في ظل تسيد الدولار الأمريكي للمعاملات المالية الدولية، تحاول الصين بشتى الطرق تقويض هذه الهيمنة التي استمرت لعشرات السنين، وسلاحها الأهم لمواجهة هيمنة العملة الأمريكية هو اليوان الصيني التي تزداد قوة بمرور الوقت.
كانت حكومة الرئيس شي جين بينغ مشغولة بإبرام صفقات خلال العام الماضي لتوسيع الطرق التي يتم بها استخدام العملة المحلية الصيني، وذلك عبر اتفاقيات جديدة مرتبطة بالرنمينبي تمتد من روسيا والمملكة العربية السعودية إلى البرازيل وحتى فرنسا.
وبينما يظل الدولار الأمريكي في موقعه كعملة مهيمنة على المعاملات المالية الدولية، فإن هذه التحركات تساعد الصين على إيجاد مكان أكبر لنفسها في النظام المالي الدولي. حيث إنها تأتي في وقت تتزايد فيه التوترات الجيوسياسية وتصبح التجارة العالمية ساحة معركة أكثر نشاطًا من أي وقت مضى.
اندلعت حالة العداء بين العملاقين الاقتصاديين حول قضايا تتراوح من التجارة وتايوان وصولاً إلى “تيك توك”. حيث كشفت العقوبات الصارمة على روسيا عن استعداد الولايات المتحدة لتسليح الدولار. إذ تسببت هذه العوامل في تعزيز مكانة اليوان الصيني خلال العام الماضي أكثر مما حققته حكومة شي في العقد السابق.
وقال أدريان زورشر، رئيس وحدة توزيع الأصول العالمية والرئيس المشارك لوحدة إدارة الاستثمار العالمي لمنطقة آسيا والمحيط الهادئ في مكتب “يو بي إس غلوبال ويلث مانجمنت” في هونغ كونغ: “تعمل البلاد على إظهار أن هناك عالم بديل وراء عالم الولايات المتحدة والغرب، وتبعث بإشارة قوية للغاية للولايات المتحدة الأميركية بالقول بصفة أساسية أننا لا نحتاج إليك ولا نحتاج للدولار الأميركي”.
ويتزايد استعمال الرنمينبي في إبرام عقود كافة الأشياء مثل النفط والنيكل، إذ تضاعف نصيب العملة من حجم تمويل التجارة العالمية 3 مرات منذ نهاية 2019. ما يزال يشكل هذا جزءاً بسيطاً من المعاملات العالمية، وما زالت السلطات الصينية تحكم قبضتها على سعر صرف العملة بشدة. لكن عقوبات وقعت موسكو في فخها إثر غزوها لأوكرانيا عزز هذا المعدل. فقد زاد استخدام اليوان بالنسبة لمدفوعات التصدير الروسية 32 ضعفاً السنة الماضية وحدها.
تعزيز مكانة العملة الصينية
اتخذ شي، الذي يشرع في عقده الثاني مع جمهورية الصين الشعبية، خطوات لتعزيز سمعة البلاد في الخارج، حتى في الوقت الذي يركز فيه على تنفيذ الإصلاحات وتعزيز النمو في الداخل. كانت أولى رحلاته الأجنبية بعد رفع الإغلاق لموردي الطاقة الرئيسيين المملكة العربية السعودية وروسيا.
كما شهدت زيارتا الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا والفرنسي إيمانويل ماكرون لبكين توقيع مجموعة اتفاقيات تجارية حديثة. وأسهمت الصين بدور محوري في جهود الوساطة للتقارب الإيراني السعودي.
ومع ذلك، مع الولايات المتحدة، تضاعفت بؤر التوتر – من الخلافات حول بالونات التجسس إلى تكنولوجيا أشباه الموصلات.
خارج نظام المدفوعات الدولي المركزي المعروف باسم SWIFT، تبنت روسيا اليوان للتجارة والمدخرات الخاصة ومعاملات الصرف الأجنبي. وطورت الصين منصة المدفوعات الدولية الخاصة بها – CIPS – المنفصلة تمامًا عن SWIFT، والتي تم تبنيها ليس فقط من قبل المؤسسات في روسيا، ولكن أيضًا من قبل البنوك التي تعمل في أماكن مثل البرازيل.
قال فيكتور جاو، الأستاذ في جامعة سوشو ونائب رئيس مركز الأبحاث للصين والعولمة: “إن استعداد الصين للحفاظ على النمو مع تمهيد مسارات جديدة يفسح المجال للدول الأخرى للحصول على ثقة أكبر لاستخدام اليوان، وإذا أرادت الولايات المتحدة الأميركية إثارة المتاعب، فستكون الصين بحاجة لتعديلات ضرورية لمواجهة التحديات”.
روسيا والتوسع في استخدام اليوان بدلاً من الدولار
شرعت روسيا وغيرها من الدول أيضاً في استعمال اليوان بالمعاملات التي لا تعد الصين طرفاً فيها. اتفقت بنغلاديش، مثلاً، مع روسيا الشهر الماضي على تسوية دفعة تبلغ 300 مليون دولار مرتبطة بتشييد محطة نووية قرب دكا بالرنمينبي، بحسب مسؤولين مطلعين على الموضوع.
شكلت مدخرات اليوان 11٪ من إجمالي الودائع الروسية اعتبارًا من يناير، مقارنة بأي منها تقريبًا قبل الحرب، وحل اليوان محل الدولار واليورو كأكثر العملات تداولًا من سان بطرسبرج إلى فلاديفوستوك.
بدأت روسيا وغيرها أيضًا في استخدام اليوان في المعاملات التي لا تشمل الصين. بنجلاديش، على سبيل المثال، اتفقت مع روسيا الشهر الماضي على تسوية دفعة قدرها 300 مليون دولار تتعلق ببناء محطة نووية بالقرب من دكا بالرنمينبي الصيني، وفقًا لوكالة بلومبرغ.
هذا ما يعرقل اليوان
يعرقل الافتقار لوجود أسواق حرة راسخة رغبة الصين فعلاً في أن تأخذ مكانة الدولار الأميركي أو اليورو كعملة عالمية مختارة.
وأكد جيم أونيل، كبير خبراء الاقتصاد السابق في مصرف “غولدمان ساسكس غروب” الذي وضع مصطلح “بريكس” (BRICs) منذ ما يفوق عقدين لتوصيف ما كان يعد بذلك الوقت أكبر 4 قوى بالأسواق الناشئة قادرة على تحدي النظام الاقتصادي الراهن أنه لا يمكن أن يصبح اليوان عملية دولية بالكامل “ما لم توفر الصين حرية أكبر لتدوال العملة والاستثمار الداخلي بالإضافة للاستثمار بالخارج.
ويقول تشين شينغدونغ، رئيس وحدة بحوث الأسواق العالمية في الصين لدى “بي إن بي باربيا” إن “هناك طريقاً طويلاً أمام الصين لتقطعه قبل تعزيز نفوذها العالمي”.
ويقول زورشر من “يو بي إس” إن “هناك أموالاً كثيرة محتشدة تستعد للخروج من الصين، وربما يوجد قدر من الأموال الخارجية يحتشد للعودة إليها، وما زالت السيطرة على تدفقات رأس المال مسألة مهمة للغاية”.
اليوان يتجاوز الدولار
رغم ذلك، بالنسبة لمن هم داخل الصين نفسها، فإن استعمال اليوان في المعاملات الدولية قد تجاوز الدولار بالآونة الأخيرة، بحسب بحث أجرته “بلومبرغ إنتليجنس” يقوم على بيانات إدارة الدولة للنقد الأجنبي.
وصلت حصة العملة المحلية من المدفوعات والإيصالات العابرة للحدود مستوى قياسياً مسجلة 48% نهاية مارس الماضي، بالمقارنة مع لا شئ تقريباً خلال 2010، في حين هبط نصيب الدولار الأميركي إلى 47%.
حتى مع بقاء هيمنة الدولار مترسخة نوعاً ما على مدى أعوام مقبلة، يتكهن بعض المراقبين بأن الدولار يتجه صوب تراجع طويل الأمد. ربما تكون الوقائع تبث الحياة في استعمال اليوان بالوقت الراهن ليكون مساهماً أساسياً بنهاية الأمر.
وتقول إستر لو، كبيرة مديري الثروة في “أموندي” (Amundi) إن تداعيات الحرب الروسية جعلت البلدان الأخرى يساروها القلق إزاء مخاطر حملة العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية. كما تتوقع أن يواصل اليوان الصعود في ظل الخوف من العقوبات التي تتزعمها واشنطن وضمن جانب “عملي” من دور الصين المتزايد بوصفها جهة إقراض. Investing