يترقب العالم هذا الشهر المفاوضات في الولايات المتحدة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري حول رفع سقف ديون الحكومة الأميركية. ويطالب الرئيس بايدن برفع الحد الأعلى لديون الحكومة دون أي شروط، بينما يطالب الطرف الآخر بخفض الإنفاق لكيلا تغوص الحكومة في مزيد من الديون. وفي حال لم تصل هذا المفاوضات إلى حل، فإن الولايات المتحدة، وبحسب تصريح وزير الخزانة الأميركية، لن تتمكن من سداد الديون المستحقة عليها في بداية الشهر القادم، أي بعد أقل من أسبوعين. فكيف وصلت أميركا إلى هذا الموقف؟ وما هو سقف الديون الذي أصبح أداة ضغط بين الحزبين السياسيين؟
يهدف نظام سقف الديون إلى الحد من الإنفاق الحكومي المبالغ فيه، والحكومات عادة ما تنفق من الضرائب أو من السلع التي تصدّرها، وتقترض في حال كانت الحاجة إلى الإنفاق أكثر من الدخل، ولكن هذا الاقتراض قد يوقعها في دوامات اقتصادية تعاني منها الأجيال القادمة. وصراع الاقتراض يبدو وكأنه صراع للأجيال، فالجيل الحالي يرى ضرورة الاقتراض للنمو وزيادة الإنفاق العام الذي قد يستفيد منه الجيل الحالي والقادم، أما الأجيال القادمة فسترى أنها ورثت ديونا ضخمة لا سبيل لسدادها إلا بزيادة الضرائب التي ستؤدي إلى انخفاض رفاهها المعيشي. وتطبق عدد من الدول نظام سقف الديون لحماية الأجيال القادمة من الأعباء الضريبية التي تسببها كثرة الديون، ولعل الدنمارك إحدى أشهر هذه الدول، رغم أن هذا النظام لم يسبق له أن سبب أي مشاكل هناك. كما يطلب الاتحاد الأوروبي من دوله ألا تتجاوز ديونها 60 في المائة من الناتج القومي، رغم أن الجائحة سمحت ببعض التجاوزات في إصدار السندات لتغذية حزم المساعدات التي أعلنتها الدول. وفي كل الأحوال فإن قرار سقف الديون هو قرار اقتصادي بحت، تحتمه الأوضاع الاقتصادية واستراتيجيات الدول التي قد ترى فرصا اقتصادية لا يمكن استثمارها إلا من خلال الديون.
أما الولايات المتحدة فالوضع مختلف، فتدريجيا أصبح سقف الديون لعبة سياسية بين الحزبين وقد تكاد تكون الدولة الوحيدة في العالم في هذا الأمر. وقد أقرت أميركا نظام سقف الديون عام 1939، حينها كانت الديون لا تتجاوز 870 مليار دولار، وكان السقف أعلى من هذه الديون بنسبة 10 في المائة. ولكن الأرقام التي تلت هذا الرقم مخيفة جدا وقد لا توجد في دول متقدمة في العالم إلا في الولايات المتحدة. فمنذ 1960، رفع الكونغرس الأميركي سقف ديون الحكومة 78 مرة، أي بمعدل أكثر من مرة سنويا، وزادت ديون الحكومة الأميركية بشكل متسارع. وهذه بعض الحقائق عن ديون الحكومة الأميركية خلال العقود الثلاثة الماضية. فقد وصلت الديون إلى 73 في المائة من الناتج القومي عام 1998، وزادت إلى 93 في المائة عام 2017، وبحسب صندوق النقد الدولي، فقد وصلت هذه النسبة إلى 128 في المائة عام 2021. ومنذ عام 2009، تضاعف الدين العام للولايات المتحدة 3 مرات. ووصلت ديون الولايات المتحدة (بعد أن كانت 870 مليار عام 1939) إلى نحو 31 تريليون دولار في يناير (كانون الثاني) 2023.
هذه الزيادة المرعبة في الديون خلال السنوات الأخيرة جعلت البعض يبدأ في التشكيك في قدرة الولايات المتحدة على الإيفاء بالتزاماتها، وهو تشكيك كان يدعو للضحك لو طرح قبل عقد أو عقدين. وما يعزز هذا التشكيك أن الفجوة بين الحزبين الأميركيين تتسع مع الزمن. وتاريخيا فإن الرؤساء الجمهوريين هم أكثر من رفع سقف الديون (49 مرة) منذ 1960، بينما كان الديمقراطيون وراء 29 زيادة. هذه الأرقام بدأت بالانتشار الآن مدعومة بالصراع بين الحزبين والذي جعل سقف الديون أشبه باللعبة التي يحاول الحزبان التنافس فيها.
ولكن الحكومة إن لم تتوصل إلى اتفاق خلال الأيام القادمة فالنتائج وخيمة، بل إن التأخر في الوصول إلى اتفاق له نتائجه كذلك، كما حدث في عهد أوباما عام 2011 حين كان الاتفاق قبل يومين فقط من التاريخ الذي حددت فيه وزارة الخزانة نفاد الأموال، وعانت الأسواق المالية حينها من تقلبات رهيبة في فترة ما قبل الاتفاق، وزادت تكلفة الاقتراض بنحو 1.3 مليار دولار بسبب التأخر في الوصول إلى اتفاق. أما نتائج عدم الوصول إلى اتفاق فهي تتجاوز الولايات المتحدة إلى العالم بأكمله وتحتاج إلى تفصيل في مقال منفرد.
د. عبدالله الردادي