تطوّر تفسير مصطلح «الدولرة» منذ أوائل السبعينات. وكانت تعني في البداية «إستبدال العملة المحلّية، وهو المصطلح المستخدم لوصف الطلب على العملات الأجنبية» من قِبل الإقتصاديين المحلّيين. هذا ومعظم الدراسات في هذا الموضوع ركّزت حول تجارب دول أميركا اللاتينيّة في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
نظراً لتفضيل دول أميركا اللاتينيّة للدولار الأميركي، إستخدم مصطلح الدولرة لوصف التبنّي القانوني للدولار الأميركي بدل العملة المحليّة، وبالتالي من المهم التمييز بين نوعين من الدولرة: الدولرة الرسمية أو الكاملة والدولرة غير الرسميّة أو الجزئيّة.
في حال الدولرة الرسمية أو الكاملة، تتبنّى السلطات النقديّة الدولار الأميركي كعملة قانونيّة لجميع المعاملات، كما يتولّى الدولار الاميركي وظائف العملة المحليّة كوحدة حساب ووسيط تبادل وتخزين للقيمة. وباستخدام الأصول المقوّمة بالعملة الأجنبيّة يحاول السكّان المحلّيّون تجنّب التأثير السلبي لعدم استقرار الإقتصاد الكلّي والتضخّم وانخفاض قيمة العملة. في هذه الحالات تبدو المخاطر والعائدات متغيّرات مهمّة في الطلب على العملات الاجنبيّة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من الأفضل لنا ان نتجّه نحو الدولرة الكاملة في ظلّ غياب كلّي لمؤسّسات الدولة وانهيار الكيان، وفي ظلّ رفض بعضهم الإلتزام بمقرّرات صندوق النقد الدولي لأسباب باتت معروفة للجميع، والتي على ما يبدو تتعارض مع مصالحهم الشخصيّة والحزبيّة؟
تبدو الدولرة الكاملة إجراءً راديكالياً كونه يعني الانتقال من الدولرة غير الرسميّة والمحدودة إلى الاستخدام الكامل والرسمي للعملة الأجنبية (الدولار الأميركي في وضعنا) في جميع المعاملات. والدولرة هي ردّة فعل لعدم استقرار اقتصادي وارتفاع معدّل التضخّم ورغبة المعنيّين في تنويع أصولهم وحمايتها من مخاطر انخفاض قيمة العملة الوطنيّة. ويعتبر الترجيح بين مزايا وعيوب الدولرة الكاملة أمراً معقّداً للغاية، وذلك لعدم وجود تجارب تاريخيّة فعليّة في هذا المجال. كذلك يجب أن تكون فترات التجربة طويلة نسبيّاً حتى يتسنّى تقييم الخيارات النقديّة وخيارات سعر الصرف، والسبب في ذلك أنّ نظام الدولرة نظام يكاد يكون دائماً، كما أنّ بعض مزاياه لا يمكن أن تتحقّق إلّا على المدى الطويل. والأكيد الأكيد من هذه العمليّة أنّ البلد الذي يعتمد الدولرة يحصل على أسعار فوائد أقل على قروضه الخارجيّة نتيجة لقضائه التّام على مخاطر تخفيض قيمة العملة. هذا وفي ظلّ الدولرة تختفي علاوة المخاطر الناتجة من إحتمال تخفيض سعر العملة ولكن علاوة المخاطر السياديّة تبقى قائمة. وهنالك حجّة قويّة أخرى مساندة للدولرة وإن كانت تتعلّق بالمدى الأبعد وهي أنّ الدولرة القانونيّة الكاملة تجعل تحقيق التكامل الإقتصادي مع بقيّة العالم أكثر سهولة وتزداد صعوبة إنعزال النظام المالي المحلّي عن بقيّة العالم، خصوصاً انّها تعتبر تغييراً مؤسّسيّاً لا رجعة فيه للوصول الى معدّل تضخّم منخفض وإرساء المسؤوليّة عن الماليّة العامّة وتحقيق الشفافية.
ولمزيد من التوضيح ورغم ما تحقّقه الدولرة الكاملة من إبعاد النظام المصرفي عن مخاطر تخفيض قيمة العملة، فهي لا تستأصل أسباب الأزمات المصرفيّة من جذورها وعند وقوع هذه الأزمات من المرجّح أن تقف الدولرة الكاملة عقبة أمام أداء البلد المعني لوظيفة المقرض الأخير وتعوق البنك المركزي عن إصدار ردّ الفعل المطلوب تجاه الطوارئ الذي يتعرّض لها النظام المالي، لاسيّما وأنّه وفي حال فقدان الثقة تعجز السلطات عن توفير الضمان اللازم لنظام المدفوعات برمّته أو دعم الودائع المصرفيّة بالكامل.
لذلك ورغم مزاياها في تفادي أزمات عملة وميزان مدفوعات ومزيد من الإندماج في الاقتصاد العالمي، إلّا أنّه من المرجّح أن تتردّد البلدان في التخلّي عن عملتها الوطنيّة باعتبارها رمزاً قوميّاً. وهذا ليس بالشيء الغريب، فإنّ انكلترا رفضت رفضاً قاطعاً أن تتخلّى عن الباوند لمصلحة اليورو، وأبقت عليه على حساب منافع الإندماج كلّها.
كذلك من الناحية الإقتصاديّة، فإنّ حقّ البلد في إصدار عملته الوطنيّة يدرّ عليه عائدات من رسوم الإصدار تعدّ بمثابة أرباح يحوّلها البنك المركزي إلى الحكومة.
وفي النهاية، قد يصعب تقدير المزايا والعيوب التي تنتج من الدولرة الكاملة نتيجة الإفتقار للمعرفة الكاملة. لكن يبقى القول إنّ الدولرة الكاملة تعطي عامل ثقة لا مفرّ منه في دول فقدت صدقيّتها مع المجتمع الدولي، وصنّفت من أكثر الدول مديونيّة وفساداً، وانهارت فيها جميع المؤسّسات والمقاييس. ولكن ذلك قد لا يتمّ، لاسيّما وأنّ القطاع المصرفي بحاجة إلى إعادة هيكلة كاملة وبنك مركزي يستعيد دوره في إدارة الأزمات الماليّة لا أن يبقى مركز صرافة وتعاميم عمياء، هدفها الوحيد القضاء على ودائع المواطنين بشكل أو بآخر.
وللذي قال أننا ذاهبون إلى جهنّم، هذا هو الواقع. أمّا الخروج من جهنّم فيبقى بحاجة إلى اقتصاديين يضعون خطّة تعافٍ تعيد لهذا البلد عافيته وثقة المجتمع الدولي به.
ب. غريتا صعب.