تُعتبر الدولرة الجزئية كما هي الحال في لبنان منذ الأزمة النقدية في الثمانينات، مرتبطة من ناحية بعمليات التضخم المفرط الناتجة من طباعة النقد تلبية للحاجات التمويلية، لا سيما للقطاع العام، في ظلّ ضعف سائر مصادر التمويل، ومن ناحية أخرى نتيجة التضخم “المستورد” بفعل تدهور سعر الصرف واعتماد الاستهلاك بشكل أساسي على البضائع المستوردة. علماً أنّ الدولرة الجزئية التي تكون في الوقت نفسه مرتفعة وتُنسب إلى “إزدواجية العملة” (استخدام مشترك للدولار الأميركي والليرة اللبنانية في نفس الوقت مع طغيان الأول بتفوّق في الأسواق) ولا تشكّل سوى خيار مرحلي.. وبذلك، تكون الدولرة الجزئية وسيلة لتجنّب عيوب عدم استقرار العملة الوطنية في فترة معينة، وملجأ وسيطاً بانتظار حلّ جذري: إما استعادة الثقة بالعملة الوطنية وصدقية سياسة المصرف المركزي وقدرته على تأمين الاستقرار النقدي، التي يجب أن تؤدي تلقائياً إلى التحرّر التدريجي من الدولرة والعودة التدريجية للعملة الوطنية، وإما أن تؤدي إلى تعميم دولرة شاملة في حالة صعوبة استعادة الثقة في العملة الوطنية والاستقرار النقدي المنشود، من خلال سياسة الاستقرار التي تتلاءم مع خصوصيات الاقتصاد الوطني.
منذ أزمة الثمانينات في لبنان، شكّل معدّل الدولرة المرتفع تقييدًا أيضًا للمصرف المركزي وسياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي، والتي كانت مكلفة للاقتصاد، من دون ضمان الاستقرار الفعلي. والبرهان على ذلك، عدم انخفاض مستوى الدولرة عن حدود 67% في أفضل الأحوال التي مرّ فيها لبنان، حتى في ظل الـ 22 عامًا من تثبيت سعر الصرف، فيما كان يمكن الانتقال التدريجي إلى نظام أكثر مرونة ومتماهٍ، مع مؤشرات ميزان المدفوعات، وطبعًا بأقل كلفة من العجز الفجائي عن التدخّل وترك الساحة للسوق الموازي، لاسيما منذ بدء تسجيل تراكم عجوزات ميزان المدفوعات منذ العام 2011..
من المعروف في الأدبيات العلمية كما في تجارب البلدان، أنّ نظام الربط الصارم لا يصح لمجرد حدوث أزمة في بلد معيّن، إنما يكون لبلدان تشهد أزمة ثقة مزمنة بعملتها وبكل السلطة السياسية والمالية والنقدية، ويتزامن ذلك مع أزمات سياسية وجيوسياسية وأحياناً أزمة هوية ودولرة جزئية مرتفعة وضعف في الاقتصاد وتركّزه على الخدمات أكثر منه على الانتاج وامكانيات التصدير… والدولرة الشاملة غير الرسمية تكون عادة مرتبطة بفترات صراع وأزمات تعرّض السيادة للخطر، كما حدث في تيمور الشرقية وكوسوفو قبل عام 2000. فيما تُظهر التجارب الدولية، أنّ الدولرة الشاملة الرسمية تكون أكثر نجاحاً، وغالباً ما تتبع فترة الدولرة غير الرسمية التي تفرض نفسها كأمر واقع تتقبّله وتنظّمه السلطات الرسمية، كما حدث في الإكوادور في عام 2000. ويمكن إدخالها مباشرة مع ظهور كيان سياسي جديد (الجبل الأسود وكوسوفو في عام 2002).
فالدولرة الشاملة تتميز بطابعها النهائي (غير القابل تقريبًا للرجوع عنه). واذا كانت المزايا الرئيسية للدولرة تنبع من صدقيتها في الدولرة الكاملة، مرادفة بالنسبة للدولة لخسارة أرباح طباعة العملة الوطنية seigneuriage (الناتج بشكل أساسي من الفرق بين تكلفة إنتاج العملات المعدنية والورقية وقوتها الشرائية، وهي عملياً، إذا تجاهلنا الحدّ الأدنى من تكلفة طباعة الأوراق النقدية والصناعة المعدنية، تصبح تساوي الزيادة في حجم العملة الوطنية المتداولة). فضلاً عن كون الدولرة الكاملة تلغي دور المصرف المركزي الوطني كملاذ أخير للإقراض المصرفي.. وبالتالي تجعل البلد المعني بالدولرة الشاملة والرسمية يخسر “السيادة النقدية” المتمثّلة بالعملة الوطنية، وهي إلى جانب العلم، تمثّل رمز استقلال وسيادة الوطن، وهنا يصبح الموضوع ذات أبعاد أوسع من الناحية النقدية البحتة.
من بين مزايا الدولرة الكاملة، نستشهد أيضًا باستحالة استمرار القادة في اتباع سياسات مالية توسعية تؤدي إلى حدوث تضخم، من خلال التخلّي عن امتياز طبع النقود، حيث لم يعد بإمكان الدولة اللجوء إلى طباعة النقود لتمويل عجزها. فهي ملزمة بخفض الإنفاق العام أو زيادة الإيرادات (أو اختيار مزيج من الاثنين)، أو حتى تفعيل برنامج الخصخصة، أو أقلّه مشاركة القطاع العام والقطاع الخاص في إدارة المرافق والخدمات التي لا تزال عامة كلياً. على أي حال، يخاطر القادة بتقلّص الطلب المحلي وحرمان أنفسهم من حرّية التدخّل في الاقتصاد.
هل بإمكان السلطات العامة الالتزام بالإصلاح المالي المطلوب وضبط المالية العامة؟ الحؤول دون العجز المالي وتزايد الدين العام لعدم الاضطرار إلى اللجوء مجدّداً لطباعة العملة، خصوصاً أنّ مجلس النقد او الدولرة الشاملة يمنعان ذلك؟؟ هل بالإمكان قبول تحدّي القيام بإصلاح القطاع العام باتجاه تخفيض جذري لحجمه الهائل والمصاريف الجارية التي يتسبّب بها، لا سيما منها الرواتب والأجور؟. هل السلطة السياسة تلتزم بتحدّي ضبط التهرّب الضريبي والتهريب عبر الحدود؟ هل النية والإمكانية موجودتان لإعادة انتظام الموازنات وقطوعات الحسابات؟
لوحظ أنّ الإنفاق العام تميز خلال سنوات الحرب بالفوضى وانعدام السيطرة المركزية. خلال تلك الفترة ، لم تكن الدولة تعرف بشكل دقيق لا مقدار نفقاتها ولا ناتج إيصالاتها، ولهذا توقفت عن إغلاق حسابات الموازنة من 1979 إلى 1993.
توقف نشر حسابات الموازنة على النحو الذي أقرّه الدستور وقانون الحسابات العامة استمر من 1979 حتى 1993. إذاً، اضطرت الدولة إلى اللجوء إلى الديون الخارجية والداخلية لتمويل تطوير المشاريع التي توقف تنفيذها على مجرى الأحداث.
وأدّت خاتمة فترة الحرب في عامي 1989 و 1990 إلى تفاقم وضع المالية العامة بشكل حاد. فأدّى انخفاض الإيرادات الضريبية إلى اعتماد الخزينة العامة ، بالإضافة إلى الديون، على أرباح مصرف لبنان التي يتمّ تحويلها إليه بموجب قانون النقد والتسليف. وبلغت حصة أرباح مصرف لبنان في تمويل الخزينة حوالى 62% من إيرادات الموازنة في عام 1989 و 38.5% من إيرادات الموازنة في عام 1990. ويبقى القول، إنّه في نهاية العام 1992 كان مجموع الدين العام الثابت المتوجب على الخزينة اللبنانية يعادل نحو 3 مليارات دولار أميركي، منه 327.5 مليون دولار أميركي والباقي بالليرة اللبنانية.
وباحتساب كلفة خدمة هذا الدين العام على أساس معدلات الفائدة السنوية المعتمدة لدى مصرف لبنان على مدى السنوات 1992 -2011 والمدفوعة من الخزينة اللبنانية، فإنّ تلك المبالغ المتوجبة في نهاية العام 1992، وبعد إضافة الفائدة المتجمعة على مدى كل سنة بين عامي 1992 و2011، بلغت 30 ألف مليار ليرة لبنانية. كذلك ارتفع الدين بالدولار الأميركي بفعل تراكم الفوائد على رصيد الدين العام، فيما كان قطاع الكهرباء يراكم سلفات بالدولار الأميركي وفوائد عليها، واستمرت الكهرباء بتسجيل عجز مالي سنوي بحوالى 2 مليار دولار وتتراكم عليها الفوائد…
وما أن انتظم عمل المالية العامة منذ عام 2003 حتى عام 2005، حتى عاد وتوقّف إقرار الموازنات من عام 2005 حتى عام2017 وتمّت استعادته بعدها بغياب نشر قطوعات الحسابات التي تعكس الأرقام الفعلية…
وبذلك يتبيّن تخطّي السلطات العامة لقانون النقد والتسليف والالتفاف على المادة 13 التي تقرّ باستقلالية المصرف المركزي المالية، ثم المواد 91 و 92 التي تؤكّد على إمكانية تمسّك المصرف المركزي بتفادي التمويل المباشر لعجوزات المالية العامة حتى “في ظروف استثنائية الخطورة او في حالات الضرورة القصوى، اذا ما ارتأت الحكومة الاستقراض من المصرف المركزي، تحيط حاكم المصرف علماً بذلك”.
يدرس المصرف مع الحكومة امكانية استبدال مساعدته بوسائل اخرى، كإصدار قرض داخلي او عقد قرض خارجي او اجراء توفيرات في بعض بنود النفقات الاخرى او ايجاد موارد ضرائب جديدة الخ…
وفقط في الحالة التي يثبت فيها انّه لا يوجد أي حل آخر، وإذا ما اصرّت الحكومة، مع ذلك، على طلبها، يمكن المصرف المركزي ان يمنح القرض المطلوب.
حينئذٍ يقترح المصرف على الحكومة، إن لزم الامر، التدابير التي من شأنها الحدّ مما قد يكون لقرضه من عواقب اقتصادية سيئة وخصوصاً الحدّ من تأثيره، في الوضع الذي أُعطي فيه، على قوة النقد الشرائية الداخلية والخارجية.
كذلك لا بدّ من التذكير بالمادة 113 لقانون النقد والتسليف، التي تنصّ على أنّه يتألف الربح الصافي لمصرف لبنان من فائض الواردات على النفقات العامة والأعباء والاستهلاكات وسائر المؤونات.
يقيّد 50% من هذا الربح الصافي في حساب المصرف المركزي، يُدعى “الاحتياط العام” ويدفع 50% إلى الخزينة. وعندما يبلغ الاحتياط العام نصف رأسمال المصرف يوزع الربح الصافي بنسبة 20 % للاحتياط العام و80 % للخزينة.
وإذا كانت نتيجة سنة من السنين عجزاً، تُغطّى الخسارة من الاحتياط العام. وعند عدم وجود هذا الاحتياط او عدم كفايته، تُغطّى الخسارة بدفعة موازية من الخزينة (وهو ما تمّ تجاهله كلياً من قِبل السلطات المعنية عند الحديث عن “فجوة مصرف لبنان” دون تحمّل أي مسؤولية بتغطيتها).
وإذا اصبح رصيد حساب “الاحتياط العام” من جراء اقتطاع مبلغ بموجب الفقرة السابقة، اقلّ من نصف الرأسمال، يجري توزيع الربح الصافي مجدداً بنسبة 50% لهذا الحساب و50% للخزينة، الى ان يبلغ الحساب مجدداً نصف الرأسمال.
تدور الاعتراضات التي تمّت صياغتها ضدّ الدولرة الشاملة حول 5 أنواع من الحجج: فقدان استقلالية السياسة النقدية، التخلّي عن سياسة سعر الصرف، اختفاء المقرض الملاذ الأخير، والحدّ من الأدوات المضادة للتقّلبات الاقتصادية الدورية.
وسط انهيار بهذا الشكل وتقلّص الاحتياطات بالدولار الى حدود 9 مليارات دولار ونصف، أي ما يغطي حتى 6 أشهر استيراد فقط، يجعل من الصعب ايجاد حلول مثالية. وأي مخرج ستكون له فوائده وتكاليفه، ولكن لا يمكن الاكتفاء بالشق النقدي لمصرف لبنان كلاعب وحيد، بل يحتاج لإصلاحات مواكبة.
د. سهام رزق الله
أستاذة مُحاضرة في كلية العلوم الاقتصادية لجامعة القديس يوسف