الموقف، واستمررنا بالخلافات والتجاذبات الداخلية عينها، من دون أي حدود وحتى أي أهداف إلاّ الأهداف التخريبية، الذاتية والتدميرية.

مرة أخرى يُبرهن العالم لنا، أننا لم نعد من أولويات وحتى أجندات الدول، والحقيقة المرّة، التي لا نريد مواجهتها، وتصديقها، هي أنّ التدهور المالي والنقدي والإقتصادي سيستمر أكثر فأكثر، وسيزيد سعر الصرف ليس بالعشرات لكن بالمئات، ولا سقف لهذا التدهور المعتمد الراهن.

إنّ هذا البرنامج والحلقات وهذه المسرحية التدميرية مستمرة، بهدف واضح هو تدمير ما تبقّى من الاقتصاد الأبيض، وهدر ما تبقّى من أموال المودعين البخسة، ودعم الاقتصاد الأسود، والسوق السوداء المظلمة، والتبادل التجاري العشوائي والتدميري، وجذب كل الأيادي السود العالمية إلى منصتنا، وإلى أرضنا اليابسة.

لا شك في أنّ اقتصادنا يلين وشعبنا ينزف، لكن نذكر بفخر، أنّ إرادتنا لم ولن تُهدم، والرياديين والمبتكرين والمستثمرين لم ولن يستسلموا، وستبقى شعلتنا مضيئة ولا تنطفئ، ومرونتنا وصمودنا في قلب معركتنا المصيرية.

د. فؤاد زمكحل

البنك الدولي: اقتصاد العالم ذاهب إلى “عقد ضائع”

اعتاد العالم على سماع التوقّعات الاقتصاديّة المتشائمة خلال السنوات الثلاث الماضية، بعدما تظافرت مجموعة من العوامل لتفرض على الاقتصاد العالمي ضغوطاً قاسية لم نشهدها منذ عشرات السنين. إلا أنّ تقرير البنك الدولي الأخير، المعنون بـ”تراجع آفاق النمو على الأجل الطويل: الاتجاهات والتوقعات والسياسات”، قدّم للمرّة الأولى تقييمًا شاملًا لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي المحتملة على المدى البعيد، في أعقاب جائحة كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، وما يشهده العالم اليوم من سياسات نقديّة انكماشيّة تحاول ضبط معدلات التضخّم.

أمّا أخطر ما وصل إليه التقرير، فهو أنّ أقصى معدّل للنمو على المدى الطويل، سينخفض إلى أدنى مستوياته منذ ثلاثة عقود بحلول العام 2030. وهذا التراجع، قد يكون أشد حدّة أو أقسى، في حال حدوث أزمة ماليّة عالميّة أو ركود طويل الأجل، حتّى ذلك الوقت، وهذا محتمل بشدّة طبعًا. وفي النتيجة، لخّص البنك الدولي الوضع بعبارات حسّاسة لا يفترض تجاهلها: “قد نكون أمام عقدٍ ضائع للاقتصاد العالمي. إن التراجع المستمر في النمو الاقتصادي، سيكون له تداعيات خطيرة على قدرة العالم على التصدّي لمجموعة من التحديات، كالفقر المدقع وتباين مستويات الدخل وتغيّر المناخ”.

نهاية ثلاثة عقود سعيدة
عاش العالم ثلاثة عقود من النمو الاقتصادي العالمي المستدام، منذ العام 1990. فعلى مدى هذه المدّة الطويلة، تمكّن العالم من خفض معدلات التضخّم، وزيادة مستويات الدخل، ورفع إنتاجيّة القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، كما انخفضت معدلات الفقر المدقع العالميّة على نحو ملحوظ. في النتيجة، تمكنت ربع الاقتصادات النامية من الانتقال إلى مستوى دخل مرتفع، خلال جيل واحد.

اليوم، بات كل ما يجري من تحوّلات اقتصاديّة يدفع الاقتصاد العالمي بالاتجاه المعاكس تمامًا. فخلال السنوات العشر التي سبقت تفشّي وباء كورونا، بدأ الانخفاض العالمي تدريجيًّا في معدلات الإنتاجيّة الاقتصاديّة، والتي تؤثّر بشكل تلقائي على معدلات نمو الأجور والرواتب، وهو ما بدأ بإثارة القلق تجاه آفاق النمو الاقتصادي العالمي.

وخلال العقد الراهن، أي بين العامين 2020 و2030، من المتوقّع أن تنخفض معدلات نمو الإنتاجيّة إلى أدنى مستوى لها على الإطلاق منذ 23 سنة. مع الإشارة إلى أنّ معدلات الإنتاجيّة تقيس كميّة السلع والخدمات التي يمكن إنتاجها من خلال كميّة معيّنة من المدخلات (أي العمالة والمواد الأوليّة).

في الوقت نفسه، تتراجع اليوم معدلات الاستثمار إلى حدود مقلقة. فبين العامين 2022 و2024، من المتوقّع أن يبلغ معدّل الاستثمار السنوي نحو نصف المعدلات السنويّة، التي حققها العالم خلال العقدين الماضيين. كما ستستمر القوّة العاملة بالنمو بتواضع، في الدول المتقدمة والكثير من الأسواق الناشئة والدول النامية، نتيجة تراجع معدلات الولادات. وفعاليّة القوّة العاملة، تأثّرت أساسًا بالصدمات الصحيّة التي تعرّضت لها، وبحالات إقفال المدارس خلال الفترة الماضية، وتراجع معدلات ساعات التعليم، وغيرها من العوامل. أمّا معدلات التجارة الدوليّة، التي نمت بنحو ضعفي معدلات النمو الاقتصادي بين 1990 و2011، فتعاني اليوم للنمو بمعدلات النمو الاقتصادي نفسها.

نهاية العقود الثلاثة السعيدة، حسب البنك الدولي، هي ما سيقودنا نحو عقدٍ ضائع. وهذا لن يشمل بعض الدول والمناطق حول العالم، كما جرى في الماضي، بل سيشمل العالم بأسره من دون استثناء.

انخفاض حاد في النمو الاقتصادي العالمي
وبالأرقام، حسب التقرير، “من المتوقع أن ينخفض متوسط النمو العالمي المحتمل، لإجمالي الناتج المحلي بين عامي 2022 و2030، بنحو ثلث المعدل الذي كان سائدًا في العقد الأول من هذا القرن (أي بين عامي 2000 و2010)، ليصل إلى 2.2% سنوياً”. مع الإشارة إلى أنّ هذا المعدّل كان يبلغ حدود 3.5% بين عامي 2000 و2010.

وبالنسبة للاقتصادات النامية بالتحديد، سيكون الانخفاض حادًا بالدرجة نفسها: من 6% سنوياً بين عامي 2000 و2010، إلى 4% سنوياً خلال الفترة المتبقية من هذا العقد (أي حتّى نهاية 2030). وسيكون هذا التراجع أشد حدة في حالة حدوث أزمة مالية عالمية أو ركود اقتصادي. بمعنى آخر، لا تأخذ كل هذه التوقّعات بالاعتبار احتمالات حصول انهيارات اقتصاديّة استثنائيّة أقسى وأشد.

ويشير التقرير إلى مجموعة من الأحداث التي ضغطت على الاقتصادات العالميّة بأسرها خلال السنوات الثلاث الماضية: من تفشّي الوباء خلال العام 2020، إلى الغزو الروسي لأوكرانيا، وصولًا إلى سياسات رفع الفوائد وامتصاص السيولة وغيرها من الإجراءات الإنكاماشيّة التي قامت بها المصارف المركزيّة الغربيّة منذ العام 2022، بعدما توسّعت في تقديم رزم الدعم وضخ السيولة خلال فترة تفشّي الوباء. وفي هذا الإطار، ساهم رفع الفوائد خلال الفترة الماضية في الوصول إلى أقصى مستوى من التشديد النقدي منذ أربعة عقود من الزمن.

أمّا السياسات الماليّة للحكومات، فباتت أقل دعمًا لمتطلّبات النمو، بعدما تدهورت توازنات الميزانيّات العامّة للدول خلال الأزمة عام 2020، فيما ارتفع مستوى الديون الحكوميّة إلى مستويات تاريخيّة منذ ذلك الوقت. وأمام كل هذه الضغوط والصدمات التي تعرّض الاقتصاد العالمي، انخفضت معدلات النمو بشكل قاسي، بعد الركود الذي شهده العالم عام 2020.

إجراءات مطلوبة على المدى الطويل
ومع ذلك، يشير التقرير إلى أنّ هناك ما يمكن فعله لتفادي هذا السيناريو المتشائم، إذ أن النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي العالمي “يمكن زيادته بما يصل إلى 0.7 نقطة مئوية، أي إلى متوسط سنوي قدره 2.9%، إذا اعتمدت البلدان المختلفة سياسات مستدامة موجهة نحو النمو”. ومن هذه الإجراءات التي يعددها التقرير، مثلًا:

– زيادة الاستثمارات في مجالات مثل النقل والطاقة، والزراعة والصناعات التحويلية المراعية للمناخ، وأنظمة الأراضي والمياه. هذا النوع من الاستثمارات المتوافقة مع الأهداف المناخية الرئيسية، يمكن لها أن ترفع النمو المحتمل بنسبة تصل إلى 0.3 نقطة مئوية سنوياً، فضلاً عن تعزيز القدرة على الصمود في وجه الكوارث الطبيعية في المستقبل.

– خفض تكاليف التجارة التي ترتبط في معظمها بالشحن البحري والخدمات اللوجستية واللوائح التنظيمية، والتي تؤدي فعليًا إلى مضاعفة تكلفة السلع المتداولة عالمياً اليوم. ويمكن للبلدان التي ترتفع فيها تكاليف الشحن واللوجستيات أن تخفض تكاليفها التجارية إلى النصف من خلال اعتماد اتفاقات تيسير التجارة، وغيرها من الممارسات المعتمدة في البلدان التي تعاني من أدنى تكاليف للشحن واللوجستيات.

– تعزيز قطاع الخدمات، بما يسمح لهذا القطاع بأن يكون المحرك الجديد للنمو الاقتصادي. فقد قفزت صادرات الخدمات المهنية المقدمة رقميًا، والمتعلّقة بتكنولوجيا المعلومات والاتصال، إلى أكثر من 50% من إجمالي صادرات الخدمات في عام 2021، مقارنة بـ40% في 2019.

– زيادة المشاركة في قوة العمل، إذ يُعزى نحو نصف التباطؤ المتوقع في النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي حتى عام 2030 إلى تغير الأوضاع الديموغرافية، بما في ذلك تقلص عدد السكان في سن العمل وتراجع المشاركة في القوى العاملة مع تقدم المجتمعات في العمر. في بعض المناطق -مثل جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا- يمكن زيادة معدلات مشاركة النساء في القوى العاملة، إلى نفس معدلات جميع اقتصادات الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية، بما يسمح بتسريع وتيرة النمو المحتمل لإجمالي الناتج المحلي بحدود 1.2 نقطة مئوية سنوياً بين عامي 2022 و 2030.

– يجب على واضعي السياسات إعطاء الأولوية للحد من التضخم، وضمان استقرار القطاع المالي، وخفض الديون، واستعادة الحصافة في المالية العامة. ويمكن لهذه السياسات أن تساعد مختلف البلدان على اجتذاب الاستثمارات من خلال تعزيز ثقة المستثمرين في المؤسسات الوطنية وسياساتها.

أمّا أهم توصيات التقرير، فهي ضرورة تعزيز التعاون العالمي، لتحقيق التكامل والتعاون بين اقتصادات مناطق العالم المختلفة. فقد ساعد التكامل الاقتصادي الدولي على دفع عجلة الرخاء العالمي لأكثر من عقدين منذ عام 1990، لكنه تعثر لاحقاً، بعد أن تنامت مؤخرًا ظواهر الحروب التجاريّة والقيود على التجارة الدوليّة، وتراخي الدول في تنفيذ التزاماتها المرتبطة بالمناخ. ففي النهاية، وكما يشير التقرير، يدين سكّان الأرض اليوم “للأجيال القادمة بصياغة سياسات يمكنها تحقيق نمو قوي ومستدام وشامل للجميع”، وهو ما يفرض القيام بخطوات جريئة وجماعيّة لتحفيز النمو المستدام على المدى البعيد.

علي نور الدين