لا شك في أنّ أولوية الشعب اللبناني أصبحت اليوم سعر الصرف، ومستقبل الودائع، ومنصّة صيرفة، والتي أصبحت المحرّك الأساسي للسوق المحلية، ومحاولة تكوين مدّخرات جديدة، بالدولار الفريش، وتخبئتها مثل أجدادنا، تحت البلاطة، أو في عمق الشجرة، وتحت السجادة. أما العالم من حولنا، فقد تغيّر ويتحوّل من اقتصاد مالي ونقدي إلى اقتصاد رقمي وتكنولوجي.
إذا نظرنا إلى خارج الحدود، نرى أنّ أيّ مودع في العالم، إذا حاولَ سحب أو طلب أي عملات ورقية نقداً، يخضع لمساءلات عدة، وحتى لتدقيق عن سببب وكيفية استعمال هذه العملات الورقية. أما في أوروبا، فهناك تقييد في كل السحوبات النقدية، والتي من المستحيل أن تتعدى الألف أورو، وعلى كل مودع أن يُبرهِن بدقة سبب طلب أي عملة ورقية وتفاصيل صرفها.
أما في بعض المصارف الدولية الأخرى، فقد بات ممنوعاً أي سحب بالأوراق النقدية، وقد بدأ التحوّل رويداً رويداً من الاقتصاد النقدي، إلى اقتصاد رقمي، ومن العملات الورقية إلى العملات الرقمية والمشفّرة، التي تُصدرها المصارف المركزية. فبدأت الحرب العلنية على العملات الورقية وتزداد يوماً بعد يوم، حتى إزالتها نهائياً، إلاّ في البلدان المتخلّفة، وبأيادي المافيات السوداء.
هناك أسباب عدة لهذا التحويل المعتمد والمبرمج من خلال استراتيجية وخطط مدروسة بدقة:
أولاً: إن الهدف الظاهر من إصدار العملات الرقمية، وتخفيف استعمال العملات الورقية، هو أساساً لمواجهة تبييض الأموال، وتمويل الإرهاب، والمخدّرات ومواجهة الفساد… باعتبار أنه من الصعوبة ضبط استعمال العملات الورقية وخصوصاً بعد طباعتها بطريقة مكثفة خلال السنوات الاخيرة في ظل «كوفيد19». فالخطة الراهنة هي سحبها من السوق، لمنع تضخُّم مفرط واستبدالها بعملات رقمية تمكن إدارتها وملاحقتها بطريقة أسرع وأمكَن وأدق.
ثانياً: إن تحويل اقتصاد العالم وعملاته إلى اقتصاد رقمي، يُفسح في المجال لكل المصارف المركزية التابعة لوزارات المالية أن تفرض في أي وقت كان، مقايضة على استعمال العملات وحتى الودائع، عندما تشاء، وتقر حتى بطريقة دقيقة «الكابيتال كونترول» عندما تشاء، وتراقب استعمال كل سنت، سنتاً سنتاً، للأفراد والشركات وغيرها.
ثالثاً: إن تحويل العالم إلى العملات الرقمية والمشفّرة سيحجب نهائياً قسماً كبيراً من الحريات والخصوصيات، وسيُفسح في المجال أمام تدقيق داخلي ومعرفة تفاصيل الإستهلاك من أبسط الأمور البديهية والأساسية مثل الطعام والشراب، وأيضاً استعمال الوقود، والصرف على الكماليات والرفاهية، والسهر وغيرها، فتزول نهائياً كل الخصوصيات الشخصية، فتُنتهك الحريات الشخصية.
رابعاً: إن نظام العملات الرقمية سيتواكَب مع إعادة هيكلة النظام الضريبي أيضاً، الذي يُمكن أن يتماشى حسب الصرف وكيفيته، وحسب الأشخاص، والمؤسسات، واستهلاكها واستثماراتها.
في المحصّلة، إننا نتلهَّى في لبنان بمشاكلنا الداخلية الضيّقة، وبوحول السياسة المتحركة ونتجاهَل التغيرات الدولية، وإعادة هيكلة الإقتصاد والنقد والمال العالمي، والحرب الشرسة والمخطّط لإزالة العملات النقدية، فهناك خطر ليس على مُدّخراتنا القديمة، المهدورة والمسروقة، لكن أيضاً على تلك الجديدة المختبئة، والتي يُمكن أن تزول صلاحيتها، إذا لم تُستثمَر أو من دون قطاع مصرفي جديد ومتين. فعلينا ملاحقة هذه التغيرات العميقة، واستثمار أي مدّخرات جديدة كأجدادنا بالذهب والمعادن والعقارات لحمايتها قبل فوات الأوان، وعبور القطار.
د. فؤاد زمكحل