يشهد العالم عادةً ظهور أنظمة اقتصاديّة واندثار أخرى بحسب التغييرات السياسيّة، وقد يكون خصوم الأمس حلفاء الغد إذا ما وجدت الأطراف المصالح المشتركة. وهذا ما نشهده اليوم مع ارتفاع شأن مجموعة «البريكس» في الآونة الأخيرة، وخصوصًا «إعلاميًّا» في موازاة الحرب الروسيّة ـ الأوكرانيّة، وما يمثّله كِلا البلدين لقطبَي العالم الاقتصاديّ (الشرق-الغرب).
لذلك، أضحَت دول عدّة تبحث عن مكامن القوّة في التجمّع وإيجاد محور اقتصاديّ يحقّق لها توازنًا جديدًا، لا سيّما أنّ موسكو تفتّش عن طرائق لتخطّي العقوبات الاقتصاديّة الغربيّة مع دولٍ تشاركها الاهتمام عينه، ومراعاة لإبقاء العلاقات الديبلوماسيّة والاقتصاديّة المتينة معها.
إتّسَعت رقعة الأزمة الاقتصاديّة مع جائحة كوفيد-١٩، ومن بعدها الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة، وكان لبنان «سبّاقًا» لعدد من الدول في دخول دوّامة الأزمات مع انهيار منظومته الاقتصاديّة التي صمدت بعد الحرب اللبنانيّة، واستقرار ليرته نحو ربع قرن. لكن، لا نرى اليوم لبنان سبّاقًا ولا رائدًا في البحث عن تحالفاتٍ اقتصاديّة ذات أسس متينة ومستدامة، لاختلاف الظروف الديبلوماسيّة والداخليّة وتعقيدها بالمقارنة مع غيره من البلدان.
يشير اختصار «بريكس» إلى الحروف الأولى من أسماء خمس دول، هي: البرازيل، روسيا، الهند، والصين، وانضَمّت إليها جنوب إفريقيا لاحقًا في العام ٢٠١١. وقد اتّخذت مجموعة الـ «بريكس» شكّل مؤتمر ديبلوماسيّ متكامل، يَعقد قمّته مرّة واحدة سنويًّا، وتستضيفه إحدى الدول المؤسِّسة بالتناوب. ويهدف هذا المؤتمر أساساً الى تأكيد المكانة الرئيسيّة التي تتمتّع بها هذه البلدان على الساحة الدوليّة، وخصوصًا إبراز وزنها الاقتصاديّ والسياسيّ، وخاصة بالنسبة الى ما يتعلّق بالدول أو التكتّلات الأخرى مثل الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو الاتّحاد الأوروبيّ.
صاغَ هذا المصطلح أو الاختصار الاقتصاديّ البريطانيّ جيم أونيل للمرّة الأولى في العام ٢٠٠١. وتأتي أهميّة هذه البلدان في الاقتصاد العالميّ بسبب أسواقها المحلّية الكبيرة، التي توقّع لها أونيل علو شأنها وازدياد نموّها الاقتصاديّ السنويّ المُتسارع. وغَدا هذا التنبؤ أمرًا واقعًا، عندما أصبحت البريكس حقيقة اقتصاديّة وسياسيّة ملموسة في الساحة العالميّة.
لم يُقصد في بادئ الأمر من هذا المصطلح إضفاء أي صيغة مؤسّساتيّة، أو محاولة لأيّ تقارب اقتصاديّ كلّي، بل كان الهدف في المقام الأوّل، لفتَ انتباه المستثمرين إلى هذه الاقتصادات سريعة التحوّل والنموّ. لكن في العام ٢٠٠٩، ارتأت هذه الدول نفسها إلى تبنّي هذه التسميّة المختصرة، ومَنحتها شكلًا مؤسّساتيًّا للتنسيق بين الدول، مختلفًا تمامًا عن هيئات بريتون وودز (البنك الدوليّ، وصندوق النقد الدوليّ)، وكذلك الهيئات الاقتصاديّة التابعة للأمّم المتّحدة.
هكذا، ومنذ العام ٢٠١١، أصبحت مجموعة البريكس ذات صفة رسميّة دوليّة، وعلى الصعيد الاقتصاديّ، أنشأت مصرفًا للتنمية في العام ٢٠١٤، سُمّي بنك التنمية الجديد، ومقرّه في شنغهاي ـ الصين. وقد كانت أهمّ الموضوعات التي وضعت على سلّم أولويّاتها، مكافحة نظام الحماية الذي يفرضه بعض شركائها في مجموعة العشرين «G20»، أو إصلاح حوكمة صندوق النقد الدوليّ، ونظام النقد الدوليّ بوجهٍ عموماً، وجَعل أدوات الحوكمة العالميّة أوسع شمولًا وتشاركيّة، وأقوى نشاطًا وفعاليّة في عمليات صنع القرار العالميّة وهيكليّاتها بمساهمة أكبر من البلدان النامية. وقد تمكّنت هذه المجموعة من تشكيل جبهة مشتركة ضدّ بعض القيود البيئيّة التي قد تضرّ باقتصاداتها المستدامة على المدى البعيد.
كما أضحت دول البريكس عموماً واحدة من الهيئات التي تحمل قضيّة الاعتراف بتعدّد الأقطاب في التوازنات الاقتصاديّة والسياسيّة العالميّة الموروثة إلى زمننا الحاضر بعد الحرب العالميّة الثانية واتّفاقيّاتها. وإذا كانت السنين العشر الأوائل من القرن الحادي والعشرين هي فترة ظهور البريكس، فإنّ العقد الذي تلاها (٢٠١٠-٢٠١٩) كان عقد إضفاء الطابع المؤسّساتيّ عليها. إذ تعتزم هذه المجموعة غير المتجانسة فيما بينها التأثير على المصير الجيو- اقتصاديّ والجيو- سياسيّ للعالم.
إذا نظرنا إلى بعض الأرقام والاحصائيّات، سنجد أنّ هذه الدول الخمس يبلغ عدد سكانها الإجمالي ٣,٢ مليارات نسمة، أي ما يعادل ٤٢ ٪ من سكّان العالم. كما نجد أنّ مجموع ما أنتجته قد بلغ ثلث الثروة العالميّة في العام ٢٠١٨، ونحو ٢٥ ٪ من الناتج المحلّيّ الإجماليّ. علاوة على ما ذُكِر، تشكّل اقتصادات البريكس ٢٣ ٪ من الاقتصاد العالميّ، و١٨ ٪ من تجارة السلع، و٢٥ ٪ من الاستثمار الأجنبيّ. ومع ذلك، فإنّ أعضائها لا يملكون سوى ١٥ ٪ من حقّ التصويت في البنك الدوليّ، وصندوق النقد الدوليّ. لذلك، يمكن للتوسّع المحتمل لهذه الكتلة الاقتصاديّة الناشئة أن يزيد من نفوذها ووزنها الدوليّ في هيئات الحوكمة العالميّة.
ولا نجد أيّ تعتيم من قبل مجموعة البريكس على عملها، فمشروعها واضح، وهو تحدّي الهيمنة الغربيّة، وجعل مصالح هذه الاقتصادات الخمس أولويّاتها على حساب الاقتصادات الكبرى. وقد بدأ هذا الرهان بنجاح قبل تفشّي جائحة كوفيد-١٩، ويزداد استقطاب النظر إلى المجموعة في كلّ لقاء للدول العشرين في المنتديات العالميّة.
تتمتّع دول البريكس بمسارات اقتصاديّة مختلفة إلى حدٍّ بعيد فيما بينها، على سبيل المثال: لا يواجه الاقتصاد الريعيّ في روسيا التحديات نفسها التي يواجهها اقتصاد الصين الصناعيّ، أو الاقتصاد القائم على الخدمات في الهند. مع ذلك، تشترك بلدان البريكس الأربع الأولى في بعض الأمور، من بينها: العدد الكبير من السكان، والمساحات الشاسعة من الأراضي، إذ تمّ تصنيفها من بين أكبر عشرة بلدان وأكثرها اكتظاظًا بالسكان في العالم، والغِنى بالموارد الطبيعيّة المهمّة (المعادن، والطاقة، والغابات، والزراعة، ومصايد السمك…)، وظهور الطبقة الوسطى، ومعدّلات النموّ المرتفعة، والاندماج السريع في الاقتصاد العالميّ.
كما أنّ الاختلافات بين هذه البلدان لا تقلّ أهميّة عن نقاط التوافق. فهي تتأرجح بين الأنظمة السياسيّة الديمقراطيّة أو الاستبداديّة، كذلك تعرف بعضها تركيبة سكانيّة ديناميكيّة، في حين تواجه روسيا تدهورًا ديموغرافيًّا حادًّا. كذلك، فإنّ الأوضاع الاقتصاديّة شديدة الاختلاف من حيث قدرات البحث والابتكار، والثقل الصناعيّ غير المتكافئ بين هذه الدول.
لبعض الوقت، كانت دول البريكس، بما في ذلك روسيا والصين، تُناوِر لتحرير نفسها من الدولار الأميركيّ. ففي الآونة الأخيرة، قامت الصين بإضفاء الطابع الرسميّ على اتفاقيّتها مع البرازيل للتجارة بين الدولتين من دون استعمال الدولار الأميركيّ، ويمكن أن تتبلور هذه الرغبة في الاستقلال الماليّ عن طريق اعتماد عملة رقميّة على سبيل المثال.
في الفترة الأخيرة، أعربَت أكثر من اثنتي عشرة دولة، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة، وإيران، عن رغبتها الفعليّة بالانضمام إلى كتلة الاقتصادات الناشئة المكوّنة من هذه الدول الخمس، وتقدّمت بطلب رسميّ للانتساب إليها. كما أعربت دولًا أخرى عن اهتمامها بالانضمام، بما في ذلك الأرجنتين، والإمارات العربيّة المتّحدة، والجزائر، ومصر، والبحرين، وإندونيسيا.
ستحدّد مجموعة البريكس معايير جديدة للانتساب إليها، وستُقرر قبول الأعضاء المؤهّلين الجدد بحلول نهاية العام ٢٠٢٣. إذ يشهد نهج مجموعة بريكس في تقديم بديل لعالم أحادي القطب أهميّة متزايدة في ظلّ عالم متغيّر بطريقة تُقلِق كثيرين، ممّا يدفع بعض الدول إلى البحث عمّن يوافقها في النظرة والمصلحة الاقتصاديّة حول العالم.
يُعتقد أنّ توسيع تحالف الاقتصادات الناشئة أحد الأولويّات الرئيسيّة لتكتّل البريكس في هذه الأيّام، وأنّ عمليّة توسيع المجموعة جارية على قدمٍ وساق. وفي هذا السياق، شاركَ قادة من دول نامية عدّة، بما في ذلك المملكة العربيّة السعوديّة، ومصر، وإندونيسيا، والأرجنتين، ونيجيريا، والجزائر، وتايلاند، في مؤتمر افتراضي سُمّي «بريكس بلَس» في صيف العام ٢٠٢٢.
مؤخّرًا، توصّل أعضاء البريكس إلى توافق في الآراء بشأن عمليّة توسيع المجموعة، وقد تكون المملكة العربّية السعوديّة أوّل المنضَمّين، وخصوصًا مع إعطائها صفة «شريك حوار» في منظّمة شانغهاي للتعاون، وتلويحها بعدم استخدام الدولار الأميركيّ في بعض تعاملاتها، واعتراضها على أسعار النفط العالميّ، ودعم الرئيس الروسيّ لانضمام المملكة إلى البريكس، ويمكن تفسير هذه التفاصيل، على أنّها خطوات تمهيديّة لانضمامها الكامل إلى المجموعة.
إنّ مثل هذه الخطوة للرياض ستكون مُتّسقة مع طموحها لتعزيز مكانتها الدوليّة عندما تُصبح إلى حدٍّ ما «اللاعب المستقلّ» على المسرح العالميّ السياسيّ والاقتصاديّ. وهذا لا يعني بالطبع التخلّي عن شراكتها الاستراتيجيّة مع الولايات المتّحدة الأميركيّة، أو تأدية دور «عدم الانحياز»، بل زيادة استقلاليّتها عن واشنطن، وبالتالي قدرتها التفاوضيّة بتنويع شركائها الدوليّين. خصوصًا أنّ معظم الدول المهتمّة بالانضمام إلى مجموعة البريكس، هي بالفعل شريكة مميّزة لدى المملكة السعوديّة ويمكن اعتبار الدول الأخرى دولًا «مُعتدلة»، متوافقة مع تحالف الرياض الغربيّ. كما أنّه سيعزّز علاقاتها الاقتصاديّة مع دول الجنوب، التي أصبحت حلفاء للمملكة العربية السعوديّة بنحوٍ متزايد.
سيكون لصيغة بريكس «بلَاس» أيضًا ميزة إضافيّة، كونها أقل «مُعاداة للغرب» من منظمة شنغهاي للتعاون، التي تبدو وكأنها امتداد لمحور موسكو وبكين، ولها أبعاد سياسيّة أشدّ وضوحًا، حيث تتمتع إيران بالفعل بصفة «مراقب». لذلك، قد يتأجّل قرار المملكة في الانضمام استنادًا إلى الموقف من طهران، سواء العالميّ، أو المحلّي حيث تشهد العلاقات السعوديّة ـ الإيرانيّة تطوّرات جديدة بعد طول جفاء.
بالنسبة الى الصين وروسيا، تجدان في تَذبذب أداء الدولار الأميركيّ فرصة يمكن اقتناصها لتأكيد طموحهما في ظهور عالم ما بعد الغرب، حيث تضعف الولايات المتحدة الأميركيّة بشكل دائم، وينقسم الأوروبيّون في قراراتهم. سيقود هذا الطموح الصين وروسيا إلى إثبات أنّ اللعبة الاقتصاديّة ليست احتكارًا على الغرب وحده، ويمكنهم تأدية دورهم بالكامل كقوّة محوريّة منافسة لاقتصاد الدولار الأميركيّ في المقام الأوّل، واليورو في المقام الثاني، وذلك عن طريق توطيد العلاقات السياسيّة الاقتصاديّة الجديدة.
يبقى السؤال، أين لبنان في الساحة الاقتصاديّة العالميّة والإقليميّة؟ ألم يفكّر المسؤولون في ابتكار منظومات اقتصاديّة جديدة يخرج بها من أزمته؟ هل من خطّة واضحة مع دول الجوار للعمل معًا، بعيدًا عن التهريب والقفز فوق الأنظمة؟ واقعيًّا، نجد أنّ حتّى الدول التي تمتلك إمكانات اقتصاديّة كبيرة، وموقعًا استراتيجيًّا مهمًّا، تُعاني في إقناع الأطراف الاقتصاديّة الأكبر في البريكس بالانضمام إلى محورها، فكلٌّ يفكّر بما يعود عليه من نفع أوّلًا.
بعيدًا عن حلم الانضمام إلى المجموعات الاقتصاديّة الكبيرة، ما الذي يمكن أن يقدّمه لبنان ويشكّل إضافة لا يمكن الاستغناء أو التغاضي عنها في الاقتصادات الإقليميّة والعالميّة؟ قد تكون خبرة اللبنانيّين أنفسهم، وكفايتهم العلميّة في إدارة المشاريع وريادتها؟ لكن يجب أن تكون هذه القوى متجذّرة في البلد نفسه، وتستطيع تحسين قدرة لبنان على الاندماج في اقتصادات إقليميّة أوسع، لكي يكون لبنان لاعبًا اقتصاديًّا حاذقًا، ويتمكّن من الخروج من دوّامة الانهيار الاقتصاديّ.
ب. ندى ملاح البستاني